رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ثمة إشكالية دستورية وسياسية في آن معا، لا تبدو مبحثا أساسيا صلب القانون الدستوري، ولا ضمن العلوم السياسية: هل الدساتير هي التي تنشئ الحياة السياسية، أم أن المشهد السياسي بصراعات الأحزاب وجماعات الضغط واللوبيات المالية، ومكونات المجتمع المدني والحراك الشعبي، هو الذي يصنع الدساتير ويضع نصوصها؟ وإلى أي مدى سيحافظ الدستور والحياة السياسية على ذلك التناغم المأمول؟
إشكالية،،، حاول مركز الدراسات الإستراتيجية والدبلوماسية في تونس طرحها على بساط النقاش مؤخرا، وسط جدل لم يحسم حول: من يصنع من؟ وهل تواجه الحياة السياسية في تونس، مشكل نصّ دستوري بدا للبعض غامضا و"حمال أوجه"، أم أن "دستور الثورة" يحمل إجابات وصياغات لمشكلات النخب في علاقة بممارساتهم السياسية، داخل الحكم ومن خارجه؟
في الحقيقة لا تبدو هذه الإشكالية تونسية المنشأ.. فقد عانت إيطاليا من قطيعة بين نصها الدستوري وحياتها السياسية، بما أنتج ذلك الوجه الفاشي الذي طبع جزءا من تاريخها المعاصر.. وهو نفس الوضع الذي عرفته ألمانيا في الحقبة الهتلرية، عندما ارتدت إلى نازية مقيتة..
حتى في فرنسا العريقة ديمقراطيا وحقوقيا، وجدت طبقتها السياسية نفسها في مواجهة مشكل "التعايش" بين اليمين واليسار صلب الحكم، على عهد شيراك وجوسبان، منتصف تسعينيات القرن المنقضي.. وهي معادلة لم يتحدث عنها الدستور الفرنسي، ذو النظام الرئاسي، لكن إرادة الناخبين، فرضت هذا الخيار على الطبقة السياسية الفرنسية، وطوّعت النص لهضم واقع جديد..
أما في السياق العربي الحديث، فالأمثلة كثيرة عن ارتدادات وحالات نكوص، وانقلابات فاضحة على هواجس دول "الاستقلال الوطني" بتعدد تسمياتها وتجاربها..
سياقات الصراع
لا شك أن دستور جانفي 2014 في تونس، صيغ في ظروف غير مسبوقة تاريخيا.. كان ثمة دم سياسي سال، واحتجاجات واعتصامات وإضرابات ومحاولات انقلابية حيكت، و"إرهاب مصنّع" من الداخل والخارج، يتحرك بين الجميع ويؤشر لحرب أهلية، كانت تطل برأسها بين الفينة والأخرى.. فيما المجلس الوطني التأسيسي، كان يناقش ويجادل ويكتب هذا النص، تحت وقع تجاذبات وصراعات، ظاهرها سياسي، وباطنها إيديولوجي عقائدي، وغلافها حقوقي، وسياقاتها وطنية مشحونة ببعد إقليمي مركّب ومعقّد..
عكس هذا النص الدستوري حينئذ، صراعات مرحلة، لكنه ترجم كذلك هواجس النخبة وجزءا هاما من تطلعات الطبقة السياسية، التي حرصت على وضع مخاوفها المختلفة والمتناقضة أحيانا في نصّ الدستور..
فالمعارضة، عملت على محاصرة "الترويكا" الحاكمة بقيادة حزب النهضة، من خلال "فرملة" ما كانت تسميه "تغولا في الحكم"..
وحركة النهضة وحليفاها في الحكم، الذين كانوا يراهنون على النظام البرلماني، حرصوا على تضييق الخناق على صلاحيات رئيس الجمهورية، وعلى تحجيم دور المعارضة، ونتف كل ما أمكن من أجنحتها..
كلاهما حرص على إدراج "شهوته" في الدستور، بالشكل الذي يضمن مصالحه ووجوده ودوره، في حرب مواقع كادت أن تأتي على الأخضر واليابس برمته.. لا أحد منهما فكر في تغير موقعه، أو في إمكانية أن ينزاح النظام السياسي التونسي باتجاه استبداد جديد، أو أن تجد المعارضة نفسها بلا هامش أو مساحة تسمح لها بأن تنظم فعل الرفض والمعارضة أصلا..
هكذا كان الدستور الجديد، ترجمة لصراعات سياسية وحزبية، وتصفية لمعارك إيديولوجية قديمة، ردمها النظام المخلوع لعقدين من الزمن، وجاءت ثورة 14 يناير لكي تعيدها إلى سطح الصراع الفكري والسياسي، مع تلك الرغبة الجامحة في الوصول إلى السلطة، التي كان كل طرف يرى في نفسه الأقدر على أن يكون على رأسها..
نحو النظام الرئاسي..
الإشكال الذي تواجهه النخبة التونسية اليوم، هي مخرجات الانتخابات الماضية بشقيها التشريعي والرئاسي.. فقد أفرزت هذه الاستحقاقات، طرفا سياسيا أساسيا في الحكم، هو حزب نداء تونس، الذي يصفه البعض بـ "الجهاز المرسكل للنظام القديم".. لقد أصبح هذا الحزب في الرئاسات الثلاث: القصر الجمهوري ورئاستي الحكومة والبرلمان، وبالتالي ففرضيات الصراع بين السلطة التنفيذية والبرلمان، والتي استخدمت الأطراف السياسية بيمينها ويسارها، جميع الأدوات لتكريسها في الدستور، لم تعد متوفرة، بما يجعل السؤال الأهم مطروحا بقوة: هل دخلت تونس طور النظام الرئاسي، خصوصا مع وجود الباجي قايد السبسي، على رأس الدولة، وهو المشبع بثقافة النظام الرئاسي وسياقاته المختلفة؟ وإذا ما كان الحبيب الصيد، رئيس الحكومة الحالي، مجرد أداة تنفيذية ـ كما يردد البعض ـ فهل تنزلق التجربة مجددا إلى النظام الرئاسي؟ وهنا يطرح أمامنا السؤال المؤرق فعلا: هل تونس تعيش "في نظام هجين لا يشبه شيئا"، كما ذهب إلى ذلك جوهر بن مبارك، أحد أساتذة القانون الدستوري؟
لا أحد في تونس يمكن أن يشك لحظة في أن المسار في غير الوجهة التي طمح إليها التونسيون بثورتهم، خصوصا أمام مشاريع القوانين التي مررتها الحكومة إلى البرلمان، و"التعلميات" الصادرة عن السلطة التنفيذية في علاقة بقضم الحريات، وعودة الأمن إلى سطوته الماضية، بل استئناف الميكانيزمات القديمة في العمل من جديد، وكأن البلاد لم تعرف ثورة، ولم تشهد زلزالا ذات 14 يناير 2011 !
هل نحن بإزاء ردّة سياسية تلبس قناع "الانتقال الديمقراطي"، أم هو مخاض تسوية كتبت أحرفها قوى إقليمية ودولية، ورفعت لواءها "قوى" داخلية بأمانة وبدم بارد أحيانا ؟
في كل الأحوال، يبدو النص الدستوري، بل حتى النظام السياسي الذي تمخض عنه، في منطقة "الأوف سايد" حاليا، وسط مخاوف يطلقها كثيرون، من قلب الحزب الحاكم قبل المعارضة، بوجود مؤشرات لعودة الحياة السياسية إلى نقطة الصفر، نقطة ما قبل سقوط رأس النظام السابق، خصوصا أمام نكوص الإعلام على عقبيه، وتراجع حراك المجتمع المدني، وصمت المعارضة التي تشهد بداية تآكل رصيدها، بفعل عوامل كثيرة ليس هنا مجال عرضها..
هل تشهد تونس حقيقة، لحظة "فكّ ارتباط" أو قطيعة بين النص الدستوري وواقع سياسي جديد، أبرز علاماته، إمكانية عودة الاستبداد بأدوات وعناوين وأسماء "ديمقراطية" أو هكذا تقدم نفسها؟
للأسف،،، مؤشرات عديدة تصبّ في هذا الاتجاه وتدعمه يوما بعد يوم.. والذريعة، بل الذرائع موجودة ومتوفرة وعلى قارعة الطريق، ما يجعل "دستور الثورة" رقما خارج المعادلة السياسية الراهنة تماما..
قطر والأمم المتحدة.. احتفاء بالشراكة في ذكرى تأسيس المنظمة
تشكل الذكرى الثمانون لتأسيس منظمة الأمم المتحدة، واليوم العالمي للمنظمة الذي يصادف الرابع والعشرين من أكتوبر من كل... اقرأ المزيد
147
| 24 أكتوبر 2025
الاضطراب الجماعي.. مجتمع ينخره الرعب!
يعاني الإنسان منذ القدم من الأمراض الجسدية والنفسية البسيطة والمعقدة، ويبدو أن الأمراض الجسدية تَقلّصت بمرور الأيام وبتطوّر... اقرأ المزيد
474
| 24 أكتوبر 2025
صدقت يا صاحب السمو.. وطنياً وعربياً ودولياً
يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من أكتوبر 2025 تفضل حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه... اقرأ المزيد
213
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية



مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6180
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3741
| 21 أكتوبر 2025