رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أمتنا أمة عظمية، ذات منهج عظيم، ورسالة عالمية عظيمة، من قبلُ قادت هذه الأمة البشرية، وأحسنت قيادها، وساساتها بما حقق للبشرية السعادة والطمأنينة، ثم أصيبت بأمراض شتى، جعلتها في ذيل الأمم، لكنها – بإذن الله تعالى- قادرة على أن تقود البشرية من جديد، وتسود الأرض مرة ثانية، لكن أمر السيادة والريادة لا يتم بالأماني والشعارات، ولا بالشكوى والبكاء، الريادة والسيادة طريقهما التخطيط الدقيق، والعمل الجاد الدءوب، فلا بد لنا من وضوح في التخطيط، وجدية في العمل، وتشير الدراسات الحديثة إلى أن كل ساعة نقضيها في التخطيط ستوفر علينا (٤) ساعات عند التنفيذ.
الصحة والتعليم الأساسي
وحيث إننا ماضون في هذه المقالات بطرح مشاكلنا مع تقديم رؤية وأفكار لها، فإننا سنبحث خلال هذا المقال وما بعده مشكلة الصحة والتعليم الأساسي في أمتنا الإسلامية، ولعل شهر رمضان الذي فرض فيه الصوم لصحة المؤمنين ونزل فيه قول الله تعالى (اقرأ) يكون حافزا لنا في الحديث عن هذين المجالين.
أفضل ست دول في العالم في معيار الصحة والتعليم الأساسي
* المركز الأول: بلجيكا
* المركز الثاني: فلندا
* المركز الثالث: سنغافورة
* المركز الرابع: آيسلند
* المركز الخامس: نيوزيلندا
* المركز السادس: كندا
هذه هي الدول الأفضل في العالم في معيار الصحة والتعليم الأساسي، فإذا أردنا أن نقتدي فبهم، ولا مانع من أن نقيس أنفسنا بما لديهم، ثم نعدل على الخطط بما يتناسب معنا، فأحد قوانين الإبداع يقول: قلّد أفضل الموجود ثم عدل.
معيار تميز الصحة والتعليم الأساسي لدول الخليج العربي ومصر
الرسم البياني التالي يبيّن الوضع الحالي لدول الخليج العربي بالإضافة لمصر في العام (2011) م، في معيار الصحة والتعليم الأساسي.
* حصلت الإمارات على المركز (37) من أصل (139) دولة
* البحرين حصلت على المركز (35)
* الكويت حصلت على المركز (66)
* السعودية حصلت على المركز (72)
* عمان حصلت على المركز (96)
* قطر حصلت على المركز (15)
* مصر حصلت على المركز (88)
ويحق لنا هنا أن نفخر بدولة قطر العربية، التي نالت المركز (15) على مستوى العالم في معيار الصحة والتعليم الأساسي، أي أنها تفوقت على كثير من الدول الكبرى المتقدمة، مثل أمريكا وبريطانيا والصين.
معيار الصحة كيف يقاس..؟
يقاس معيار الصحة في الدول بعدة أمور أهمها:
(1) ﺗﺄﺛﻴﺮ اﻷوﺑﺌﺔ ﻋﻠﻰ اﻟدوﻟﺔ ومدى اﻧﺘﺸﺎرها خاصة اﻹﻳﺪز واﻟﻤﻼرﻳﺎ واﻟﺴﻞ.
(2) ﻧﺴﺒﺔ اﻟﻮﻓﻴﺎت ﺑﻴﻦ اﻷﻃﻔﺎل.
(3) ﻣﺘﻮﺳﻂ اﻟﻌﻤﺮ اﻟﻤﺘﻮﻗﻊ
أولا: ﺗﺄﺛﻴﺮ اﻷوﺑﺌﺔ ﻋﻠﻰ اﻟدوﻟﺔ
ارتبطت كلمة الوباء (Epidemic) بحدوث مرض معدٍ وانتشاره بشكل واسع بين كثير من الناس في وقت واحد، فهو انتشار مفاجئ وسريع لمرض معين، في بقعة جغرافية، بمعدل فوق المعدل الطبيعي المعتاد.
ولطالما شكّلت الأوبئة مصدر قلق للدول، وتحدياً كبيراً للطب والأطباء وكل من يقدم الرعاية الصحية للناس، بما تسببه من هلاك للأنفس، وإنفاق هائل للأموال، فوباء الملاريا –مثلاً – يحصد أرواح مليون طفل سنوياً، أي بمعدل طفل كل (٣٠) ثانية.
في الماضي كانت الأوبئة تشكل خطراً رهيباً، بسبب الجهل وضعف الرعاية الصحية، وعدم توافر العلاج الناجع، واليوم أيضاً ما زالت الأوبئة تشكل تهديداً للدول، ليس بسبب الجهل، ولكن بسبب سرعة الانتشار بين الناس، لأن انتقال الناس وتواصلهم أصبح أسرع وأوسع من ذي قبل.
وباء الطاعون
ما زالت الصحة تشكل تحدياً أمام رواد التطوير والبناء الحضاري، فلا يمكن أن تتقدم أي دولة طالما بقي معيار الصحة لديها متخلفاً، ولنأخذ مثالا على ذلك وباء الطاعون الذي تنقله الفئران، وأطلق عليها الناس اسم " الموت الأسود " (Black Death).
بين عامي (1347-1352)م اجتاح الطاعون أنحاء واسعة من أوروبا، وتسبب في موت (60) مليون إنسان، أي ما يعادل ثلث سكان القارة آنذاك.
لذا فأي دولة تكون مهيأة لانتشار الأوبئة هي دولة ضعيفة، لا يمكن الاعتماد عليها في التنمية والتطور، ولأننا نخطط لبناء حضارة عالمية لتسود، لا يمكن أن نهمل هذا الجانب، أو أن نغض الطرف عنه، ويمكننا محاصرة الأوبئة من خلال الاستفادة من التطور الإداري وتطويع التقنية لهذا الهدف.
- SARS
مرض (SARS) هو مرض معدٍ يصيب الجهاز التنفسي، ظهر لأول مرة في عام (2003)م، فأصيب الناس على مستوى العالم بالذعر الشديد، والخوف الرهيب، مما دفع دولاً كثيرة إلى دفع تكاليف باهظة لمواجهة هذا المرض، ومن تلك الدول كانت " كندا " التي تشير الأرقام إلى أن تكاليف مكافحة المرض بين عامي (٢٠٠٣-٢٠٠٦)م، بلغت (٨٠٠) مليون دولار، مع أن عدد المصابين لم يتجاوز (160) حالة.
واعترفت الجهات الصحية فيما بعد أنها وقعت فريسة للإعلام الموجّه، والذي بالغ في تضخيم المرض، وأنها لو استفادت من هذه التكاليف، واستغلت تلك المبالغ بشكل صحيح، لأصبح لديها نظام معلوماتي صحي متطور.
انتشار الأوبئة
من المؤشرات التي يقاس بها معيار الصحة في دولة ما، مراقبة ثلاثة أوبئة هي اﻹﻳﺪز واﻟﻤﻼرﻳﺎ واﻟﺴﻞ، لأنها أمراض قاتلة وواسعة الانتشار، فمثلاً وبحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية فإن (40%) من سكان العالم مهددون بخطر الإصابة بالملاريا.
ولقد حاز الإسلام قصب السبق حين دعاء إلى ما اصطلح على تسميته حالياً بالحجر الصحي، حيث يقول النبي "إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ رِجْزٌ أَوْ بَقِيَّةٌ مِنْ عَذَابٍ عُذِّبَ بِهِ قَوْمٌ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي أَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ" أحمد
عمر يطبق الحجر الصحي
لقد طبّق عمر بن الخطاب (مفهوم الحجر الصحي في زمانه، فيما عرف بطاعون " عمواس" الذي مات فيه أمين هذه الأمة، أبو عبيدة عامر بن الجراح (، فعن عبد الله بن عباس "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّامِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءَ.
فَقَالَ عُمَرُ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي الْأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمُ رَجُلَانِ، فَقَالُوا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءَ.
فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ! نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ..." البخاري
أوروبا في القرون الوسطى
قارنوا هذا بحال أوروبا في القرون الوسطى، الذي يصفه " كينيث ووكر" حيث يقول في كتابه "تاريخ الطب " إن ظهور الأوبئة وبشكل خاص الطاعون كان يعزى إلى أسباب إلهية، وهذا يعني عقاب البشر بسبب ذنوبهم " وهذا الأمر يسبب للناس شعوراً بالألم، وإحساساً بالذنب، مما يدفعهم إلى حالات من الهستيريا الجماعية، مثل أن يجتمع المريض بالطاعون مع غيره في ذات الكنيسة، دون تطبيق لأدنى قواعد الحجر الصحي، فترى الكنائس وقد امتلأت بالمصلين والمبتهلين، ومع ترنيمات الصلوات كنتَ تسمع أنين المرضى المصابين بالطاعون، فيزداد المرض انتشار واتساعاً بين الناس.
29 عاماً من الصدارة
احتفلت شبكة قنوات الجزيرة والتي تُبث من قطر في الأول من نوفمبر الجاري بمرور ذكرى 29 سنة على... اقرأ المزيد
15
| 03 نوفمبر 2025
التبصير الطبي.. ميثاق ثقة لا ورقة موقعة
عندما يُجري المريض جراحة طبية، يُثار التساؤل حول من يقع عليه الالتزام بتبصير المريض: هل يلتزم بذلك الطبيب... اقرأ المزيد
15
| 03 نوفمبر 2025
معنى أن تكون شاعراً!
كل شاعر، مهما بدا هادئًا أو مطمئنًا في موقعه، يحمل في داخله جناحين قلقين، لا يطيقان البقاء طويلًا... اقرأ المزيد
15
| 03 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6693
| 27 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2757
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق بالحياة، تملؤه الأصوات وتشتعل فيه الأرواح حماسةً وانتماء. اليوم، صار صامتًا كمدينةٍ هجرتها أحلامها، لا صدى لهتاف، ولا ظلّ لفرح. المقاعد الباردة تروي بصمتها حكاية شغفٍ انطفأ، والهواء يحمل سؤالًا موجعًا: كيف يُمكن لمكانٍ كان يفيض بالحب أن يتحول إلى ذاكرةٍ تنتظر من يوقظها من سباتها؟ صحيح أن تراجع المستوى الفني لفرق الأندية الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تلك الظاهرة، إلا أن المسؤول الأول هو السياسات القاصرة للأندية في تحفيز الجماهير واستقطاب الناشئة والشباب وإحياء الملاعب بحضورهم. ولنتحدث بوضوح عن روابط المشجعين في أنديتنا، فهي تقوم على أساس تجاري بدائي يعتمد مبدأ المُقايضة، حين يتم دفع مبلغ من المال لشخص أو مجموعة أشخاص يقومون بجمع أفراد من هنا وهناك، ويأتون بهم إلى الملعب ليصفقوا ويُغنّوا بلا روح ولا حماسة، انتظاراً لانتهاء المباراة والحصول على الأجرة التي حُدّدت لهم. على الأندية تحديث رؤاها الخاصة بروابط المشجعين، فلا يجوز أن يكون المسؤولون عنها أفراداً بلا ثقافة ولا قدرة على التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كفاءة في إقناع الناشئة والشباب بهم. بل يجب أن يتم اختيارهم بعيداً عن التوفير المالي الذي تحرص عليه إدارات الأندية، والذي يدل على قصور في فهم الدور العظيم لتلك الروابط. إن اختيار أشخاص ذوي ثقافة وطلاقة في الحديث، تُناط بهم مسؤولية الروابط، سيكون المُقدمة للانطلاق إلى البيئة المحلية التي تتواجد فيها الأندية، ليتم التواصل مع المدارس والتنسيق مع إداراتها لعقد لقاءات مع الطلاب ومحاولة اجتذابهم إلى الملاعب من خلال أنشطة يتم خلالها تواجد اللاعبين المعروفين في النادي، وتقديم حوافز عينية. إننا نتحدث عن تكوين جيل من المشجعين يرتبط نفسياً بالأندية، هو جيل الناشئة والشباب الذي لم يزل غضاً، ويمتلك بحكم السن الحماسة والاندفاع اللازمين لعودة الروح إلى ملاعبنا. وأيضاً نلوم إعلامنا الرياضي، وهو إعلام متميز بإمكاناته البشرية والمادية، وبمستواه الاحترافي والمهني الرفيع. فقد لعب دوراً سلبياً في وجود الظاهرة، من خلال تركيزه على التحليل الفني المُجرّد، ومخاطبة المختصين أو الأجيال التي تخطت سن الشباب ولم يعد ممكناً جذبها إلى الملاعب بسهولة، وتناسى إعلامنا جيل الناشئة والشباب ولم يستطع، حتى يومنا، بلورة خطاب إعلامي يلفت انتباههم ويُرسّخ في عقولهم ونفوسهم مفاهيم حضارية تتعلق بالرياضة كروح جماهيرية تدفع بهم إلى ملاعبنا. كلمة أخيرة: نطالب بمبادرة رياضية تعيد الجماهير للمدرجات، تشعل شغف المنافسة، وتحوّل كل مباراة إلى تجربة مليئة بالحماس والانتماء الحقيقي.
2421
| 30 أكتوبر 2025