رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سعدية مفرح

كاتبة كويتية

مساحة إعلانية

مقالات

303

سعدية مفرح

القراءة كرحلة هروب لأن الاطمئنان شقيق الوهم!

25 أغسطس 2025 , 05:15ص

يقول العقاد: «نحن نقرأ لنبتعد عن نقطة الجهل، لا لنصل إلى نقطة العلم». جملة تبدو للوهلة الأولى بسيطة، لكنها تفتح أبوابًا واسعة للتأمل في معنى القراءة، وفي طبيعتها كفعل مقاومة قبل أن تكون وسيلة وصول. ثمة لحظة صامتة، يكتشف فيها المرء أن القراءة ليست مجرد فعلٍ يتباهى به أو عادة يدرجها ضمن أنشطته اليومية كما يفعل مع الرياضة أو المشي أو متابعة الأخبار، بل هي فعل خلاصٍ داخلي يخلّصه من ثِقَل الجهل أكثر مما يمنحه ادعاء امتلاك العلم. القراءة في جوهرها حركة انسحابية بطيئة من دائرة العتمة، وليست اندفاعة متعجّلة نحو منصة النور. إنها مقاومة مستمرة ضد الركود، وضد التواطؤ مع الجهل الكامن فينا وفي الآخرين، أكثر مما هي وصول إلى نهاية بعينها.

حين يفتح المرء كتابًا، لا يفعل ذلك لأنه على يقين من أن الحقيقة الكبرى تنتظره في الصفحة الأخيرة، بل لأنه يتلمس مسافةً جديدة بينه وبين ضيق العالم. يقرأ ليبعد نفسه قليلًا عن ذلك الفراغ الثقيل الذي يتركه الجهل في الروح، يقرأ ليخفف من وطأة الغموض، ليمنح نفسه فرصةً للبقاء في فضاء مفتوح، لا يُسدل ستاره سريعًا على عقلٍ مغلق أو وعيٍ مكتفٍ بذاته. فالمعرفة في حقيقتها ليست رصيفًا نهائيًا تصل إليه القطارات، وإنما سككٌ متجددة لا تنتهي، تَعِد القارئ بمزيدٍ من الرحلة، لا بمزيدٍ من الاطمئنان.

والقارئ الحقيقي لا ينشد الاطمئنان أصلًا، لأنه يعرف أن الاطمئنان شقيق الوهم. يقرأ لأنه يريد أن يتقلّص حجم الجهل في داخله، ولو بمقدار ذرة، ويترك مسافةً أرحب للتساؤل. فكل كتابٍ يفتحه المرء يُنقص شيئًا من جهله، لكنه لا يضيف بالضرورة يقينًا ثابتًا إلى رصيده. كأن القراءة ضربٌ من التخفّف، وليست تخمة. تخفّف من الأحمال الميتة التي يتركها الجهل على صدورنا، لا تخمةً بالمعارف الجاهزة التي نُخدّر بها فضولنا ونقفل بها أسئلتنا.

ولذلك فإن الكتاب الجيد هو الذي يزعزع ولا يطمئن، يفتح ثغرةً جديدة للضوء بدل أن يغلق النافذة بمصطلحات لامعة أو ادعاءات شمولية. الكتاب الجيد ليس قاموسًا جامدًا يكدّس المعارف، بل سؤال متجدد يجعل القارئ في حالة حركة، كمن يسير على جسر طويل بين ضفتين لا يكتمل عبورهما أبدًا. إنه جسر يُبقيه دائمًا في الوسط، حيث المتعة الحقيقية في أن تكون مسافرًا لا واصلًا، متخففًا من الجهل لا متخمًا بالعلم.

وكم هو بائس ذلك القارئ الذي يظن أن الكتب تصنع منه عالمًا في ليلةٍ وضحاها، فيتحول إلى نسخة متعالية من نفسه، متوهمًا أن المعرفة درعٌ لحماية كبريائه لا نافذة لتوسيع إنسانيته. القراءة، حين تُستعمل كأداة تزيينية للذات، تتحول إلى قشرة أخرى من الجهل، لكنها جهل مُتخفٍّ بثياب أنيقة. أما القارئ الذي يواجه الكتب بروح متواضعة، بروح الجائع إلى النور لا المتخم به، فهو الذي يدرك أن كل ما يحصل عليه ليس أكثر من مصابيح صغيرة على طريق مظلم، تكفيه كي يواصل السير، لكنها لا تكفي لإلغاء الظلام.

لقد علّمتني الكتب أن الجهل ليس عدوًا يُهزم دفعة واحدة، وإنما شريكٌ ثقيل نحاول أن نضع بيننا وبينه مسافة. وربما لذلك يبدو القارئ الحقيقي دائمًا في حالة قلق، كأنه لم يعرف بعد ما يكفي، وكأن ما قرأه كلّه مجرد مقدمة لكتاب آخر، وكأن الحياة نفسها مكتبة مفتوحة لن تكفي أعمارنا كلها لقراءتها. تلك هي لذّة القراءة: أن تبقى دائمًا على مسافة من الاكتمال، أن تكون ناقصًا بشكل جميل، ناقصًا بما يكفي كي يظلّ فضولك حيًا، وناقصًا بما يكفي كي تتذكر أنك تقرأ لا لتصل، بل لتبتعد قليلًا عن نقطة العمى.

ولعل أجمل ما في القراءة أنها لا تحتاج إلى تبرير. أنت لا تقرأ كي تصبح أفضل من الآخرين، ولا لتضيف لقبًا جديدًا إلى سيرتك الذاتية، ولا حتى لتكتشف كل الحقيقة. أنت تقرأ فقط لتمنح نفسك حياةً أوسع مما يتيحها لك جدار بيتك أو جدول عملك أو ضيق واقعك. تقرأ لتتسع، ولتتخفف، ولتبتعد. كل قراءة صادقة هي خطوة إضافية في هذا الابتعاد الجميل، ابتعاد عن الجهل الذي يثقل أرواحنا.

إنها رحلة لا تنتهي، لكنها تُبقيك حيًا. فالكتب لا تنقذ المرء من موته، لكنها تمنحه حياةً أغنى داخل موته المؤجل. تمنحه متعة أن يكون في مواجهة نفسه كل يوم، ومتعة أن يعرف أنه لن يعرف كل شيء، لكنه على الأقل يعرف أنه لا يزال يبتعد، صفحةً بعد أخرى، عن الجهل!

مساحة إعلانية