رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
عرف الإنسان أهمية وفوائد الطاقة البترولية المكونة أساساً من النفط والغاز الطبيعي وغيرهما من المشتقات البترولية، وفي وقت قريب واكبت تطور طاقة الحركة التي تدرجت في استخدام الفحم الحجري وذلك منذ القرن التاسع عشر، ثم أخذ الفحم الحجري يتلاشى أمام الطاقة البترولية في النصف الأول من القرن العشرين ليختفي نهائياً ولتحل محله بالكامل الطاقة البترولية.
استطاعت الطاقة البترولية أن تغير العالم من الحياة القديمة إلى حياة حديثة تتسم هذه الحياة بكل أساليب الحداثة ولذلك حتمت التراجع السريع على طاقة الفحم الحجري، الذي تراجع نهائياً أمام زحف وتقدم القوى الشاملة للطاقة البترولية على كل ما له صلة بالتطور العلمي الجديد وسرعان ما اختفى استخدام الفحم الحجري في مختلف بلدان العالم لتحل محله الطاقة البترولية الجديدة والأكثر فاعلية من حيث السرعة ودقة الفاعلية.
ومع التطور الصناعي السريع لآلة الحركة في بداية النصف الثاني من القرن العشرين حل النفط ومشتقاته محل البقية الباقية للفحم الحجري في ظل نهضة صناعية تكنولوجية عالمية وشاملة وسريعة عمت كل وسائل الاحتراق الداخلي المتعلق بصناعة الحركة، وفي الوقت الذي عم النفط العصر الصناعي بشكل واسع باعتباره أهم مشتقات الطاقة البترولية فإن الغاز الطبيعي أحد المشتقات البترولية صعد نجمه بشكل لافت ومتميز من منطلق أنه أنظف وقود الطاقة الأحفورية على الإطلاق وليس له تأثير ضار على الحياة البيئية، إضافة إلى أن مشتقاته وخاصة وقود الديزل النظيف الأخضر والزيوت الأساسية أفضل منتجات للسيارات الحديثة الراقية.
ويكفي الغاز الطبيعي المكانة المرموقة والتقدير المتزايد الذي احتله في عالم الصناعة لأنه المنتج الوحيد من بين منتجات الطاقة الأحفورية الذي يتميز بنظافة عالية مقارنة بالنفط والديزل والفحم الحجري وكافة منتجات الطاقة الأحفورية المعروفة بتأثيرها في عمليات تلوث البيئة بالأدخنة الكثيفة الناتجة عن احتراقها ومن نعمة الله على قطر أن جعلها من منتجي الغاز الطبيعي الكبار في العالم الجديد وممارسة الصناعة الحديثة الجديدة.
وانطلاقاً من هذه الحقائق عن وقود الغاز الطبيعي استحقت دولة قطر أن تحتل المكانة المرموقة الأولى على مستوى العالم في إنتاج الكميات الضخمة وصناعة وتصدير هذه الكميات من الغاز الطبيعي المسال إلى جانب تصنيع وتصدير منتجات تحويل الغاز إلى سوائل مثل وقود الديزل النظيف وغيره، وذلك ما لم تحققه الدول الأكبر مساحة وسكاناً وتطوراً علمياً والأكثر احتياطياً من الغاز الطبيعي والثروات الأخرى.
وغالباً ما يتواجد الغاز الطبيعي مع النفط أو في حقول ليست ببعيدة عن حقول النفط ومن نعم الله على دولة قطر أنه تم اكتشاف حقلها العملاق من الغاز تحت طبقة النفط مباشرة بعمق حوالي ألف قدم أو أكثر أي بعمق يتراوح ما بين 8 آلاف و9 آلاف قدم تحت قاع البحر في المياه الإقليمية البحرية القطرية وعلى مساحة قدرها حوالي "6000" كيلومتر مربع مع ملاحظة أن عصر استغلال الغاز الطبيعي جاء في مجال الطاقة الحديثة متأخراً مقارنة بغيره حيث ظل خارج هذا النشاط الصناعي الجديد لفترة طويلة من الزمن لعدم ابتكار الآلة التي تناسب استخدامه على نطاق واسع في أغراض صناعية جديدة في تلك الفترة، ومع بداية القرن العشرين أخذت بعض الصناعات بشكل محدود وضيق في استخدام الغاز الطبيعي لأغراض صناعية ضيقة نظراً لصعوبة التحكم في الغاز من حيث نقله وتخزينه في تلك الفترة بشكل سائل كما هو الآن.
وكبداية متواضعة حول اكتشاف الغاز الطبيعي واستغلاله فقد بدأت في عام 1914 فكرة إسالة أو تسييل الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة الأمريكية كبراءة اختراع، وفي عام 1917 قامت بريطانيا بأول عملية تجارية غرب فيرجينيا إلا أن الاستغلال الفعلي للغاز أخذ مجراه عندما وقعت بريطانيا عقداً مدته خمسة عشر عاماً مع الجزائر، وذلك في عام 1961 لتزويد بريطانيا بحوالي مليون طن من الغاز الطبيعي المسال سنوياً.
وبعد تلك التطورات انتشرت العمليات الصناعية للغاز الطبيعي في العالم ولكن بشكل متدرج حتى شملت ما يزيد على "40" ميناء في العالم، وفي حوالي الربع الأخير من القرن العشرين شملت صناعة الغاز المسال العديد من بلدان العالم وكان من أهم وأكبر العمليات الصناعية للغاز الطبيعي حتى الآن صناعة التسييل الضخمة القطرية التي بلغت في مشروعي "قطرغاز" و"رأس غاز" أعلى مرتبة وقدرها "77" مليون طن سنويا من خلال إنتاج ما بين "18" و"19" مليار قدم مكعبة يومياً لتغذية "14" خط إنتاج في عمليات التسييل لكل من قطر غاز ورأس غاز اللذين يحتوي كل منهما على سبعة خطوط إنتاج، وتعتمد عمليات صناعة تسييل الغاز الطبيعي على تبريده إلى درجة حرارة قدرها حوالي "5. 161" درجة تحت الصفر، وفي حالة كثافة أقل من نصف كثافة الماء وذلك عندما يكون سائلا ثم يتحول إلى الغاز وهي حالته الطبيعية ويزيد حجمه عشرات المرات عن حجمه وهو في حالته السائلة، وإذا ما اشرنا إلى الاحتياطي العالمي من الغاز الطبيعي نجد أن إجمالي هذا الاحتياطي العالمي يزيد على "61916" تريليون قدم مكعبة منها "3395" تريليون قدم مكعبة احتياطي روسيا وإيران وقطر حيث تحظى قطر باحتياطي يزيد على "900" تريليون قدم مكعبة.
ويذكر أن اكتشاف الغاز القطري الضخم والمنفرد تم عام 1971 في المياه الإقليمية القطرية وعلى مساحة تبلغ حوالي "6000" كيلومتر مربع وأعماق تتراوح ما بين 8 آلاف و9 آلاف قدم تحت ماء البحر، حيث يتواجد الغاز بكميات تجارية كبيرة.
وبعد نظرة تعمق قطرية فكرت دولة قطر بتسويق بعض هذه الكميات الضخمة من الغاز إلى دول المنطقة الشقيقة عن طريق الأنابيب لتلبية الاحتياجات المتزايدة لتلك الدول من الطاقة الكهربائية ولكن ذلك تعثر لعدد من الأسباب، فبدأت الدولة تفكر في مخرج آخر لتسويق بعض هذه الكميات الضخمة من الغاز الطبيعي إلى دول العالم ولكن كيف يمكن توصيل هذا الغاز إلى الدول التي تحتاج لكميات ضخمة إذا كان من المستحيل مد أنابيب عبر عشرات الدول حتى وصوله إلى مستهلكيه وعبر عشرات الآلاف من الكيلومترات، خاصة إذا كان الطلب في اليابان وكوريا وبعض دول الأمريكتين وأوروبا الغربية.
وجاءت الفكرة "الأمل" وهي تصنيع الغاز إلى سائل ثم نقله بواسطة ناقلات عملاقة تشبه خزاناتها فريزر الثلاجة من حيث البرودة للحفاظ على وصول الغاز سائلاً إلى المستهلك الياباني أو الأمريكي وغيرهما وبسلامة وأمان مع العلم أن تكلفة ذلك مالياً ستكون عالية جدا ورغم أن البداية القطرية كانت شبه مغامرة في صناعة تسييل الغاز الطبيعي وتسويقه فإن الإرادة القطرية كانت قوية جداً بقيادة وتوجيهات سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وينفذ تلك الإرادة وبإصرار شديد سعادة وزير الطاقة والصناعة في حينه عبدالله بن حمد العطية، ولإيجاد الطريق الأفضل تجارياً لهذه الكميات الضخمة من الغاز الطبيعي اتجهت الدولة مع بعض الشركات الأجنبية إلى صناعة تسييل الغاز ونقله بواسطة ناقلات عملاقة خاصة بنقل الغاز المسال تلك الناقلات العملاقة التي تحتوي على خزانات تشبه فريزر الثلاجة من حيث البرودة وتصل برودتها إلى حوالي "162" درجة تحت الصفر.
ومما لا شك فيه أن البداية القطرية في صناعة تسييل الغاز الطبيعي وتسويقه إلى بلدان العالم البعيدة كانت عمليات غاية في الصعوبة تجارياً وكانت مكلفة مالياً لأنها كانت الأولى في الشرق الأوسط والأضخم عالميا وحتى أسواق الغاز المسال كانت محدودة وطلباتها محدودة أيضا على مستوى العالم، علماً أن الوضع تغير وأصبح غالبية العملاء يطالبون بكميات أكبر من الغاز المسال، ورغم كل تلك العوائق التكنولوجية والمالية في البداية.. فإنه تمت إقامة مدينة رأس لفان الصناعية كحلقة وصل بين إنتاج الغاز من البحر وتصنيعه في هذه المنطقة ثم تصديره إلى دول العالم على شكل غاز مسال بواسطة عدد كبير من ناقلات شركتي "قطرغاز" و"رأس غاز" العملاقتين اللتين تملكان هذه الناقلات.
وما يهمنا في دولة قطر الآن ويرفع مكانة الدولة أن الغاز القطري المسال الذي يصدر إلى دول العالم المتحضر أصبح يمثل الوجه القطري المتحضر وهو في نفس الوقت عنوان تقدير تحمله الناقلات القطرية العملاقة إلى ذلك العالم المتحضر.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4842
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3576
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2871
| 16 أكتوبر 2025