رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

شريف عبد الرحمن سيف النصر

شريف عبد الرحمن سيف النصر

مساحة إعلانية

مقالات

2557

شريف عبد الرحمن سيف النصر

العرب ومتلازمة ستوكهولم

23 يوليو 2014 , 01:48ص

متلازمة ستوكهولم هو مصطلح يطلق على الحالة النفسية التي تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يحمل مشاعر إيجابية تجاه عدوه. وقد أطلق على هذه الحالة هذا الاسم نسبة إلى حادثة جرت في مدينة ستوكهولم السويدية عام 1973 حين سطا عدد من اللصوص على بنك، واتخذوا أربعا من موظفي البنك رهائن لعدة أيام.

خلال تلك الحادثة وبدلا من مقاومة الجناة بدأ الرهائن في التقرب من خاطفيهم، والتوحد معهم، والنظر إلى قضيتهم على أنها قضية عادلة، ثم قاموا بالدفاع عنهم بعد إطلاق سراحهم، وقاوموا إيقاع أي عقوبة بهم، بل قاموا بجمع تبرعات للدفاع عنهم أمام القضاء وذلك رغم كل ما تعرضوا له على أيديهم من قهر وإذلال.

يفسر المختصون هذا الانحراف النفسي بأنه أسلوب تمارسه "الضحية" لا شعوريا عندما تقع تحت ضغط هائل يهدد اتزانها النفسي، فتبدأ — في رد فعل لا إرادي— بمحاولة الثقة في الجاني، والنظر إليه على أنه ليس بالشر الذي يبدو عليه، خاصة إذا أبدى الجاني أي فعل ينم عن العطف مهما كان صغيرا، وحتى لو كان ذلك الفعل هو مجرد الإبقاء على حياة الضحية، هنا تقوم الضحية بتضخيم هذا الفعل، والمبالغة في تقديره، وإظهار الاستسلام الكامل للجاني، بل قد ترفض أي محاولة لإنقاذها منه، معتبرة هذه المحاولة تهديدا للاستقرار الذي تتمتع به في ظله.

الخطابات العربية التي تنتصر لإسرائيل في عدوانها الأخير على قطاع غزة تحمل ملامح واضحة من أعراض متلازمة ستوكهولم. فإسرائيل التي فرضت على العرب بالقوة، واحتلت أراضيهم، وقتلت نساءهم وأطفالهم، واكتسبت كل ما من شأنه أن يجعلها تحتل موقع الجاني بامتياز، أصبحت تصور اليوم من قبل قطاعات واسعة على أنها جارة طبيعية، وأنها ليست العدو الحقيقي الذي يهدد العرب، وأنها في عدوانها الأخير على قطاع غزة إنما تقوم بعمل مشروع من أعمال الدفاع عن النفس إزاء الإرهاب الذي تمثله المقاومة الفلسطينية بفصائلها المختلفة، وعلى رأسها حركة حماس.

صحيح أن من تولى كبر هذه الحملة المنحرفة هو الإعلام الفضائي، إلى درجة أصبح معها التلفزيون الإسرائيلي يستشهد بفقرات لإعلاميين عرب يحرضون فيها على المقاومة الفلسطينية ويحيون فيها صمود الجنود الإسرائيليين، إلا أن قطاعات واسعة من الناس العاديين أصبحت تتقاسم هذه القناعات، وترددها، وتتحمس لها، ولا تستشعر خجلاً وهي تصرح بها علانية، ما يوحي أننا أمام حالة واسعة وليس سلوكا فرديا، تحول بموجبها الكثير من ضحايا الماضي القريب من بغض عدوهم والرغبة في الانتقام منه، إلى التعلق به، وتبني قضيته، والإشادة بشجاعته وجرأته.

وصحيح أيضا أن جزءا من تفسير هذا المشهد العبثي يتعلق بالموقف من حركة حماس، وارتباطها بجماعة الإخوان، التي حازت قدرا كبيرا من التشويه طوال الفترة الماضية، ولكن اختفاء الذاكرة التاريخية تماما يوحي بأننا أمام حالة مرضية وليس موقفا سياسيا، فمهما كان حجم الرفض لحماس، وأيا ما كان الموقف من جماعة الإخوان المسلمين، فإن التوحد مع إسرائيل، وعدم القدرة على رؤية العدوان فيما تمارسه، أو رؤيته ثم التشفي في الفلسطينيين العزل المحاصرين، يوحي أننا أمام انحراف بلا ذاكرة، وبلا عاطفة، أو هو بالأحرى بذاكرة مشوهة وعاطفة منكوسة.

مكمن هذا الانحراف من وجهة نظري هو حالة التعايش التي مارستها الكثير من شعوب المنطقة مع أنظمة القمع والإذلال، فالموقف المهادن للعدو الخارجي ليس سوى انحراف فرعي من انحراف أصلي بدأ من الخضوع لأنظمة القمع الداخلي. فإزاء الاستبداد الذي يتصورون عدم إمكانية دفعه، تلبست قطاعات واسعة من الشعوب العربية حالة من الخوف المرضي من المستبد، وخضعت له وتوحدت به، ثم صورته على أنه المنقذ والضامن لحياتهم واستقرارهم. بدورهم يغذي المستبدون هذه المشاعر، بالتأكيد في كل مناسبة على أن الأخطار تحدق بشعوبهم من كل اتجاه، وأنه لولاهم لدبت الفوضى ولحصل الاحتراب الأهلي. ومع الوقت يعتاد الأفراد على الاستبداد لدرجة تجعلهم يخشون من التغيير، حتى وإن كان للأفضل، ويدافعون عن المستبد، ويؤكدون محاسنه القليلة، دون الالتفات إلى مظاهر القمع والفساد التي تشوب حكمه. ومن المفهوم أن الأفراد الذين يحملون هذه القناعات تجاه أنظمتهم القمعية لا يجدون صعوبة في تبني قناعات شبيهة تجاه السلوك الإسرائيلي ضد قطاع غزة.

ويبدو أن إسرائيل قد فهمت حقيقة وقوع الكثير من العرب في أسر هذه المتلازمة، فبدأت في تطوير أدائها، بحيث تزيد من انغماسهم فيها، وذلك حين يتحدث مسؤولوها عن رغبتهم في العيش المشترك، وعن الدور السلبي الذي تلعبه المقاومة في تبديد هذا الحلم، هذه التصريحات تلعب دور المخدر العاطفي الذي يمارسه الخاطف إزاء الضحية.

وبالفعل فإن الكثير ممن يعانون هذه المتلازمة قد توقفوا عن المطالبة بحقوق الماضي القريب واعتبروها نوعا من الترف، ثم هم يرضون من إسرائيل أن تحتل أراضيهم طالما أن ذلك يعفيهم من عبء الدخول معها في عداء جديد، وإذا كان من الضروري أن يكون الفلسطينيون هم كبش الفداء لهذه الصفقة الجائرة، فليقوموا بذلك الدور من دون الضجيج الذي تحدثه حماس، أو غيرها من الجماعات المقاومة.

إذا نحن أمام انحراف نفسي واسع النطاق، بحاجة إلى إعادة تأهيل الجماعات التي تعاني منه، وذلك عبر خطاب إعلامي يعيد ترسيخ المعايير الأولية للمنطق، ويعيد تعريف البدهيات، لتحديد من هو العدو وعلى أي أساس صار عدوا، وتعريف الصديق وعلى أي أساس قبل كصديق، ولكن أنى لنا بإعلام نزيه ينهض بهذا الدور، في ظل حالة الانقلاب التي تشمل كل جوانب حياتنا.

مساحة إعلانية