رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
الفكر الاستراتيجي القطري أدرك طبيعة التحولات وحتمية تفجر الثورات..
قطر سعت لصياغة مشروع عربي وتأطير الثورات من خلال الأدوات المتاحة..
قناة الجزيرة الإخبارية أنجح مشروع وحدوي عربي يلبي الطموح الشعبي..
الثورات قادرة على إعادة إنتاج نفسها وستأخذ أشكالا متعددة ومختلفة في التعاطي..
عند الحديث عن الدور القطري الإقليمي أو العالمي وصراع الأجندات والمشاريع في المنطقة تحضرني قصة لعراب كبير في الشرق الأوسط هو الملك حسين بن طلال رحمه الله تصلح لأن تدرس في كليات العلوم السياسية ومراكز صناعة القرار في كيفية إدارة الصراع لاسيَّما أن سياسات الراحل الكبير لعبت دورا حاسما في مرحلة دقيقة من حياة الأمة العربية وأسهمت بشكل كبير جدا في الاستقرار النسبي الذي يعيشه الأردن حاليا وسط محيطه الملتهب.
كان الراحل الكبير الملك حسين بن طلال رحمه لله كمفكر استراتيجي يحاول المحافظة على آخر موئل هاشمي في آسيا العربية وكان يدرك أن الوجود الأردني وديمومة العرش يتوقف على إعادة ترتيب الوضع الإقليمي للأردن على أساس توظيف عبقرية الجغرافيا لجعله منطقة سلام عازلة ونقطة ارتكاز أمنية يؤدي دورا جديدا يمكنه من الانفتاح على العالم العربي والغربي الذي أغلق بوجهه بعد الاصطفاف السياسي الذي حصل في حرب الخليج الثانية. ولقد كانت أكبر معضلة يواجهها النظام في ذلك الوقت هو الرأي العام الأردني الذي يرفض بغالبيته المطلقة السلام مع العدو التاريخي للأمتين العربية والإسلامية (إسرائيل).
إزاء المعطيات أعلاه جمع الملك حسين رحمه الله نخبة من جهابذة السياسة الأردنية وتحدث إليهم عما آلت إليه الأوضاع في المنطقة والتحديات التي تواجه الوجود الأردني وما جرى من إضعاف المصالح الإستراتيجية والموقف التفاوضي الأردني بعد توقيع ياسر عرفات رحمه الله اتفاقية أوسلو وورود معلومات مؤكدة للجانب الأردني عن توصل الجانب السوري لاتفاق نهائي مع إسرائيل سمي (بوديعة رابين) أنكرها نظام الأسد ثم عاد للمطالبة بها باعتبارها وثيقة السلام بين الدولة الإسرائيلية والسورية وبالنتيجة فلقد خرج هذا الاجتماع الذي حدد مستقبل الأردن وأثر في السياسات الإقليمية بالنتيجة التالية:
«الجميع من وإلى الأردن ويعمل تحت مظلة الملك حيث يتم إنشاء تيارين الأول يدعم السلام والثاني يعارضه فإذا نجحت عملية المفاوضات وأفضت إلى نتيجة تقدم التيار الذي كان يدعم عملية السلام لاستلام مفاصل الدولة السيادية وفي حال فشلت عملية المفاوضات يتقدم التيار الذي كان يعارض السلام لاستلام مفاصل الدولة السيادية على أن يقوم هذا التيار باحتواء الشارع فيما لو نجحت المفاوضات ويقوم بقيادته بعيدا عن الفوضى والعنف» وهذا بالضبط ما جرى داخل الأردن.
قياسا على الدرس الأردني لا أعتقد أن الوضع العربي يختلف كثيرا هذه الأيام مع فارق هائل جدا ذلك أن النجاح الذي صادفه النظام الأردني في هذا التكتيك الذي خدم الهدف والمصالح الإستراتيجية الأردنية العليا يقابله فشل عربي ذريع في إدارة الصراع في المنطقة لأن السياسات والتحالفات المستحدثة كانت ولا تزال مبنية على اتجاه واحد في التفكير وبقيت السياسات مبنية على أساس تقليدي يقوم على الاستقطاب وثنائياته المفلسة لا عمليات المواءمة والاحتواء.
ما استطاع المفكر الاستراتيجي الأردني التقاطه وسابق الزمن في ضمان مستقبل الوجود الأردني على أساسه استطاع المفكر الاستراتيجي القطري التقاطه بشأن الوضع والمستقبل العربي وكان الوحيد الذي وجه ووظف سياساته بهذا الاتجاه وهنا نقول إن هذا المقال ليس دعوة لتفهم السياسة القطرية بقدر ما هو دعوة للاستفادة من هذه السياسة وأدواتها في تحقيق الأهداف الإستراتيجية العربية والانفتاح بشكل أكبر والتعامل بتنسيق وتفهم أفضل مع الإمكانات القطرية الكبيرة والمؤثرة في العالم العربي.
فأسوأ ما قيل عن الربيع العربي إنه نتاج مؤامرة دولية لأن عقلية المؤامرة ونمط التفكير الذي بنى العقلية العربية في هذا الاتجاه هو أصلا أحد مشاكل العقل العربي العميقة وهذه العقلية عندما تعجز عن التفكير والتحليل فإنها تضيف الظواهر أو النتائج الطبيعية للأحداث التي عجزت عن تحليلها للقوة الخارقة أو تحميل وزرها للخرافة وللعدو الخارجي الغامض لكنها لا تعمد للتحليل العلمي الموضوعي ولا تبني تصوراتها وسلوكها على حقائق نظرية المصالح الدولية ونقد الذات ولا يقف هذا العقل في لحظة صدق ليقرر أن هنالك أساسا موضوعيا للقيام بهذه الثورات والتي جرى حرفها عن مسارها بالعنف من قبل الجهات التي كانت ولا تزال مرعوبة من طرق الربيع العربي لأبوابها.
لنعد للماضي قليلا.. ثلاثة آثار إستراتيجية نشأت عن حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت من نظام البعث العراقي وكل ما جرى في المنطقة العربية من احتلال العراق وصولا إلى الربيع العربي كان نتيجة حتمية لهذه الحرب، أولها سقوط نظرية القومية العربية فالتضامن العربي، وثانيا سقوط نظرية الحدود الآمنة الإسرائيلية التي دفعت باتجاه عملية السلام، وثالثها السقوط العقائدي لمعاقل المعسكر الشرقي في المنطقة الذي دفع باتجاه الحلول الإستراتيجية لنظرية الفوضى الخلاقة (كنظرية اقتصادية وجدت تطبيقاتها بالعولمة) وصولا لنظرية الفوضى تحت السيطرة (كنظرية أمنية خرجت عن السيطرة) والتي نعيشها الآن وهذه النظريات تقع في صميم معادلات المصالح الدولية لا خرافات المؤامرة.
قدرة المحلل القطري الاستراتيجي على التقاط اللحظة واستيعابه لحجم التحولات الجوهرية التي طرأت على المجتمعات العربية عموما وعلى جيل الشباب خصوصا والذي مل من حالة الهزيمة والتخلف والتراجع العربي وتأخرنا عن ركب الحضارة ووجودنا على الهامش في حركة التاريخ وعدم قدرتنا على تقديم أي إثراء نوعي للحضارة البشرية وتغير أدوات المعرفة والمفاهيم لحالة الشرعية وانتقالها من الدستورية أو الصندوق لفكرة ومشروعية الإنجاز وتاريخ مؤلم من استبداد وفساد وجهل وفقر وانتشار لأدوات معرفة مختلفة وتأثر الجيل الشاب بحضارات أكثر إنسانية كانت ولا تزال أسبابا جوهرية تدفع الجيل الشاب للثورات وللدفاع عنها وتبريرها أو تجديدها ونشر قيمها وأفكارها.
الفرق ما بين المفكر الاستراتيجي القطري وغيره أنه كان يدرك طبيعة هذه التحولات وحتمية تفجر الثورات والتغيرات القادمة على المنطقة فكان الوحيد الذي سعى إلى محاولة صياغة مشروع عربي وتأطير هذه الثورات من خلال الأدوات المتاحة لعدم إساءة مركز البلدان التي نشأت أو استقرت أو مرت عليها هذه الثورات أو التي ستنتهي إليها ولو كانت ملكية لا جمهورية لأنه ببساطة (لا حصانة لأحد) فاستخدم أسلوبا عجيبا في التعاطي مع حالة الوعي العربي الجمعي التي تساهم في صياغتها خصوصا لدى الشباب وحاول إنجاح فكرة الثورات المدنية بأقل الخسائر من خلال عمليات التعبئة والتنفيذ الجماهيري رغم أن نظام الحكم القطري هو وراثي بطبيعته، فالعبقرية القطرية أعلاه تجلت في مرتكزين أساسيين الأول هو إعلام قوي (قناة الجزيرة الفضائية) والثاني هو تأييدها لنبض الشعوب المسلمة ومن هنا كانت الأفضلية القطرية في العالم العربي وستبقى لسنوات قادمة.
قناة الجزيرة الإخبارية لابد من الاعتراف بأنها أنجح مشروع وحدوي عربي يلبي الطموح الشعبي رغم أنها كانت ولا تزال مصدر أخبار مزعجا لمعظم الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية وحتى الأجنبية - إلا من رحم ربي – أما العجيب في الموضوع أن نفس الجهات التي تبدي انزعاجها أو اعتراضها على قناة الجزيرة الإخبارية تعتبرها أحد أهم مصادر الحصول على المعلومة في العالم العربي، وهذا المشروع العربي النهضوي الذي استطاع تغيير المفاهيم وتقديم الخبر وكسر حاجز الصمت وقيود التعتيم وإخراج الشعوب من حالة المفعول به لحالة الفاعل هو إنتاج قطري بغض النظر عما يقال أو سيقال عنه. أما الامتداد الفعلي الميداني الجماهيري على الأرض فقد كان ومازال قطري التأثير بيد أضخم وأكبر تنظيم عربي إسلامي وهو جماعة الإخوان المسلمين وقد قدم نموذجا عز نظيره في تونس حول مبدأ تداول السلطة والذي نأمل أن يكتب لهذا المبدأ النجاح والترسيخ في الحواضر العربية بشكل ديمقراطي مدني سلمي كخيار وبديل شعبي حقيقي بدلا عن حالة العنف بحيث تؤمن به الدولة قبل الفرد لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن العلاقة القطرية الإخوانية ليست حالة وصاية على التنظيم بل تأثير ونفوذ نأمل ألا تخرجه عمليات الضغط وتحرفه عن مساره. إذن فنحن ننظر في الحقيقة إلى عبقرية سياسية لم يألفها العرب فلقد مارست قطر العمل السياسي من خلال أدوات نظام الحكم الجمهوري، فعمليات الممازجة والتوليف المدروسة لمكامن القوة في الأنظمة باختلاف أدواتها أخرجت قطر وقدمتها للعالم كحالة استثنائية لم يستطع حجم لا بأس به من الشعوب العربية استيعابه لتأثرها بنظريات المؤامرة ناهيكم عن عجز الأنظمة عن فهم طبيعة هذه التوليفة العبقرية لأن هذه الأنظمة أصلا تقوم بعمليات تموضعها على الاتجاه الواحد في التفكير وليس العمليات الموازية لاسيَّما أن نهج الثورات كان ولا يزال يقلقها لا بل يرعبها باعتبار أن أداة الثورة الأساسية في هدم الشرعيات الزائفة كانت تقوم على مرتكزين الأول هو نقض الاستبداد والثاني نقض الفساد، أما متلازمة الفساد والاستبداد فهي رفيقة درب الأنظمة التي عجزت تاريخيا عن تقديم شيء للأمة يسعفها في دفاعها عن نفسها أو احتسابها حتى على هامش الحضارة. يجب أن يدرك العرب أن الزمن لا يعود إلى الوراء وما صاغته الثورات من قيم ومفاهيم وما خلقته من حواضن فكرية وثقافية لدى الشعوب لا يمكن تشويهه أو تفكيكه وفي حال جرى ذلك بفعل تدخل هذه الأنظمة البائدة فإن الثورات قادرة على إعادة إنتاج نفسها وستأخذ أشكالا متعددة ومختلفة في التعاطي مع الواقع ولابد من إدراك حقيقة مفادها أن من تمتد يده للثورة العربية فإنه يخل بعملية التوازن الطبيعي للفعل ورد الفعل لحركة التاريخ والأمم وهذا الأمر تحديدا أسهم في إطلاق العنان لقوى الشر كافة في عمليات استغلال الفراغ في الدولة والعبث بالثورة غير المنجزة لعدم اكتمال صيغة المشروع النهضوي العربي الذي حاولت قطر من خلال أدواتها المبينة أعلاه ملء فراغه فأدى إلى نشوء جماعات مسلحة خرجت حتى عن حد سيطرة من أنشأها وسقاها وأطعهما وستصله نارها عاجلا أم آجلا. باعتقادي أنه من الخطأ الفادح أن تجري محاصرة قطر وسياساتها في ظل تعقيدات المشهد الإقليمي وقد وصل المشروع الفارسي الصفوي إلى مرحلة بات يتخذ فيها القرار في أربع عواصم عربية ابتداء من بغداد مرورا بدمشق وبيروت وانتهاء في صنعاء ولابد هنا من التذكير بأن الاحتواء القطري لحركة حماس الفلسطينية هو الذي أبقى عليها ضمن المعادلة العربية حتى جرى قطع خط التأثير القطري أو إضعافه لدرجة جعلت من هذه الحركة أن تنظر لإيران ومشروعها كبديل للحضن العربي ومن الحمق والسذاجة بمكان التعاطي مع الحالة الإيرانية بمعزل عن المصالح الأمريكية لذا فإن حركة حماس لا تعدو كونها ورقة تفاوضية بيد إيران لإنجاز مشروع (تصدير الثورة) وتهديد أمن الخليج العربي في حين أنها بالحالة القطرية وتوصيفها هي حركة مقاومة لها هدف سياسي ينتهي بانتهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية. لنقف لحظة حقيقة وصدق مع الذات ونتساءل بالمحصلة النهائية ما هي السياسة القطرية التي لا تنسجم أو تتعارض مع الأهداف السياسية النهائية والتوجهات العامة المعلنة لكل الدول العربية سواء ما يسمى بدول الاعتدال أو محور المقاومة؟
الجميع اختار السلام كخيار استراتيجي عربي والجميع يسعى إلى استقرار وسلامة وأمن الإقليم والجميع يتبنى الخطابات والشعارات والمصالح العربية المشتركة التي لم يقدم أحدهم نموذجا وحدويا أو يسعى لصياغة مشروع عربي حقيقي بعيدا عن الشعارات باستثناء قطر فلماذا تلك المزايدة وهذا الحمق في التعامل السطحي والتعاطي مع دولة قطر وسياساتها ومحاولة كسر شوكة لا بل سيف نحن في أمس الحاجة إليه كأمة؟!!
حقيقة نحن لا نستطيع بعث الملك حسين بن طلال من قبره ليقنع العرب بجدوى وأهمية السياسة القطرية في المنطقة ولكن يمكن الاستفادة من مدرسة هذا الراحل الكبير لنقول إنه يتوجب الاستفادة من قطر وتوظيف سياساتها وإمكاناتها وأدواتها في خدمة المشروع العربي الذي إن لم يدركه فالبديل الإيراني أو الإسرائيلي أو غيره موجود وجاهز لمراعاة مصالحه على حساب هذه الأمة، لذا لابد من إعادة النظر والتعاطي مع السياسة القطرية بوصفها خطا سياسيا موازيا لثنائية الاستقطاب في المنطقة باعتبارها خطة بديلة لحالة الفشل العروبية المتوقعة وجزءا من الجهد العربي العام في استقرار المنطقة والوصول لمصالحات بينية وتحقيق مصالح الدول العربية في الاستقرار والأمن والسلام والتنمية. خسرنا كثيرا ولا نريد أن نخسر كل شيء فحياة الطيار الأردني الذي استشهد حرقا مثلا لربما اختلفت بشأنه المعادلات فيما لو تدخلت قطر وضغطت على الجانب التركي أو أطراف الصراع في العراق أو وظفت أدواتها بهذا الاتجاه. وبصراحة فكما لا نريد تكرار مشاهد حرق الجنود والمواطنين العرب في كل بلداننا فلا نريد لتنظيمات مثل الإخوان أن نراها وقد أصبحت مأجورة لدى مشاريع عابرة للأمة ونعم للاحتواء والتوجيه والتأثير القطري بما يخدم مصالح الأمة ولا يجوز زيادة حالة التعقيد بالصراع بخروج قطر من المعادلة فنكون أمام حالة سيندم عليها الجميع بخسارة الأفضلية القطرية.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6693
| 27 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2754
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق بالحياة، تملؤه الأصوات وتشتعل فيه الأرواح حماسةً وانتماء. اليوم، صار صامتًا كمدينةٍ هجرتها أحلامها، لا صدى لهتاف، ولا ظلّ لفرح. المقاعد الباردة تروي بصمتها حكاية شغفٍ انطفأ، والهواء يحمل سؤالًا موجعًا: كيف يُمكن لمكانٍ كان يفيض بالحب أن يتحول إلى ذاكرةٍ تنتظر من يوقظها من سباتها؟ صحيح أن تراجع المستوى الفني لفرق الأندية الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تلك الظاهرة، إلا أن المسؤول الأول هو السياسات القاصرة للأندية في تحفيز الجماهير واستقطاب الناشئة والشباب وإحياء الملاعب بحضورهم. ولنتحدث بوضوح عن روابط المشجعين في أنديتنا، فهي تقوم على أساس تجاري بدائي يعتمد مبدأ المُقايضة، حين يتم دفع مبلغ من المال لشخص أو مجموعة أشخاص يقومون بجمع أفراد من هنا وهناك، ويأتون بهم إلى الملعب ليصفقوا ويُغنّوا بلا روح ولا حماسة، انتظاراً لانتهاء المباراة والحصول على الأجرة التي حُدّدت لهم. على الأندية تحديث رؤاها الخاصة بروابط المشجعين، فلا يجوز أن يكون المسؤولون عنها أفراداً بلا ثقافة ولا قدرة على التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كفاءة في إقناع الناشئة والشباب بهم. بل يجب أن يتم اختيارهم بعيداً عن التوفير المالي الذي تحرص عليه إدارات الأندية، والذي يدل على قصور في فهم الدور العظيم لتلك الروابط. إن اختيار أشخاص ذوي ثقافة وطلاقة في الحديث، تُناط بهم مسؤولية الروابط، سيكون المُقدمة للانطلاق إلى البيئة المحلية التي تتواجد فيها الأندية، ليتم التواصل مع المدارس والتنسيق مع إداراتها لعقد لقاءات مع الطلاب ومحاولة اجتذابهم إلى الملاعب من خلال أنشطة يتم خلالها تواجد اللاعبين المعروفين في النادي، وتقديم حوافز عينية. إننا نتحدث عن تكوين جيل من المشجعين يرتبط نفسياً بالأندية، هو جيل الناشئة والشباب الذي لم يزل غضاً، ويمتلك بحكم السن الحماسة والاندفاع اللازمين لعودة الروح إلى ملاعبنا. وأيضاً نلوم إعلامنا الرياضي، وهو إعلام متميز بإمكاناته البشرية والمادية، وبمستواه الاحترافي والمهني الرفيع. فقد لعب دوراً سلبياً في وجود الظاهرة، من خلال تركيزه على التحليل الفني المُجرّد، ومخاطبة المختصين أو الأجيال التي تخطت سن الشباب ولم يعد ممكناً جذبها إلى الملاعب بسهولة، وتناسى إعلامنا جيل الناشئة والشباب ولم يستطع، حتى يومنا، بلورة خطاب إعلامي يلفت انتباههم ويُرسّخ في عقولهم ونفوسهم مفاهيم حضارية تتعلق بالرياضة كروح جماهيرية تدفع بهم إلى ملاعبنا. كلمة أخيرة: نطالب بمبادرة رياضية تعيد الجماهير للمدرجات، تشعل شغف المنافسة، وتحوّل كل مباراة إلى تجربة مليئة بالحماس والانتماء الحقيقي.
2418
| 30 أكتوبر 2025