رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
الذكاء الاصطناعي يمثل ظاهرة حديثة دخلت حياتنا بسرعة وتؤثر بشكل سريع على الجميع. لقد شهد تراكم المعرفة والتكنولوجيا التي أبدعها الإنسان تزايدًا كبيرًا في القرون الأخيرة. وفي الوقت نفسه، مع تطور التكنولوجيا الرقمية، فإن المعلومات واستخدامها على وشك الخروج عن نطاق السيطرة. اذ يُسجل كل فعل نقوم به، بدءًا من زيارة مواقع الويب وصولاً إلى المحادثات والموسيقى التي نستمع إليها عبر أجهزة الكمبيوتر والهواتف التي نستخدمها، بالإضافة إلى ما نكتبه ونشاركه على وسائل التواصل الاجتماعي. وبناءً على ذلك، فإن كل معاملة ومشاركة يقوم بها ملايين الأشخاص في البيئة الرقمية تنتج كميات كبيرة من البيانات.
الذكاء الاصطناعي هو تقنية حديثة وفعّالة يمكنها دمج البيانات المُنتجة سابقًا وحاليًا. والشركات والدول التي تستطيع استخدام هذه التقنية وتوجيهها قد تحصل على أفضلية هائلة.
وغيرها من الشركات تحتوي على حجم ضخم من بيانات المستخدمين. Google وApple وMeta وX على سبيل المثال على الرغم من إعلانهم عن أهمية الخصوصية، إلا أن استخدامهم لهذا الحجم الكبير من البيانات في صالح شركاتهم قد لا يكون أمرًا مفاجئًا. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تتسرب هذه الكمية الضخمة من البيانات نتيجة للاختراقات وتصبح بأيدي أطراف أخرى.
يمكن أيضًا استخدام الذكاء الاصطناعي للتلاعب بالسياسة، وتمت مناقشة التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016. كما نشهد تقدمًا هائلاً في مجالي الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات خلال السنوات الثماني الماضية، يُلاحظ أيضا زيادة استخدام الذكاء الاصطناعي في ميدان العلوم الاجتماعية. ونظرًا لأن العلوم الاجتماعية تركز على فهم السلوك البشري والتنبؤ به، يمكن للخوارزميات المطورة بالذكاء الاصطناعي أداء هذه المهمة بفعالية أكبر. على سبيل المثال، تقوم الخوارزميات المستخدمة في منصات الفيديو بإنشاء قوائم مفضلة عبر فهم من شاهد مقطع فيديو ومدة مشاهدته والأشخاص الذين أعجبوا به، والمقاطع الأخرى التي تم الاستفادة منها. لذلك، نظرًا لإمكانية إعادة تنظيم وتصنيف هذه القوائم من قِبل الشركات أو الأطراف الثالثة، فإنها عرضة للتلاعب الاجتماعي والسياسي.
تُعَدُّ تطبيقات الذكاء الاصطناعي ذات فائدة كبيرة في مجال العلوم الاجتماعية، حيث يركز هذا المجال على فهم السلوك البشري والمجتمع والثقافة. ورغم أن الأساليب التقليدية للبحث لا تزال فعّالة، يمكن تطوير أساليب جديدة باستخدام الذكاء الاصطناعي وتحليل شامل للبيانات، وهو ما قد يساهم في تقليل التحيزات الأيديولوجية. ومع ذلك، يجب أن ندرك أن المطورين لتلك التطبيقات والخوارزميات قد يظهرون تحيزات، حتى في حال كان لديهم نية تحقيق الموضوعية. لا يمكن ضمان الحياد التام، ويجب مراعاة هذا الجانب أثناء تصميم وتنفيذ هذه التقنيات. وبالإضافة إلى ذلك، قد يتم توجيه هذه البرمجيات وفقًا لمتطلبات واهتمامات معينة، مما يجعلها عرضة للتأثيرات السلبية والتوجيهات التي قد تؤثر على النتائج المستخلصة منها. لذلك، يتطلب استخدام الذكاء الاصطناعي في هذا السياق إشرافًا دائمًا والتأكد من تنفيذه بشكل أخلاقي وموضوعي.
عند بدء أي بحث في العلوم الاجتماعية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مساعدًا في اكتشاف أسئلة البحث، ولكن ينبغي عدم التوقع منه أن يكون مبدعًا للغاية، حيث يقوم بذلك بشكل ميكانيكي باستخدام الموارد المتاحة. بالنسبة لمراجعة الأدبيات العلمية، قد يوفر الذكاء الاصطناعي راحة كبيرة للباحث من خلال تلخيص الدراسات المتاحة بسرعة وبفعالية كبيرة. وعلى الرغم من أنه قد لا يكون من السهل طرح السؤال الصحيح دون مساهمة العامل البشري، إلا أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد في تحديد الأسئلة التي لم تطرح بعد أو لم يتم الإجابة عليها.
أثناء تطوير الفرضيات، يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يُسهّل جمع ومقارنة جميع الفرضيات الموجودة بسهولة وتقديمها بدعم بشري طبعًا.
يُعتبر الذكاء الاصطناعي أكثر فعالية في جمع البيانات، حيث يمكن استخراج معلومات دقيقة من مجموعة بيانات كبيرة جدًا. في الواقع، يُمكن تحقيق وضوح أكبر وتقليل التحيز في اختيار مجتمع البحث العلمي وعينته باستخدام الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، يُمكن للاستطلاعات الوصول إلى جماهير أكبر بكفاءة أكبر دون الحاجة إلى إنفاق الكثير من الوقت والموارد. وبفضل التكلفة المنخفضة للوصول إلى البيانات أو المحاورين، يُمكن تقليل الأخطاء التي قد تنشأ عن اختيار العينة، حيث يتيح الجمع من الكون البحثي بأكمله دون الحاجة إلى اتخاذ عينات. تكمن الفائدة الكبيرة للذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات وتوقع المستقبل. في حالة كانت البيانات الكبيرة، يمكن للذكاء الاصطناعي اكتشاف أنماط لا يمكن رؤيتها بوضوح بالطرق التقليدية. على سبيل المثال، يمكن تحديد هوية الناخبين المترددين في الانتخابات وتنفيذ حملات إعلانية خاصة بهم. يعزز الذكاء الاصطناعي عملية ترسيخ الديمقراطية من خلال إمكانية البحث في مجالات واسعة بتكلفة منخفضة للغاية. ومع ذلك، يجب أن يتم استخدام هذه التكنولوجيا بعناية لتجنب أي تأثير سلبي قد يؤثر على سير العملية الديمقراطية.
على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي قد لا يحل محل الباحثين البشريين في مجال العلوم الاجتماعية، إلا أنه قد يتسبب في فقدان العديد من وظائف جمع البيانات. مرة أخرى، لا يستطيع الذكاء الاصطناعي (في الوقت الحالي) إجراء مقابلات شخصية مع الأفراد، الذين يحملون أهمية فريدة، وتحليل هذه المقابلات. ومع ذلك، سيكون له أثر إيجابي في إعداد التقارير وتقديم نتائج الأبحاث بطريقة فعّالة.
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مفيدًا للغاية في فهم وتصوير الظواهر الاجتماعية من خلال تحليل وتصوير البيانات الكبيرة. ومع ذلك، قد تنشأ قضايا أخلاقية حول خصوصية البيانات والتحيز في كتابة الخوارزميات. ومن الواضح أن الذكاء الاصطناعي سيكون له تأثير كبير على حياتنا في المدى المتوسط والطويل.
Bien hecho España
مع احترامنا لجميع الدول التي ساندت أهل غزة والحكومات التي كانت تدين وتندد دائماً بسياسات إسرائيل الوحشية والإبادة... اقرأ المزيد
165
| 27 أكتوبر 2025
التوظيف السياسي للتصوف
لا بد عند الحديث عن التصوف أن نوضح فارقا مهما بين شيئين: الأول هو «التصوف» الذي تختلف الناس... اقرأ المزيد
87
| 27 أكتوبر 2025
عن خيبة اللغة!
يحدث أحيانًا أن يجلس الكاتب أمام بياض الورق أو فراغ الشاشة كمن يقف في مفترق لا يعرف أي... اقرأ المزيد
102
| 27 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة إسطنبول
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6321
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5082
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3816
| 21 أكتوبر 2025