رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
نعم. سيكون هذا من المواضيع الحساسة. وستتراوح مواقفُ البعض تجاهه بين الاتهام والتأنيب، مروراً بالعتب المُعلن أو المكتوم. لكن جدية الموقف
لا تسمح بتمييع التعامل مع مثل هذه الملفات الخطيرة التي لا يمكن أن تظل مُغلقة، خاصةً في ظل العواصف التي تمر بها الثورة السورية، وفي ضوء التأثير الأساسي لهذه المواضيع على مسيرة الثورة من ناحية، وعلى تركيبة سوريا المستقبل من ناحية ثانية.
يُتوقع أن يعترض على الرأي الوارد في هذا المقال مثلاً أولئك الذين يحلمون
بوجود جهةٍ إسلامية (سُنيةٍ) واحدة تكون مصدر الرأي والقرار لغالبية
السوريين.. وسيعتقد هؤلاء أن المقال يناقض الدعوة إلى وحدة الكلمة. لكن من الممكن أيضاً أن يسيء فهم المراد من هذا الكلام بعض المثقفين والعلماء الأكثر موضوعية وحياداً. فالضغوط التي يتعرض لها السوريون من جانب، والواقع الصعب والمعقد لثورتهم من جانب آخر، كلها أسباب تزيد من العبء النفسي المتزايد على الجميع لإيجاد حلٍ ما.. ولما كانت الفرقةُ في الرأي والموقف سبباً أساسياً من أسباب هذا الواقع في نظر الكثيرين، وهذا صحيح، فإن البحث عن كل ما يجمع ولا يُفرﱢق يصبح في نظرهم مشروعاً ومطلوباً ومرغوباً فيه. من هنا يفهم الإنسان شعارات الوحدة ويتفهم الدافع لتشكيل هيئاتٍ ومنظماتٍ تجمع الكلمة، وتُوحد الرأي تجاه القضايا الأساسية التي تواجه الجميع في هذه المرحلة الحساسة.
رغم ذلك، هناك فرقٌ بين الشعور بالحاجة إلى شيء وبين بناء مشروعٍ يحقق أهدافه الحقيقية. إذ لابد من القيام بجردةِ حساب إستراتيجية، من منطلقات شرعية وعلمية وواقعية، تأخذ بعين الاعتبار كلﱠ الآثار والنتائج الإيجابية والسلبية التي ستترتب على البرامج والهياكل التي تُطرح ويعتقد البعض، ببراءةٍ وإخلاصٍ أحياناً، أنها تُحقق المطلوب. خاصة عندما تُؤخذُ القرارات تحت مطارق الضغوط النفسية والعملية الهائلة. ونحن عندما نتحدث عن الصفة الإستراتيجية لجردة الحساب المطلوبة، فإن هذا يعني تحديداً امتلاكَ القدرة على رؤية الآثار بعيدة المدى لأي مشروع، بدلاً من الوقوف عند الآثار الظاهرية القريبة له.
نطرح هذا الكلام تعليقاً على مشروع (المجلس الإسلامي السوري) الذي أُعلن تشكيله منذ فترة ليكون: "مرجعيةً إسلامية للشعب السوري، لتسديد مسيرته والنظر بقضاياه العامة"، كما ورد في بيان الإعلان عن المجلس.
ورغم المقام المحفوظ لمن شاركَ في هذا المشروع، إلا أن هذا لا يعني
وجودَ مناعةٍ أو قدسيةٍ أو أي صفةٍ أخرى تمنع الحوارَ فيه ومناقشته على كل المستويات. وما دام المنطلق المشترك هو البحث عن المصلحة العامة، فإن المجال يصبح مفتوحاً لجميع من يريد أن يدلي بدلوهِ باحترامٍ ومنهجية وموضوعية.
بناءً على هذا يمكن التصريح بأن مثل هذا المشروع، بالشكل الذي تمﱠ عليه، يمكن أن ينطوي على عدة محاذير، نعرضها هنا وفي المقال القادم. فمن جهة، يمكن أن يتحول المجلس إلى ما يشبه (الفاتيكان) السوري، بمعنى أن يتولى مهمات لا يجوز أن تنحصر في أفراده، وأن يُصدرَ توصيات وقرارات وتوجيهات تؤثر في مصير السوريين جميعاً، دون أن تمتلك تلك القرارات بالضرورة كل المقومات والشروط المطلوبة لإصدارها بما يحقق المصالح العامة.
والمسألة الحساسة التي يجب الانتباه إليها هنا تتمثل في ذلك الارتباط الدقيق الذي أصبح سائداً بين الفتوى الشرعية وبين القرارات السياسية والاقتصادية والإدارية. فرغم أن المُعلن أو المُتعارف عليه أن المجلس سيختصﱡ بإصدار فتاوى شرعية، غير أن القاصي والداني يدركان أن تلك الفتاوى الشرعية تتعلق في حقيقتها، وبشكلٍ كبير، بالمسائل الكبرى السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تشغل الواقع السوري المعاصر.
والمشكلة هنا أن إصدار تلك الفتاوى، وهي تمثل في حقيقتها مواقفَ سياسية
وأحكاماً اقتصادية وتوجهاتٍ ثقافية، يتطلب وجود دراسات وتحليلات في غاية العمق والتنوع والشمول من جهة الاختصاص.. وحيث إن تخصص الغالبية العظمى من الشخصيات التي تعمل على هذا المشروع، إن لم يكن جميعهم، ينحصر في إطار العلوم الشرعية، فإن من الصعوبة بمكان أن تتوفر الشروط العلمية اللازمة التي تضمنُ كونَ المسألة قيدَ البحث قد فُهمت ودُرست بالشكل المطلوب. وبالتالي، فإن الفتوى أو الحكم الصادر بخصوصها سيحمل، لا محالة، درجةً من النقص والقصور. الأمر الذي
يمكن أن يؤدي إلى ظهور تَبعاتٍ عملية غير محمودة النتائج، هذا إذا لم يؤدِّ الأمر بمجمله إلى حصول كوارث على أكثر من صعيد.
ومع الاحترام المطلوب للمتخصصين في العلوم الشرعية، غير أن الصراحة والواقعية يقتضيان التأكيد بأن عصر الموسوعات الكبرى المتمثل في بعض العلماء انتهى منذ زمن بعيد. وأصغرُ إنسانٍ يمتلك شيئا من العلم الأصيل بالدين في هذا الزمان ويحترم نفسه، يستحي أن يدعي معرفته بجوانب السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والتاريخ والثقافة والأدب والعلوم.
لقد آن الأوان لنأخذ بكل جدﱢية التعقيدَ البالغ الذي أصبح طابَعَ الحياة
اليوم، ونُدرك الحيوية الهائلة التي صارت تميز واقعنا المعاصر، والتي بات من المستحيل إدراك أبعادُها أو التعامل معها بعيداً عن جملةٍ من الفنون والعلوم والتخصصات التي مازالت ثقافتنا الإسلامية والعربية والسورية زاهدةً فيها، وفي مقدمتها تخصصات العلوم الاجتماعية.
ففي حين كانت العوامل التي تؤثر في الماضي في حياة الإنسان، وفي مصير الأمم والشعوب، محدودةً عددياً، ومحصورةً في بيئته الجغرافية وواقعه الاجتماعي والسياسي المعيّن. تزايدت تلك العوامل اليوم وتنوّعت بشكل يستعصي على الحصر.
وفي حين كان العلماء فيما مضى يتّصفون بالموسوعية، فنجدُ أحدهم عالماً في الدين والاجتماع والفلك والطب والكيمياء وما إليها، صارت غايةُ المُنى لعلماء اليوم أن تكفي حياتُهم للإحاطة الشاملة الدقيقة ليس بعلمٍ واحدٍ فقط، وإنما بأمرٍ جزئي في علمٍ من العلوم.
وأصبح من أهم ملامح هذا العصر أن كثيراً من تلك العمليات الحياتية العفوية التي كانت تمارسُها المجتمعات، أو التي كان الأفراد يقومون بها في الماضي، صارت اليوم علوماً تُدرّسُ في المدارس والجامعات، تُكتبُ حولها المقالات والكتب والأبحاث، وتُقام لها حلقات البحث والندوات والمؤتمرات.
وفي الخلاصة، فإنه لم يعد هناك تقريباً شيءٌ من أمور البشر يُمارسُ عفوياً في هذا الزمان. وإذا كان في بلادنا من لا يزال يعتقد ذلك بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال، فإنما ينتج ذلك عن جهلٍ بهذا العصر وبهذا العالم، وبالإنسان الذي يعيش فيهما. وبالتالي، فإن من الطبيعي أنه لا يستطيع إنسانٌ يحمل رسالةً أو قضية أن يعيش كما يستحق أن يعيش في هذا العصر وفي هذا العالم، فضلاً عن أن يؤدي رسالته ويخدم قضيته، ما لم يدرك تلك الحقيقة الكبرى أولاً، ثم يتحرك وفقاً لمقتضياتها في واقع الحياة.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6708
| 27 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2778
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق بالحياة، تملؤه الأصوات وتشتعل فيه الأرواح حماسةً وانتماء. اليوم، صار صامتًا كمدينةٍ هجرتها أحلامها، لا صدى لهتاف، ولا ظلّ لفرح. المقاعد الباردة تروي بصمتها حكاية شغفٍ انطفأ، والهواء يحمل سؤالًا موجعًا: كيف يُمكن لمكانٍ كان يفيض بالحب أن يتحول إلى ذاكرةٍ تنتظر من يوقظها من سباتها؟ صحيح أن تراجع المستوى الفني لفرق الأندية الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تلك الظاهرة، إلا أن المسؤول الأول هو السياسات القاصرة للأندية في تحفيز الجماهير واستقطاب الناشئة والشباب وإحياء الملاعب بحضورهم. ولنتحدث بوضوح عن روابط المشجعين في أنديتنا، فهي تقوم على أساس تجاري بدائي يعتمد مبدأ المُقايضة، حين يتم دفع مبلغ من المال لشخص أو مجموعة أشخاص يقومون بجمع أفراد من هنا وهناك، ويأتون بهم إلى الملعب ليصفقوا ويُغنّوا بلا روح ولا حماسة، انتظاراً لانتهاء المباراة والحصول على الأجرة التي حُدّدت لهم. على الأندية تحديث رؤاها الخاصة بروابط المشجعين، فلا يجوز أن يكون المسؤولون عنها أفراداً بلا ثقافة ولا قدرة على التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كفاءة في إقناع الناشئة والشباب بهم. بل يجب أن يتم اختيارهم بعيداً عن التوفير المالي الذي تحرص عليه إدارات الأندية، والذي يدل على قصور في فهم الدور العظيم لتلك الروابط. إن اختيار أشخاص ذوي ثقافة وطلاقة في الحديث، تُناط بهم مسؤولية الروابط، سيكون المُقدمة للانطلاق إلى البيئة المحلية التي تتواجد فيها الأندية، ليتم التواصل مع المدارس والتنسيق مع إداراتها لعقد لقاءات مع الطلاب ومحاولة اجتذابهم إلى الملاعب من خلال أنشطة يتم خلالها تواجد اللاعبين المعروفين في النادي، وتقديم حوافز عينية. إننا نتحدث عن تكوين جيل من المشجعين يرتبط نفسياً بالأندية، هو جيل الناشئة والشباب الذي لم يزل غضاً، ويمتلك بحكم السن الحماسة والاندفاع اللازمين لعودة الروح إلى ملاعبنا. وأيضاً نلوم إعلامنا الرياضي، وهو إعلام متميز بإمكاناته البشرية والمادية، وبمستواه الاحترافي والمهني الرفيع. فقد لعب دوراً سلبياً في وجود الظاهرة، من خلال تركيزه على التحليل الفني المُجرّد، ومخاطبة المختصين أو الأجيال التي تخطت سن الشباب ولم يعد ممكناً جذبها إلى الملاعب بسهولة، وتناسى إعلامنا جيل الناشئة والشباب ولم يستطع، حتى يومنا، بلورة خطاب إعلامي يلفت انتباههم ويُرسّخ في عقولهم ونفوسهم مفاهيم حضارية تتعلق بالرياضة كروح جماهيرية تدفع بهم إلى ملاعبنا. كلمة أخيرة: نطالب بمبادرة رياضية تعيد الجماهير للمدرجات، تشعل شغف المنافسة، وتحوّل كل مباراة إلى تجربة مليئة بالحماس والانتماء الحقيقي.
2451
| 30 أكتوبر 2025