رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
هذا موضوعٌ من المواضيع الحساسة التي يضحى الكلام فيها أشبهَ بالمشي في حقلٍ من الألغام. لكن ملابساته تتعلق بحاضر ومستقبل سوريا، فلا مفر من فتح ملفه، على قاعدة أنه لابد مما ليس منه بُد.
ذلك أن خلطاً كبيراً يجري في محاولات تنزيل ما تُسمى بأحاديث الملامح والفتن ونهاية الدنيا على الثورة السورية وأحداثها. وهو خلطٌ يزيد مساحات طريقةٍ في التفكير ليست في مصلحة الشعب السوري وثورته، ويظهرُ فيها ربطٌ لما ورد في الأحاديث المذكورة بوقائع الثورة وملابساتها الداخلية والخارجية بشكل فيه الكثير من التعسف أحياناً، ويبدو فيه التناقض بين الرواية والواقع، بطريقةٍ لاتنسجم ابتداءً مع المنهج الإسلامي الأصيل الذي يجب أن يتحرى الدقة والأمانة في التعامل مع مثل هذه القضايا المتعلقة بحاضر الشعوب ومستقبلها.
لن ندخل هنا في جدالٍ يتعلق بعلوم الحديث النبوي وأهمية دراسة العلاقة بين المتن والسنَد، وكيفية تنزيل الأحاديث النبوية على واقع البشر، وأولوية فهم الأحاديث في ضوء ماورد في القرآن الكريم، وما إلى ذلك مما لا يتسع له مقالٌ صحافي يهدف كما ذكرنا إلى فتح الملف قبل أكثرَ من أي شيءٍ آخر.
ثمة دلائل كثيرة على وجود المحاولات للربط بشكلٍ وثيق بين الأحاديث المذكورة وبين الثورة السورية، وهي تهدف في خضم الحماس والعاطفة إلى تأجيج المشاعر وزيادة الدعم للثورة فيما نحسب. لكنها لاتنتبه مع ذلك الحماس والتركيز على المشاعر إلى مافيها من أخطاء منهجية أولاً. والأهمُ من ذلك أنها لا تُلقي بالاً إلى حجم الفوضى الفكرية التي يمكن أن تنتج عنها، ومايترتبُ على ذلك من فوضى عملية على جميع المستويات.
هناك على سبيل المثال مقطعٌ على موقع اليوتيوب يتناقله الناس، والسوريون تحديداً، يتعلق حصراً بعلاقة أحاديث الملاحم بالثورة، ويمكن أن يكون نموذجاً يستحق الدراسة في هذا المجال.
يبدأ المقطع بمشاهد من أحداث الثورة السورية تَظهر على جانب الشاشة، في حين يقول الشيخ المتحدث على الجانب الآخر لها مايلي: "إن ماترونه الآن بأعينكم وماتستمعون إليه الآن في وكالات الأنباء وعبر الفضائيات ونشرات الأخبار قد تحدث عنه النبي المختار الذي لاينطق عن الهوى". هكذا، يلغي المُعلِقُ نهائياً ومن اللحظة الأولى أي احتمالٍ آخر، ويقطعُ جازماً بالعلاقة الكاملة بين الرواية النبوية وبين الحدث الراهن. وهو تحت الضغط النفسي الراهن يستعملُ احترام الناس للنبي الكريم لتأكيد تفسيره الشخصي للقضية، بحيث يُصبح الحوارُ والنقاشُ فيها من البداية مشبوهاً إن حصلَ، ومقروناً بتهمة تكذيبه عليه الصلاة والسلام.
بعدها، يظهر خطيبٌ آخر وهو يشرح حديث "لاتقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو قال بدابق"، وبينما يؤكد الخطيب أن دابق هي قرية في شمال سوريا تظهر صورة جانبية فيها خارطة سوريا الجغرافية، ثم تبدو بضعة أسهم وهي تتحرك من أوروبا وقبرص باتجاه المنطقة المذكورة، ليتابع المتحدث قائلا بالعامية: "لاحظ ماقال (حتى تأتي) بل (حتى تنزل) وهذا دليل أنهم يأتون من الشمال".
ثم يظهر متحدثٌ ثالث يكرر بداية الحديث المذكور ويقول "مَن الروم؟ الروم أو بنو الأصفر، امتدادهم الآن في العصر الحديث الأوروبيون والأمريكيون، نسلُ بني الأصفر. أوروبا وأمريكا". ولتأكيد الصورة الذهنية، تظهر على الشاشة الجانبية أثناء الكلام مشاهدُ لاجتماع إحدى القمم الأوروبية ثم مشهد للرئيس الأمريكي أوباما. المفارقةُ أن وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو يظهر في منتصف الصف الأول من لقطة الاجتماع! لكن منتج المقطع لايقف عند دلالة هذه اللقطة وكيف يمكن أن تُظهر التعقيد الكبير المتعلق بالموضوع، فالمهم هو استحضار شاهدٍ بصري يؤكد التفسير المُراد بغض النظر عن (التفاصيل).
وتكتمل التركيبة بظهور متحدثٍ رابع يذكر حديث "تصطلحون أنتم والروم صلحاً تاماً فتقاتلون عدواً من ورائكم". وفي هذه اللحظة تُظهر الشاشة الجانبية الرئيس السابق للائتلاف الوطني السوري أحمد معاذ الخطيب وهو يتجه لمصافحة الرئيس الفرنسي أثناء استقبال الأخير له في باريس!
ثم يكمل المتحدث قائلاً: "والسؤال: مَن هو هذا العدو؟" لتأتي الإجابة من متحدثٍ آخر يحكي عن إجماع السوريين كلهم على أن "بعض من يقاتلنا يتكلمون اللغة الفارسية"، ثم يذكر إيران وروسيا والصين.
وللتأكيد، يظهر متحدثٌ سابق يؤكد على قضية الحِلف مستخدماً هذه الكلمات: "يعني الأمريكان والبريطانيين والأوروبيين، يكون بينكم حلف". وهنا تظهر مرة أخرى مشاهد للقاء معاذ الخطيب هذه المرة مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري؟! في حين يُكمل المتحدث بقوله: "فتغزون عدواً من ورائكم. قال فتُنصرون".
هكذا، وبكل بساطة، يُصبح مؤكداً أن أوروبا وأمريكا، ومعها تركيا عَرَضاً، ستتدخل لمصلحة الثورة السورية إلى درجة التحالف معها.. بل إن هذا الحلف سيحارب إيران وروسيا والصين.. وينتصر عليها. وتكون لقاءات رئيس الائتلاف السابق الذي لم يعد رئيساً وقت نشر المقطع في أوائل شهر يوليو الحالي مع بعض المسؤولين الغربيين دليلاً على صِحة الأحاديث المذكورة. ويجري تجاهل كل الحقائق التي بات القاصي والداني يعرفانها عن المواقف الدولية من الثورة السورية. ويتم القفز فوق التناقض بين هذه الحقائق وبين تفسير الروايات بشكلٍ يظلم الثورة والرواية والرسول والإسلام نفسه إلى أبعد الدرجات.
لكن الموضوع لايقف عند هذا الحد، إذ يظهر أحد المتحدثين السابقين وهو يقول: "وتبدأ علامات الساعة الكبرى في الظهور وكأن المسبحة قد انقطعت وبدأت الخرزات تتساقط. فيغدرُ الروم بعد النصر. يغدرون بالمسلمين كعادتهم. ينكثون العهد. يبدأون بقتال المسلمين وتبدأ الملحمة الكبرى.. فيقتلهم المسلمون".
بعدها، يظهر متحدثٌ سابق أيضاً ليذكر حديثاً آخر ويشرحه قائلاً: "فيخرج عليهم جيش من المدينة. المقصود بالمدينة دمشق بإجماع الشُراح وليس المدينة النبوية لأن المدينة النبوية تكون في ذلك الوقت خراباً بإجماع الشُراح. خلص، مايكون فيها أحد". هكذا، يُمَرَرُ الموضوع دون التساؤل عن علاقة مايجري الآن من أحداثٍ في الثورة بصراعٍ كوني مع الأوروبيين والأمريكان يحصلُ وقد أصبحت المدينة المنورة (خراباً)، وبإجماع الشُراح!؟
أخيراً، ينتقل الموضوع إلى خروج المهدي ثم الحديث المعروف عن المراحل التي تحدث عنها الرسول وتتعلق بالخلافة الراشدة ثم الملك العضوض ثم الحكم الجبري وصولاً إلى "خلافة راشدة على منهاج النبوة".
نفهم أن يتفاعل البعض مع حرارة الثورة السورية، ونؤمن بأنها ستكون تمهيداً لتغييرٍ حضاري كبير، لكن هذه الطريقة في (استعجال) الملاحم والفتن ونهاية الدنيا لاتصلح مدخلاً للبحث عن خلافةٍ على منهاج النبوة. فهي حين تكون مليئةً بالتعسف والتناقضات لن تترك فسحة للعقل والفهم والتخطيط للتعامل مع التعقيد المحيط بالثورة السورية، وإنما ستصبح سبباً لذبحها بالفوضى والخلاف والاستعجال، والاعتماد على القوة العسكرية وحدها. ناهيك عن أن تسمح مثلُ تلك الرؤية مجالاً لإعمار الأرض والحكم الرشيد فيها بغض النظر عن التسميات.
الدجاجة التي أسعدت أطفال غزة
دخل على أولاده بدجاجة فهللوا وسجدوا لله شاكرين! هذا كان حال عائلة غزاوية من قطاع غزة حينما أقدم... اقرأ المزيد
216
| 28 أكتوبر 2025
كم تبلغ ثروتك؟
أصبحنا نعيش في عالم تملأه الماديات، نظرة بسيطة على مواقع التواصل الاجتماعي تجعلنا نرى أثر الحياة السريعة المادية... اقرأ المزيد
204
| 28 أكتوبر 2025
التواصل الذي يفرقنا
جلست بالسيارةِ وحتى البحر عبرتُ وخلال مجلسي في الاستراحةِ نظرتُ لكل من يجلس حولي حتى ذلك الطفل الصغير... اقرأ المزيد
156
| 28 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6528
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6405
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3900
| 21 أكتوبر 2025