رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
رؤية متكاملة قدمها سمو الأمير لركائز التنمية والإنجازات..
الاستثمار في التعليم ضمانة لمستقبل أجيال قطر
الخطاب السامي السنوي لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، حفظه الله ورعاه، أمام افتتاح دور انعقاد مجلس الشورى يحظى بترقب شديد محليا وخارجيا، لما يتميز به من طرح ورؤى ثاقبة، وما يحمله من خريطة طريق لعمل مؤسسات القطاعين العام والخاص، وهو خطاب يستأثر باهتمام كبير من قبل أبناء قطر الذين يتلمسون من رؤية سمو الأمير وتوجيهاته ورسائله المتضمنة بالخطاب استرشادا للحاضر والمستقبل، لاستكمال مسيرة النهضة والتنمية الشاملة.
لقد قدم سمو الأمير المفدى صورة ناصعة لما تحقق من إنجازات جديرة بالفخر والاعتزاز وتشكل بوابة عبور نحو المستقبل المزدهر، تنتقل فيه قطر إلى مرحلة جديدة من التطور والنمو.
ولهذا حرص سموه على الدعوة لحمد الله وشكره على النعم التي أنعم بها على قطر، حيث توجه إلى أبناء قطر قائلا:"علينا أن نحمد الله على نعمه وأن نتذكر أن هذه النعم لا تدوم إلا من خلال الجهد الدؤوب في الحفاظ عليها وتطويرها والاستثمار فيها لخير المجتمع والأجيال القادمة".
هذه النعم تتطلب أن يتحمل الجميع مسؤوليته تجاه الحفاظ على المكتسبات والإنجازات والارتقاء بالإنسان وقيمه وهويته الحضارية، ولذلك دعا سموه إلى" تشجيع الشباب على البحث عن معنى وهدف لحياتهم من خلال العمل وتطوير أنفسهم والإسهام في خير الوطن والمجتمع."
ومع دخول قطر مرحلة جديدة من التطور في جميع المجالات فقد نبه سمو الأمير المفدى إلى أن "للتطور مقتضياته وتتطلب المرحلة الارتقاء بدور المواطن وإدراكه لمسؤولياته، كما تتطلب الانفتاح على الأفكار الجديدة ومواكبة التطور العلمي والتكنولوجي والثقافي على المستوى العالمي."
إنها مسؤولية كبرى تقتضي إدراك المواطنين لواجباتهم تجاه هذه المرحلة الجديدة التي يدخلها الوطن لمواكبة التطور والانتساب بجدارة إلى العصر، تتطلب وعيا وانفتاحا وتفهما للأفكار الجديدة التي ينتجها التطور العلمي والتكنولوجي.
فالحفاظ على الهوية الوطنية والقيم والالتزام بالمبادئ جزء أساسي لتقدم المجتمعات، وهو ما يتطلب اليوم من الأسرة أن تغرس هذه الأمور في أبنائها من الصغر، فهي تشكل حصانة للأجيال في الكبر.
وتعتبرالمرحلة الجديدة التي تدخلها قطر ثمرة من ثمار الإنجازات التي تحققت في اقتصادنا الوطني والتي حرص سمو الأمير المفدى أن يبدأ الخطاب بالإشارة إلى أن اقتصادنا الوطني واصل أداءه الإيجابي في ظل بيئة اقتصادية عالمية تتسم بالتقلبات، وحافظ على استقراره وثقة المستثمرين بقدرتنا على إدارة مواردنا بكفاءة عالية، كما أن كل المؤشرات تؤكد "أداء اقتصادي واعد، حيث يحافظ الاقتصاد القطري على وتيرة نمو قوية فقد سجل نسبة نمو بلغت 2.4% في العام 2024 ونسبة 1.9% على أساس سنوي خلال الربع الثاني من عام 2025، ولعبت القطاعات غير الهيدروكربونية دورًا أساسيًا وداعمًا للتنمية المستدامة."
هذا النجاح الاقتصادي يستند إلى رصيد من الإنجازات في القطاع المالي، وقد تطرق سمو الأمير إلى هذا النجاح المالي، مشيرا إلى" أن القطاع المالي حافظ على متانته، مدعومًا بارتفاع الاحتياطيات الدولية والسيولة بالعملات الأجنبية لمصرف قطر المركزي في نهاية العام 2024، بزيادة قدرها 3.7% على أساس سنوي مقارنةً بنهاية العام 2023، مع بقاء التصنيف الائتماني للاقتصاد القطري عند مستويات مرتفعة لدى كبرى وكالات التصنيف العالمية، لتؤكد بذلك مرونة دولة قطر وجاذبيتها المستمرة كوجهة استثمارية آمنة ومستقرة."
وكان الإنجاز المهم على هذا الصعيد التمكن من خفض الدين بنسبة كبيرة، حيث أوضح سمو الأمير أن "نسبة الدين إلى الناتج المحلي تراجعت من 58.4% في عام 2021 إلى 41.5% بنهاية النصف الأول من عام 2025."
ما تحقق في المجالين المالي والاقتصادي يتكامل مع إنجازات قطاع الطاقة الذي واصل نموه الواثق رغم التحديات الاقتصادية والجيوسياسية، حيث أكد سمو الأمير أن " قطاع الطاقة تجاوز آثار الصراعات الإقليمية واستمر بالإمدادات العالمية للطاقة دون انقطاع." منوها بالإنجاز الكبير في افتتاح محطتين للطاقة الشمسية في رأس لفان ومسيعيد تأكيدا لالتزام قطر بالاستدامة البيئية.
ونظرا لأهمية القطاع الخاص ودوره في التنمية الاقتصادية فقد أكد سمو الأمير أن الدولة تولي اهتمامًا كبيرًا بدعم وتحفيز القطاع الخاص، مشيرا إلى تقديم حزمة واسعة من برامج التمويل والتأمين والضمان، لدعم القطاع الخاص، معلنا عن برنامج لفتح مجالات استثمارية في مشروعات وأصول منتقاة تخلق فرصًا للقطاع الخاص مما يعزز جذب الاستثمارات الأجنبية، ورفع كفاءة التشغيل والإنفاق في قطاعات حيوية مختارة.
واستكمالا لعملية جذب الاستثمار وتوفير أفضل بيئة أعمال في قطر فقد توقف سموه عند أهمية تطوير أنظمة العدالة ووضع الآليات اللازمة لضمان سرعة الفصل في الدعاوى معتبرا أن "العدالة البطيئة نوع من الظلم".
لقد نجحت دولة قطر بجميع مؤسساتها في العمل كمنظومة متكاملة لتحقيق أهداف استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة لترجمة رؤية قطر الوطنية 2030 إلى واقع ملموس، حيث أكد سمو الأمير المفدى التزام مؤسسات الدولة بتحقيق التطلعات التنموية المستدامة والشاملة، مشيرا إلى القفزات النوعية التي تحققت في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتعليم والصحة والرفاه الاجتماعي، مما عزز مكانة قطر كوجهة جاذبة للاستثمارات في القطاعات التنافسية والتكنولوجيا.
وبقدر ما تعتبر هذا القفزات نوعية ومهمة بقدر ما حرص سمو الأمير المفدى إلى التوجيه بأنه "ثمة حاجة لمضاعفة الجهود لتحقيق مزيد من الإنجازات في هذه المجالات." تلك هي إرادة القائد الذي يوصي بحاجتنا إلى المزيد من الإنجازات وعدم الاكتفاء بما تحقق. فالطموح كبير والتطلعات بحجم الطموح لمستقبل مزدهر لقطر وأجيالها المتعاقبة.
لعل النقطة الأكثر أهمية التي وردت في خطاب سمو الأمير المفدى هي الاستثمار في التعليم، حيث قال سموه: الاستثمار في التعليم هو الأساس الذي تقوم عليه نهضتنا، وهو الوسيلة التي نصنع بها مستقبلنا مؤكدا" أن رأس المال البشري هو الثروة الحقيقية لأي دولة، ولذلك فإننا ماضون في تطوير منظومة التعليم والتدريب، وتأهيل كوادرنا الوطنية للمستقبل، لاستيعابهم في سوق العمل على أساس التحصيل والكفاءة والإنجاز".
وعندما نسمع هذه النظرة الثاقبة من سمو الأمير المفدى يحق لنا أن نطمئن إلى مستقبل أجيال قطر، وأن نزهو فخرا بقائد جعل من الاستثمار في التعليم أولوية وأساسا في النهضة.
لقد خاطب سمو الأمير المفدى كعادته المجتمع القطري بكل شفافية وصراحة، فمثلما أشاد سموه بالإنجازات والانتقال إلى مرحلة جديدة، كان حريصا أن ينبه المجتمع ويحذره من بعض المظاهر السلبية التي تبرز مع الارتقاء بمستوى المعيشة والرفاه الاجتماعي، والتي تصاب بها المجتمعات الاستهلاكية، ولذلك حذر سموه من تفاقم نزعة الاتكال على الدولة، داعيا إلى تشجيع الشباب على البحث عن معنى وهدف لحياتهم من خلال العمل وخدمة الوطن والمجتمع.
وعلى الرغم من تناول سمو الأمير في خطابه أمام مجلس الشورى قضايا كثيرة، إلا أن سموه حفظه الله خصص حيزا مهما لموضوع الأسرة وتماسكها، التي أساسها التربية الأسرية والتي أثبتتها كل دراسات العلوم الاجتماعية، حيث قال سموه "أشدد على أهمية التربية الأسرية وضرورة اضطلاع الوالدين مباشرةً بتربية الأطفال". وفي هذه النقطة توجيه سامٍ يستدعي اهتمام الأسر القطرية والأخذ بهذا التوجيه، لأنه ضمانة للاستقرار الاجتماعي وبناء الأجيال القادرة والناجحة.
كان خطاب سمو الأمير شاملا ومتكاملا في جميع جوانب الشأن المحلي، مما يجعله دليلا يسترشد به أبناء المجتمع القطري وبرنامج عمل للمؤسسات في القطاعين العام والخاص. لكن الشأن الخارجي لم يغب عن خطاب سموه، حيث كانت وقفته المهمة عند الشأن الفلسطيني الذي يعتبر الثابت الدائم في سياستنا الخارجية، فقد جدد سموه دعم قطر الثابت للقضية الفلسطينية، والتأكيد على كون غزة جزءًا لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية الموحدة، مشيرًا إلى التزام دولة قطر بدعم حقوق الشعب الفلسطيني وسيادته الوطنية، وحث المجتمع الدولي على حماية الشعب الفلسطيني وضمان عدم إفلات مرتكبي الإبادة من المحاسبة.
لقد جدد سمو الأمير التزام قطر في الإسهام بفاعلية للتصدي لما تواجهه أمتنا العربية والإسلامية من تحديات بما يحقق لشعوبنا طموحاتها في الأمن والاستقرار والتنمية المستدامة فضلًا عن تحقيق السلم والأمن الدوليين.
إن دولة قطر الوفية تجاه قضايا أمتها العربية والإسلامية وعلى رأسها قضية فلسطين تواصل دورها المشهود في الوساطة وحل النزاعات، حيث أشار سموه إلى أن جهود قطر في هذا المجال أسهمت في تعزيز مكانة قطر العالمية وربط اسمها بدورها الإيجابي والفاعل هذا. وإضافة لما في هذا الدور من فائدة في حل النزاعات وحقن الدماء لصالح الإنسانية جمعاء، فإنه يعزز مكانة الدولة ومنعتها، وشعبنا يدرك ذلك.
إلا أن هذا الدور الفاعل والمؤثر لدولة قطر كان له ثمن باهظ عندما تعرضت قطر لاستهدافين وانتهاكين مستنكرين، أحدهما من إيران والآخر من الكيان الإسرائيلي، إلا أن قطر خرجت منهما أكثر قوة وحصانة، واثبت مجددا المكانة التي تتبوأها في المجتمع الدولي، الذي انتفض رافضا للاعتداءات التي تعرضت لها.
قضية فلسطين ليست قضية إرهاب، بل هي قضية احتلال مديد.. هكذا وصف سمو الأمير المفدى، القضية الفلسطينية العادلة، وهو وصف دقيق لا يحتاج إلى كثير من الشرح أو البحث عن اقناع.. الحل إنهاء الاحتلال وإعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة.
لقد تضمن خطاب سمو الأمير المفدى، حفظه الله ورعاه، بشائر الخير لأهل قطر، مثلما تضمن التزاما بثوابت السياسة الخارجية لجهة الاستمرار بدور الوساطة لحل النزاعات بالطرق السلمية خدمة للإنسانية جمعاء.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3069
| 21 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
3066
| 20 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2856
| 16 أكتوبر 2025