رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
غدت أوروبا واتحادها الواسع، أكثر مناطق العالم تأثرا بل وانكشافاً تجاه أية أزمة دولية. إذ كلما واجه الاتحاد الأوروبي أزمة عالمية، طفا على السطح بقوة وبسرعة رهيبة مدى الهشاشة والتناقضات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي تعتري الاتحاد الأوروبي ومؤسساته ومنظومة قيمة وتشريعاته ونخبه الرئيسية. بحيث تنذر بتفكك لهذا الاتحاد ربما خلال العقود الثلاثة القادمة.
بدأت معالم الانكشاف الحقيقي لهشاشة الاتحاد عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية عام 2008، وسقوط ثلاث دول أوروبية في شبح الإفلاس، كان أفدحهم اليونان. مما اضطر الاتحاد إلى التدخل عبر حزم إنقاذ مالية بضغوط ألمانية فرنسية قدرت بالمليارات. وكشفت هذه الأزمة أن الأساس الاقتصادي الذي بني عليه الاتحاد يعتريه الكثير من العوار والغموض أيضا. إذ ضم الاتحاد في منظومته دولا هشة اقتصاديا خاصة دول شرق أوروبا، أصبحت عبئا على الدول الاقتصادية الكبيرة كألمانيا، ويماطل حتى الآن مع تركيا الأقوى اقتصاديا بكثير من دول شرق أوروبا، بشان عضويتها الكاملة في الاتحاد. وهذا يؤكد أن غرض التوسع المفرط للاتحاد ينبع من منطلقات سياسية وإيديولوجية محضة باعتباره "ناديا مسيحيا" لحماية الهوية الأوروبية (العلمانية-المسيحية-الليبرالية)، وإضعاف روسيا على وجه التحديد.
لكن ما كشفته الأزمة أيضا قد برهن على هشاشة هذه المنطلقات. حيث أدت سياسة الإنقاذ المالي للاتحاد إلى تصاعد الغضب الشعبي في الدولة الغنية تجاه مغزى مساعدات هذه البلدان والتي يتحمل تكلفتها المواطن العادي دافع الضرائب. وتطور هذا الغضب إلى تنامي شكوك شعبية وأكاديمية تجاه جدوى استمرار الاتحاد في حد ذاته. لكن كان الأخطر على الإطلاق هو أن الأزمة كانت بمنزلة الفرصة الذهبية لصعود شعبية اليمين المتطرف في أوروبا.
وحلت أزمة اللاجئين في عام 2015، لتعمق الانكشاف الأوروبي على نحو ملفت. إذ دب خلاف كبير بين دول الاتحاد حول مسألة استقبال لاجئي الشرق الأوسط والذين قد تجاوزا آنذاك المليونين. وكانت تلك الأزمة أيضا، البداية الحقيقية لتفكير بريطانيا في الخروج نهائيا من الاتحاد، كما ساهمت الأزمة في احتلال اليمين المتطرف مكانة متقدمة جدا في أوروبا.
إذن، قد كشفت الأزمة أن الأساس الليبرالي والأيديولوجي للاتحاد كان يعتريه خلل فادح من الأساس. إذ تم إعلاء الهوية الوطنية على هوية الاتحاد أو الهوية "الأوروبية الجامعة"، كما تم إعلاء المصالح القومية الضيقة بشان استقبال اللاجئين وما يمثله ذلك من تداعيات وأعباء اجتماعية واقتصادية، على مصالح الاتحاد العليا. وأخيرا مدى هشاشة القيم الليبرالية والذي جسدها الصعود القومي لليمين المتطرف.
ويرى البعض، أن أزمة كوفيد-19 قد مثلت أخطر الأزمات الكاشفة للهشاشة الكامنة للاتحاد، بل لأزمة المنظومة الليبرالية -القيمية للغرب عموما. حيث ضربت دول الاتحاد لاسيما الكبرى جميع القيم الليبرالية التعاونية عرض الحائط، باحثة كل دولة بمفردها بشكل أناني مفرط عن طوق النجاة من هذه الأزمة الكارثية الوجودية.
حيث أغلقت دول الاتحاد حدودها تجاه بعضها البعض، وتآمرت على بعضها البعض من أجل الاستحواذ على المستلزمات الطبيبة والوقائية لمواجهة الأزمة. بالإضافة، كشفت الأزمة على عمق هشاشة النظم الصحية والاجتماعية والاقتصادية لدول الاتحاد في مواجهة الأزمة. ولعل الدرس المستفاد الذي كشفه حال أوروبا في مواجهة الأزمة، أن القيم الليبرالية التي تأسس عليها الاتحاد ويتشدق بها ويريد فرضها على الآخرين، والتي تشمل حقوق الإنسان، والديمقراطية، والتعاون المؤسسي، وحرية التجارة، سرعان ما تذهب إلى أدراج الرياح، وتطفو الواقعية السياسية البرجماتية أمام مواجهة خطر هائل بوزن أزمة كوفيد.
ونحن نرى، أن الحرب الأوكرانية تعد أخطر الأزمات الكاشفة تماما لهشاشة الاتحاد الأوروبي ومنظومة قيمه. في أعقاب اندلاع الحرب برزت ثلاثة تطورات شديدة الخطورة. أولها، الهشاشة والانكشاف الأمني الخطير لأوروبا، وهو ما تجسد في إعلان ألمانيا عن نيتها في إعادة تسليح نفسها بسبب تغول الخطر الروسي. كما أعلنت دول أخرى كفنلندا عن رغبتها الانضمام إلى حلف الناتو.
وجاءت تلك الإعلانات بعدما عجز حلف الناتو ومن ورائه الولايات المتحدة عن إيقاف التمدد الروسي في أوكرانيا. وهو ما اسهم في زيادة قناعات دول الاتحاد الكبرى خاصة ألمانيا وفرنسا بأن الاستمرار في الاعتماد على الحماية الأمريكية وحلف الناتو كذلك، مجرد لهث وراء السراب. وتبني دول أوروبية لخطط لإعادة تسليح جيوشها، يمثل في واقع الأمر إرباكا شديدا للاتحاد وآليات التعاون والتنسيق بين دوله، كما سيعيد أوروبا إلى حالة من التوترات والمشاحنات، ويزيد من انزواء وأنانية تلك الدول بسبب الكلفة الباهظة للأمن والعسكرة.
والتطور الثاني، هو وصول اليمين المتطرف منفردا إلى سد الحكم في بعض الدول الأوربية كإيطاليا والسويد. بعدما وصل الناخب الأوروبي إلى قناعة تامة بفشل النخبة التقليدية المعتادة على مواجهة الأزمات لاسيما الاقتصادية التي خلفتها أزمة كوفيد، وأزمة الهجرة التي فاقمت من حالة الهلع من طمس الهوية الوطنية.
وتفرد اليمين بالقرار السياسي سيترتب عليه أمور كثيرة غاية في الخطورة، ومنها الضغط بشان تقليص التعاون مع الاتحاد الأوروبي وربما الانسحاب منه تماما مقابل البحث بصورة ضيقة على المصالح الذاتية، التضييق على الحريات والحقوق خاصة للمهاجرين العرب والمسلمين. وعلى صعيد آخر، ربما الضغط لإعطاء روسيا المزيد من التنازلات بما في ذلك الأراضي الأوكرانية بأكملها.
والتطور الثالث، أزمة الطاقة، وهذه الأزمة على وجه الخصوص قد كشفت لأوروبا خطورة مسالة الطاقة ونقصد الطاقة التقليدية (النفط والغاز) على الوضع الاقتصادي والاجتماعي لأوروبا برمته. فبسبب أزمة الطاقة، ارتفع التضخم في أوروبا إلى مستويات قياسية، واضطرت بعض الدول إلى تقليص قطع التيار الكهربائي لعدة ساعات يوميا. بينما لجت دول أخرى إلى العودة لاستخدام الفحم.
وعلى إثر ذلك، أدت أزمة الطاقة إلى دفع دول الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تقييم سياساته الداخلية والخارجية حول أمن الطاقة، بعد الفشل الذريع في إيجاد سبل الحل عبر الطاقة البديلة. إذ تفكر بعض الدول الأوروبية في التوسع في استثمارات الطاقة التقليدية داخليا وخارجيا، وهو ما يعني رمي جميع المبادرات والسياسات المتعلقة بخفض التلوث والانبعاثات الحرارية من وراء الظهر، إزاء ضرورة توفير الطاقة بشتى السبل لحماية الأوروبيين من تداعيات شتاء أوربي قارص.
وعلى نحو آخر، دفعت أزمة الطاقة الأوروبيين إلى إعادة تموضع في السياسة الخارجية وتعزيز الصلات بأي دولة ستزود أوروبا بالطاقة، رامية وراء ظهرها أيضا أية شوائب تدعيها متعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية قد تعكر صفو تلك الصلات.
عندما تم تأسيس الاتحاد الأوروبي أكبر تكتل كونفدرالي في العالم وازدهر اقتصاديا بعد الحرب الباردة، جادل البعض أن تجربة الاتحاد الناجحة قد قطعت الشك باليقين بانتهاء عصر الواقعية الذي سادت فيه الحروب العالمية والصراعات الجيوسياسية والعسكرية منذ الحرب العالمية الأولى وحتى انتهاء الحرب الباردة على الأراضي الأوروبية. حيث دخل العالم إثر نجاح الاتحاد الأوروبي، العصر الليبرالي الذي يسوده السلم والتعاون والمنفعة الاقتصادية.
لكن أثبت واقع العالم بعد الحرب الباردة، أن سيادة العصر الليبرالي مجرد وهم كبير. وأن الاتحاد الأوروبي مجرد شكل من أشكال الواقعية السياسية، تكشفت تدريجيا بمرور الوقت.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
لم يكن ما فعلته منصة (إكس) مؤخرًا مجرّد تحديثٍ تقني أو خطوةٍ إدارية عابرة، بل كان دون مبالغة لحظةً كاشفة. فحين سمحت منصة (إكس) بقرارٍ مباشر من مالكها إيلون ماسك، بظهور بيانات الهوية الجغرافية للحسابات، لم تنكشف حسابات أفرادٍ فحسب، بل انكشفت منظوماتٌ كاملة، دولٌ وغرف عمليات، وشبكات منظمة وحسابات تتحدث بلسان العرب والمسلمين، بينما تُدار من خارجهم. تلك اللحظة أزاحت الستار عن مسرحٍ رقميٍّ ظلّ لسنوات يُدار في الخفاء، تُخاض فيه معارك وهمية، وتُشعل فيه نيران الفتنة بأيدٍ لا نراها، وبأصواتٍ لا تنتمي لما تدّعيه. وحين كُشفت هويات المستخدمين، وظهرت بلدان تشغيل الحسابات ومواقعها الفعلية، تبيّن بوضوحٍ لا يحتمل التأويل أن جزءًا كبيرًا من الهجوم المتبادل بين العرب والمسلمين لم يكن عفويًا ولا شعبيًا، بل كان مفتعلًا ومُدارًا ومموّلًا. حساباتٌ تتكلم بلهجة هذه الدولة، وتنتحل هوية تلك الطائفة، وتدّعي الغيرة على هذا الدين أو ذاك الوطن، بينما تُدار فعليًا من غرفٍ بعيدة، خارج الجغرافيا. والحقيقة أن المعركة لم تكن يومًا بين الشعوب، بل كانت ولا تزال حربًا على وعي الشعوب. لقد انكشفت حقيقة مؤلمة، لكنها ضرورية: أن كثيرًا مما نظنه خلافًا شعبيًا لم يكن إلا وقودًا رقميًا لسياسات خارجية، وأجندات ترى في وحدة المسلمين خطرًا، وفي تماسكهم تهديدًا، وفي اختلافهم فرصةً لا تُفوّت. فتُضخ التغريدات، وتُدار الهاشتاقات، ويُصنع الغضب، ويُعاد تدوير الكراهية، حتى تبدو وكأنها رأي عام، بينما هي في حقيقتها رأيٌ مُصنَّع. وما إن سقط القناع، حتى ظهر التناقض الصارخ بين الواقع الرقمي والواقع الإنساني الحقيقي. وهنا تتجلى حقيقة أعترف أنني لم أكن أؤمن بها من قبل، حقيقة غيّرت فكري ونظرتي للأحداث الرياضية، بعد ابتعادي عنها وعدم حماسي للمشاركة فيها، لكن ما حدث في قطر، خلال كأس العرب، غيّر رأيي كليًا. هنا رأيت الحقيقة كما هي: رأيت الشعوب العربية تتعانق لا تتصارع، وتهتف لبعضها لا ضد بعضها. رأيت الحب، والفرح، والاحترام، والاعتزاز المشترك، بلا هاشتاقات ولا رتويت، بلا حسابات وهمية، ولا جيوش إلكترونية. هناك في المدرجات، انهارت رواية الكراهية، وسقط وهم أن الشعوب تكره بعضها، وتأكد أن ما يُضخ في الفضاء الرقمي لا يمثل الشعوب، بل يمثل من يريد تفريق الأمة وتمزيق لُحمتها. فالدوحة لم تكن بطولة كرة قدم فحسب، بل كانت استفتاءً شعبيًا صامتًا، قال فيه الناس بوضوح: بلادُ العُرب أوطاني، وكلُّ العُربِ إخواني. وما حدث على منصة (إكس) لا يجب أن يمرّ مرور الكرام، لأنه يضع أمامنا سؤالًا مصيريًا: هل سنظل نُستدرج إلى معارك لا نعرف من أشعلها، ومن المستفيد منها؟ لقد ثبت أن الكلمة قد تكون سلاحًا، وأن الحساب الوهمي قد يكون أخطر من طائرةٍ مُسيّرة، وأن الفتنة حين تُدار باحتراف قد تُسقط ما لا تُسقطه الحروب. وإذا كانت بعض المنصات قد كشفت شيئًا من الحقيقة، فإن المسؤولية اليوم تقع علينا نحن، أن نُحسن الشك قبل أن نُسيء الظن، وأن نسأل: من المستفيد؟ قبل أن نكتب أو نشارك أو نرد، وأن نُدرك أن وحدة المسلمين ليست شعارًا عاطفيًا، بل مشروع حياة، يحتاج وعيًا، وحماية، ودراسة. لقد انفضحت الأدوات، وبقي الامتحان. إما أن نكون وقود الفتنة أو حُرّاس الوعي ولا خيار ثالث لمن فهم الدرس والتاريخ.. لا يرحم الغافلين
906
| 16 ديسمبر 2025
يترقّب الشارع الرياضي العربي نهائي كأس العرب، الذي يجمع المنتخبين الأردني والمغربي على استاد لوسيل، في مواجهة تحمل كل مقومات المباراة الكبيرة، فنيًا وبدنيًا وذهنيًا. المنتخب الأردني تأهل إلى النهائي بعد مشوار اتسم بالانضباط والروح الجماعية العالية. كما بدا تأثره بفكر مدربه جمال السلامي، الذي نجح في بناء منظومة متماسكة تعرف متى تضغط ومتى تُغلق المساحات. الأردن لم يعتمد على الحلول الفردية بقدر ما راهن على الالتزام، واللعب كوحدة واحدة، إلى جانب الشراسة في الالتحامات والقتالية في كل كرة. في المقابل، يدخل المنتخب المغربي النهائي بثقة كبيرة، بعد أداء تصاعدي خلال البطولة. المغرب يمتلك تنوعًا في الخيارات الهجومية، وسرعة في التحولات، وقدرة واضحة على فرض الإيقاع المناسب للمباراة. الفريق يجمع بين الانضباط التكتيكي والقوة البدنية، مع حضور هجومي فعّال يجعله من أخطر منتخبات البطولة أمام المرمى. النهائي يُنتظر أن يكون مواجهة توازنات دقيقة. الأردن سيحاول كسر الإيقاع العام للمباراة والاعتماد على التنظيم والضغط المدروس، بينما يسعى المغرب إلى فرض أسلوبه والاستفادة من الاستحواذ والسرعة في الأطراف. الصراع في وسط الملعب سيكون مفتاح المباراة، حيث تُحسم السيطرة وتُصنع الفوارق. بعيدًا عن الأسماء، ما يجمع الفريقين هو الروح القتالية والرغبة الواضحة في التتويج. المباراة لن تكون سهلة على الطرفين، والأخطاء ستكون مكلفة في لقاء لا يقبل التعويض. كلمة أخيرة: على استاد لوسيل، وفي أجواء جماهيرية منتظرة، يقف الأردن والمغرب أمام فرصة تاريخية لرفع كأس العرب. نهائي لا يُحسم بالتوقعات، بل بالتفاصيل، والتركيز، والقدرة على الصمود حتى اللحظة الأخيرة.
750
| 18 ديسمبر 2025
يوماً بعد يوم تكبر قطر في عيون ناظريها من كأس العالم الذي أبهر وأدهش وأتقن، الى احتضان فعاليات كأس العرب. نعم نجحت قطر في جمع العرب في ملتقى استثنائي، بدأ بافتتاح مهيب وأسطوري اجتمعت فيه حضارة العرب وعاداتهم وأحلامهم ونجحت في تقديم فلسفة الاستاد خلال الأيام الماضية على أنه البيت العربي الكبير الذي يجمع العرب متجاوزين الحدود والفوارق. لقد تبيّن لنا أن هناك الكثير مما يجمع العرب، وليس حرف الضاد وحده، فها هي كرة قدم أظهرت أنهم يقفون ويستطيعون البناء وتقديم الأفضل، وأن هناك جيلا متفائلا يؤمن بالمستقبل وبأنه قادر على أن ينهض من تحت الركام، جيل جديد يتنفس عطاءً ويضع لبنات البناء الذي يعيد المجد لهذه الأمة. أما فلسطين فكانت حاضرة في هذا المهرجان الكروي، في تضامن ليس جديدا أو غريبا على قطر وشعبها، ولعل الأوبريت المؤثر حين جمع قصص الاناشيد الوطنية للدول العربية عبّر لكل الحاضرين والمشاهدين أن تحريرها ممكن وان وحدتنا ممكنة. قطر ومن جديد تجمع العرب في كأس العرب للمرة الثانية من المحيط الى الخليج في هذه الاحتفالية الكروية التي تعد الأكبر في العالم العربي، والسؤال الذي يطرح نفسه عن سرّ نجاح قطر مرة تلو الأخرى؟ لقد وضعت قطر بصمتها على خريطة العرب والعالم فأصبح يشار إليها بالبنان لما تمتلكه من قدرات استثنائية على استضافة الأحداث الرياضية الكبرى وتمثل كأس العرب فصلاً جديداً في هذا الإرث الرياضي الغني والمتنوع. قطر وخلال أعوام مضت وضعت رؤيتها، وحددت هدفها وسخرت امكاناتها، وبذلت كل ما تستطيع لتحقيق ما رأيناه من ترتيبات لإقامة كأس العالم على أرض صغيرة حجما، كبيرة بالفعل فكان لها ما أرادت واستقر الهدف وجاءت في هذه البطولة لتبني على ما تم انجازه وتعطي أكثر وأكثر. تمتلئ ملاعب قطر بالجماهير التي تحول ملاعب المونديال الأيقونية إلى مسرح جديد للإثارة الكروية العربية يستفيد فيها المشاركون والجماهير من منظومة متكاملة، أسست على أرقى المعايير البيئية العالمية، فهي لم تعتمد بناء ملاعب يطلق عليها مصطلح الأفيال البيضاء ببناء أبنية ضخمة لا داعي لها بل شيدت على مبدأ الاستدامة واستخدام أدوات صديقة للبيئة بحيث يمكن تفكيك وإعادة استخدام الملاعب وفق خطة مدروسة بمجرد الانتهاء منها سواء بإعادة تدويرها في مشروعات داخلية أو بالتبرّع بها وإهدائها إلى دول أخرى لرفع كفاءة منشآتها الرياضية إضافة الا أنها ملاعب بلا تدخين وملاعب يصدح فيها صوت الأذان انجاز مختلف ومقدر. يضاف إلى هذه الملاعب المونديالية، أنها استفادت من البنية التحتية الرياضية الواسعة التي أولت قطر اهتماما كبيرا بها بما في ذلك مرافق التدريب الحديثة، ومناطق المشجعين التي توفر تجربة ترفيهية متكاملة وفي نقطة تحسب لهذه الجهود تتضمن الملاعب خيارات أماكن مخصصة للمشجعين من ذوي الإعاقة. وهنا لا بد من ذكر تسهيلات حركة المشجعين من خلال شبكة منظمة من المواصلات فنجاحها يعد حجر الزاوية في انجاح البطولة فهي توفر شبكة نقل حديثة ومتكاملة تتمتع بسلاستها وفعاليتها مع وجود مترو الدوحة العمود الفقري للدوحة الذي يربط غالبية الملاعب والمناطق الحيوية في قطر خلال دقائق معدودة، بجانب منظومة نقل عام فعالة سلسة الحركة خلال الفعاليات الكبرى، فضلا عن طرق حديثة تساهم بصورة كبيرة في تقليل الازدحام وتعزيز انسيابية حركة الجماهير. وإلى جانب ذلك، يتوفر أسطول حديث من الحافلات الكهربائية الصديقة للبيئة لتقليل الانبعاثات الكربونية، وكذلك خدمة نقل عام مستدامة وفعالة تشمل "مترولينك"، والتي تتمثل في شبكة حافلات فرعية مجانية تربط بين محطات المترو والأماكن المحيطة. لقد ركزت قطر على الاستدامة عبر استخدام حافلات كهربائية وتقليل الاعتماد على السيارات الخاصة، وتوفير تجربة سلسة في نقل المشجعين مع الأخذ في الاعتبار احتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة عند تصميم وسائل النقل والمحطات، وهو الأمر الذي يساعد على ترك إرث مستدام لقطر يعزز من مكانتها كمركز للفعاليات العالمية. وبينما تدار المباريات من جهة تقام مجموعة من الفعاليات الثقافية والترفيهية لتعزيز تجربة المشجعين وخلق أجواء إيجابية وبناء جسور بينهم حيث ترحب قطر بهم بطريقتها وبحسن وكرم الاخلاق والضيافة. أي انجاز هذا، خطوة ٌتحسب وتقدر ونقطةٌ بألف هدف، فقطر تربط استثمارها بالرياضة بتحقيق نمو اقتصادي وسياحي وفي نفس الوقت وفي هذا المحفل العربي الاخوي تزيل اسباب الفرقة وتقرب المسافات في تجمع لم نكن نراه او يشهد له في من سبقها من فعاليات لكأس العرب. أي انجازٍ هذا في أكبر تجمع عربي، إذا هي الارادة الجادة والحقيقية المنتمية، تغلفها الشجاعة والاقتدار الساعية لبث الخير. قطر لا تمتلك المال فقط، إنما هي تتبع قواعد النجاح وتركز على الإنسان وفكره وتطويره، لا تترك جهدا ً في الاستفادة من خبرات الآخرين والتعلم منها والبناء عليها، وتعطي الفرص وتمنح المساحات للعطاء لمن يريد من القطريين أو غيرهم ممن يعيشون على أرضها. من استاد ملعب البيت كان الافتتاح، ولن تكون النهاية، لقد أصبحت قطر على الدوام البيت الذي يجمع ولا يفرق يلم الجراح ويبث الطمأنينة. الأمل يحدونا لأن نزيد ما تم بناؤه فكريا وروحيا ومعنويا في قطر، وفي غيرها من شقيقاتها من الدول العربية والإسلامية، حتى نغدو منارة يهتدى بنا.
690
| 15 ديسمبر 2025