رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ثمة خطورة بالغة في الاعتقاد السائد لدى البعض بإمكانية الفصل بين مصير الشعب ومصير السلطة. بمعنى الظن أن بإمكانية التعايش بين استمرار حالة الاهتراء الاجتماعي والاقتصادي والثقافي التي يعاني منها الشعب من جهة، وقدرة النظام السياسي العربي على الاستمرارية والاستقرار من جهة أخرى.
الخطير في الموضوع أن توحي بعض الأطراف الدولية، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، بإمكانية العيش في ظل المعادلة السابقة. والأسوأ من هذا كله أن تتكرر الإشارات بأن النجاح في التعامل مع القضية ممكنٌ من خلال آلياتٍ تقليدية قديمة تُزاوج بين الحلول الأمنية والترغيب المادي. أما وجه الخطر في الموضوع فيتمثل في أن تلك الأطراف الدولية لا تأبه في نهاية المطاف لمآلات الأمور على مستويي الشعب والسلطة، ببساطة، لأنها تؤمن بأن أيّ وضعٍ جديد تتمخضُ عنه الأحداث في المنطقة قابل للاحتواء سياسياً أو عسكرياً، أو بالمدخلين كِليهما.
من هنا، يبدو توزيعُ الأدوار الذي تُمارسه بعض أطراف النظام العالمي في هذه المرحلة، وبشكلٍ يكاد يكون مُبتذلاً وفاقعاً في دلالاته، أشبه بالفخّ الذي يُنصب للجميع. وإذا كان استمرار الفوضى في بلدان (الربيع العربي) هدفاً من الأهداف التي يبدو أن هناك اتفاقاً عليها، تبدو (زعزعة الاستقرار) في البلدان الأخرى وكأنها هدف آخر لما يجري حالياً في كثيرٍ من المجالات.
وهذا يؤكد الحاجة الماسّة لانتباه أصحاب العلاقة في النظام السياسي العربي إلى دلالات نوعٍ خاص من الحراك العربي السائد اليوم في معظم أرجاء الأرض العربية. فهذا النظام الذي يفتخر بقدرته الكبيرة على إحكام القبضة على أنواع النشاط الجماهيري وعلى استيعابها يبدو غافلاً عن جملة حقائق: 1) إن شرائح متزايدة من المجتمعات العربية خاصة الشابة منها أصبحت سباقة إلى فهم تكنولوجيا العصر بكل أنواعها واستخدامها لتحقيق ما ترى أنه طموحاتها ومطالبها، وهي تكنولوجيا تتغير وتتطور بشكل انفجاري من ناحية، وتكاد تصبح في أنحاء العالم بأسره المحرّك الأساسي لتغيير المجتمعات والأنظمة. 2) إن أجهزة الضبط والربط والمتابعة والرقابة للنظام الرسمي العربي تغرق تدريجياً في نفس الدرجة من الاهتراء التي يعاني منها النظام بأكمله، وأنها تنطلق في عملها في النهاية من ثقافة بيروقراطية بحتة، قد يمكن تنشيطها بين الحين والآخر بحوافز مادية، لكنها لا تملك في النهاية البُعد الرسالي الذي يتلبّس الشرائح المجتمعية بشكلٍ متزايد. كما أن القدرات الكمّية والنوعية لتلك الأجهزة لا يمكن أن تُقارِب في عطائها وإنجازها وفعلها قدرة الشرائح الجديدة التي تكبر مساحاتها على شكل متوالية عددية وتزداد إمكاناتها بشكلٍ غير مسبوق. 3) إن هذه الشرائح تعلّمت وتتعلم بشكل كبير من التجارب، الماضية منها والراهنة للأحزاب والمجموعات المعارضة التقليدية على صعيد الوسائل والأفكار، وإنها تتجاوز تلك التجارب تدريجياً وبشكلٍ لا يمكن رصده بالوسائل التقليدية. 4) وأخيراً، إن هذه الشرائح باتت تمارس نقلة في طبيعة عملها، من كونه رد فعلٍ على حدث معين، إلى أن يصبح (حالة) رفض ومقاومة شعبية للواقع ترمي إلى تغييره من الجذور بأساليب تختلف كليا عن تلك التي أتقن النظام الرسمي التعامل معها.
إن نظرة شاملة إلى الوسائل والأساليب والأفكار التي ظهرت في السنوات الأخيرة، ولكنها تكثّفت وازدادت نوعياً وكمياً بدرجة كبيرة خلال العامين الماضيين، تُظهر تطوراً ملحوظاً وإستراتيجياً في قدرة الشعوب على التعامل بشكل فعال مع أجهزة الدولة وأساليبها في استيعاب أي بذور للتغيير.
ولابد في هذا الإطار من الإشارة إلى ظاهرة جديدة تبدو ملامحها في هذه المرحلة، وقد تلعب دوراً حاسماً في عملية الفرز القادم، وما قد يترتب عليه من انحسار المشروعية السياسية والقانونية والشرعية عن النظام السياسي.
فللمرة الأولى تمكن ملاحظة المحاولات الكثيرة والواضحة لإظهار التميز بين مواقف أطراف شعبية ونخبوية من خلفيات متنوعة من جانب ومواقف أصحاب القرار من جانب آخر، وفيما يتعلق بقضايا كبرى ومصيرية. ربما لا تكون هذه الظاهرة جديدة، لكن حجمها ونوعيتها وقدرة أصحابها على ابتكار أساليب ووسائل جديدة للتعبير عنها يُعتبر مؤشراً هاماً على النقلة التي تشهدها. وتتراوح تلك الأساليب من الشكل المباشر الذي يعتمد أسلوب المواجهة الصريحة. إلى المزاوجة، المضحكة أحياناً، بين مقدمةٍ تثني على موقف النظام الرسمي، ثم أنها لا تلبث أن تقدم طروحات ومداخلات مطولة لا تتناقض كليًا مع ذلك الموقف فقط، وإنما تهدمُ بُنيانه وتنسف أسسهُ من القواعد.
كما أن البعض يعتمد إستراتيجية هدفها المعلن إفساح المجال للرأيين بشكلٍ يرفع المسؤولية عنه، لكن الطرح بمجمله يُمرّر في النهاية ما لا يمكن تمريره إطلاقاً بغير تلك الطريقة.
والمؤكد أن جميع تلك الأنواع المبتكرة من التعامل مع الموقف الرسمي العربي تلعب دوراً حساساً في خَصم وتضييق رقعة المشروعية السياسية والأخلاقية والأدبية. فالمواجهة المباشرة من قِبل البعض، وإن كانوا قلة، تشجع على رفع سقف المحرمات والممنوعات. أما الأنواع الأخرى فإنها توسع دوائر المعرفة والوعي بحقيقة ما يجري، ثم أنها تهدم في النفوس والمشاعر مع التراكم أي مقومات للهيبة والمشروعية والاحترام.
وفي نهاية المطاف، فإن الإنسان العربي يبدو وكأنه يتعلم حين يُوضع في مثل هذه الظروف الضاغطة كيف يبتكر قوانين جديدة للعبة مختلفة يقوم هو نفسهُ بوضع سياقاتها وتوازناتها ويفرضُها تدريجياً على الواقع. وهذا في حدّ ذاته إرهاصٌ لفرزٍ بين السلطة والمجتمع تُمكن رؤية ملامحه على أكثر من صعيد، خاصة ثقافياً وسياسياً.
لا مفرّ من المصارحات والمراجعات للحفاظ على ما تبقى من استقرار في منطقة ملتهبة كالعالم العربي. لا مفرّ من التفكير بحلول إبداعية تتجاوز كل أشكال الفكر السياسي التقليدي القديم. فالشعوب لا تحبُّ الفوضى ابتداءً، وهي تبحثُ عن أيادٍ ممدودةٍ لها لتُصافحها بلهفة كلِّ من يعشق الأوطان ويريد لها أن تحيا بعزٍ وكرامةٍ واستقرار.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6528
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6405
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3900
| 21 أكتوبر 2025