رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لأول مرة يصطدم المسلحون الحوثيون بمواجهة شرسة مع قبائل محافظة إب التي رفضت التتار الجدد الذين يرفعون بيرق المسيرة القرآنية!! لكن القرآن الكريم حسب فهم من يسكنون الأدغال لا يحول الأمن إلى خوف والحياة إلى عبودية وموت، بعد أن قتل مسلحو قبائل إب عددا من مسلحي الحوثي وضربوا حصارا خانقا على الباقين، حاولت أطراف من حزب المؤتمر الشعبي العام وقيادات من السلطة المحلية أن تحفظ ماء وجه الغزاة فسارعت إلى التوسط بين القبائل وممثلي مسلحي الحوثي وتم التوقيع على اتفاق يخرج بموجبه كل المسلحين من المدينة الخضراء التي كانت آمنة إلا أن الاتفاق كان كسابقيه لم ينفذ، ولا يزال الحوثيون يحاولون التمسك بالمواقع التي سيطروا عليها وربما بانتظار المدد من جهات أخرى.. اللافت للنظر أن قوى الأمن والجيش تبدو وكأنها معنية بوطن آخر لا يزال يتشكل في مخيال قوى تبحث عن ذاتها الخائرة، كما أن مهمة السلطة المحلية ليست مكلفة بحماية المواطنين بل تجسد دورها في الوساطة بين الأطراف، وكلمة (الأطراف) أصبحت تستخدم في الإعلام المضاد لقوى ثورة ١١ فبراير وفي الإعلام الرسمي وعلى ألسنة الساسة اليمنيين وحتى الرئيس غير المتوج فخامة جمال بن عمر، وكلمة الأطراف في مخيال هؤلاء تعني حزب التجمع اليمني للإصلاح ومن ناصره والحوثيون ومن شايعهم وربما لم يدرك كل هؤلاء الساسة أن كلمة (الأطراف) قد تكون نذير شؤم عندما لا تسمى الأسماء بسمياتها ليفيق الناس ولات ساعة مندم وقد تحولت اليمن إلى أطراف.
الجوف، مأرب، البيضاء، حضرموت،الحديدة، إب، عمران، صعدة، وصنعاء أسماء لمحافظات من شمال اليمن إلى جنوبه يسكنها الخوف والصراع الدموي العبثي وفي بعضها يعيش السكان كما لو أنهم مسلمون في ميانمار، جماعة الحوثي أو كما يسمون أنفسهم (أنصار الله) في شمال البلاد يعاملون الناس بمنطق السيد الذي لديه الحق الإلهي والمستجيبون الذين تجب عليهم الطاعة وتقبيل الركب أما من لا يستجيب فيجب أن يقتل وفي أحسن الأحوال ينسف مأواه، وفي مناطق أخرى يتفشى!! مسلحو القاعدة وهم طبعا (رجال الله) والذين يعتقدون بأن من قتلوه خطأ فإنما أسرعوا به إلى الله، وبينما يبحث الناس عن لقمة عيش تسد الرمق فإن أولويات (رجال الله) هي تفصيل ثوب أفغاني وخسف نعل لا يغطي كل القدم تأسيا بجيوش التوحيد!!. هذا المشهد المليء بالتناقضات والضحالة يؤشر إلى مستقبل كئيب قد تكون تداعياته أقسى من تداعيات سيل العرم وتبديل حياة اليمنيين من أكل السلطة والمندي والمضبي إلى أكل خمط ورصاص أحمر يورد الجميع موارد الضنك.
هذا الواقع جعل قوى داخلية وخارجية تقف مع طرف تراه مناسبا للمرحلة المقبلة ولو انهارت الدولة من أجله ضد طرف لم يعد مقبولا أو تراه دول جوار ذات سياسات مرتجفة بأنه يهدد مصالحها بل ووجودها؛ ولذلك تحالف المرتجفون مع المنتحرين سياسيا ليشكلوا تحالفا أوسع ولو من غير طائفتهم، ضخت الأموال العربية إلى الرئيس المخلوع وبدوره اشترى بها ذمم قادة عسكريين كان قد رباهم على السحت طوال فترة حكمه كل ذلك نتج عنه جفاف في الضمير وشلل في الولاء لوطن يتسع للجميع، لم يعد اليمن اليوم يتسع إلا لأمراء الحرب والمليشيات، ثقافة الدولة تتلاشى، رئيسها أصبح له وطن في مخيلته غير الذي يعرفه كل مواطنيه، ووزير دفاع يحب التجول في أسواق الإمارات كثيرا لكنه هذه المرة لبس بزته العسكرية متجولا لأداء الواجب الوطني ومع حرصه على ذلك لم يستح أن يوجه قيادات المناطق والألوية بأن على جيشنا الوطني البطل أن يصقل سيفه لوقت الشدة أما الشدائد التي يمر بها الوطن لا تعنينا لأن من يصنعها هم (الأطراف) وعلينا التزام السكون وإذا ما نهبت جحافل أنصار الله عتادا من معسكراتكم فهذا عتاد كل اليمنيين.. أما الحوثيون فيرون أنهم يعيشون لحظة التجليات والبركات التي جعلت المؤسسة العسكرية والأمنية تقف إلى جانبهم ولذلك لابد من مواصلة الاجتياح لكل المحافظات الشمالية فقط!! قبل أن تتشكل الحكومة وهذه النقطة بالذات كانت سببا في احتدام الخلاف بين أعضاء المجلس السياسي للحوثيين وفشل عقد اجتماعهم بصنعاء ونقله إلى صعدة ليترأسه السيد عبدالملك الحوثي ويفتي في أمر جلل هل تتقدم الجحافل أم تكتفي بما سيطرت عليه، المعارضون من داخل جماعة الحوثي للتوسع والاجتياح يرون فيه فخا مدبرا قد يسقطهم بالسرعة نفسها التي ارتفع فيها ذكرهم وارتفع بيرقهم الأخضر.
لكن كيف حظي الحوثي بدعم الأصدقاء والأعداء؟ قد لا تحتاج الإجابة إلى تفكير فالولايات المتحدة ترى في القاعدة خطراً لم تفلح في كبح جماحه طائرات الدرنز دون طيار، الإمارات العربية المتحدة أخذت على عاتقها محو جماعة الإخوان المسلمين من الخريطة بحكم عداء استفحل شره عندما قالت سلطاتها الأمنية إنها ألقت القبض على خلية إخوانية كانت تحضر لقلب نظام الحكم، الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح يرى أن من أسقط عرشه في الأساس هو حزب التجمع اليمني للإصلاح المتهم أصلا بأن المتشددين والمتطرفين خرجوا من تحت عباءته وهذا ما كانت تعززه ملفات استخبارية ترسلها مخابرات المخلوع للمخابرات الأمريكية قبل ٢٠١١، إذا الحوثيون اليوم هم أسياد المرحلة وعليهم تمهيد الطريق أمام قوى كامنة ترقب التطورات بل وتديرها عن بعد لتنقض بضربة فجائية أو بتحالف جديد للعودة للحكم خاصة أن قوات الحرس الجمهوري والشرطة العسكرية الموالية لعلي عبدالله صالح لا تزال متماسكة بل وعند الخلاف بين (الأطراف) المتناحرة تكون هي من يستلم المواقع المتنازع عليها.. إذا هناك تحضير لأمر ما بعد وصول الظاهرة الحوثية إلى أوج عزها وتحقيق أهدافها إما أن تحكم هي اليمن مباشرة كما قلت في مقال سابق أو يحكم نجل الرئيس المخلوع بدعم قوات الحرس الجمهوري، لكن هل سيتم إنجاز هدف تحطيم تنظيم القاعدة؟ هل سيتم اجتثاث جماعة الإخوان المسلمين؟ هل سيعود الأمن لليمنيين؟ لن يعتب اليمنيون على إيران التي تتبجح بانتصاراتها الماحقة في أرض العرب، لن يعتب اليمنيون على السياسة الأمريكية والأممية التي لم تكن يوما في صالح دول العالم العربي، لن يعتب اليمنيون على الرئيس المخلوع لأنه غارق في الإساءة والتخريب لبلدهم، لكن ربما يعتب اليمنيون على بلد أحبو شيخه المرحوم لأنه لو كان حيا لما قبل بأن تحترق اليمن بلد أجداده إرضاء لنزوة الانتقام السياسي.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
4917
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3699
| 21 أكتوبر 2025