رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. أحمد المحمدي

مساحة إعلانية

مقالات

153

د. أحمد المحمدي

من أكثر التدقيق حرم التوفيق

02 نوفمبر 2025 , 12:54ص

من لطائف ما أورده الإمام المزي في تهذيب الكمال، ما حكاه عن ابن الجوزي رحمه الله، إذ قال: «العاقل الذكي من لا يدقق في كل صغيرة وكبيرة مع أهله وأصحابه وأحبابه وجيرانه».

كلمة يسيرة في مبناها، لكنها في معناها بحر من الحكمة، تختصر فلسفة التعامل الإنساني في جملة واحدة. فهي تضع للمرء منهجا في الحياة يقوم على التوازن بين العقل والعاطفة، بين الحساب والرحمة، بين الحذر والتسامح.

سعة القلب فوق دقة الميزان

إن المبالغة في المحاسبة تفسد الود قبل أن تحفظه، وتقتل العفوية التي هي روح العلاقات الإنسانية. فالحياة ليست معادلة رياضية، ولا ميزانا دقيقا يوزن فيه كل قول وفعل، بل هي نهر من المشاعر المتدفقة، إن حاولت حبسه في قوالب التحليل جفَّ ماؤه وذهب صفاؤه. ومن رام الكمال في الناس حرم نفسه راحة العيش معهم، لأن النقص طبيعة بشرية لا فكاك منها، ومن لم يحتمل ضعف غيره لم يحتمل ضعفه هو.

لقد خلقنا متفاوتين في الطباع، مختلفين في الفهم، متقلبين بين الصواب والخطأ. فليس من الحكمة أن تقيم حول نفسك أسوارا من التدقيق، تحاسب فيها كل من حولك على اللفظة والنظرة والنية. لأن مثل هذا التشدد لا يورث عدلا، بل يولد النفور، ويحول المودة إلى حذر وصمت وجفاء. ومن هنا جاء قول الحكماء: “من أكثر التدقيق حرم التوفيق”.

فلسفة التغافل: عقل الحلماء وسر السكينة

التغافل ليس غفلة ولا ضعفا، بل هو ذروة الحكمة، ودليل على عمق الفهم واتزان النفس. إنه أن ترى الزلة وتدركها، ثم تختار أن تمر عليها مرور الكرام، لأنك تؤمن أن الصفاء أغلى من النقاش، وأن المحبة أسمى من الانتصار. فكم من بيت تهدم بسبب كلمة أخذت على محمل الجد، وكم من صداقة ذابت لأن أحدهم قرر أن يحاسب على التفاصيل.

إن أجمل رد في بعض المواقف هو الذي لا يكون، وأعظم الحكم أن تسكت حين يغريك الغضب بالكلام. فالصمت في موضعه دواء، والتجاوز زكاة النفس، والحلم عنوان العظماء. قال بعض السلف: “العاقل نصفه احتمال، ونصفه تغافل”. فالعلاقات لا تدوم بالجدل، ولا بالمراقبة، بل بالرفق والصفح.

حين يتحول التدقيق إلى قيد على الأرواح

من يفتش في وجوه الناس عن الكمال، ويزن أقوالهم بميزان القاضي، يقتل فيهم العفوية، ويجعلهم يعيشون على حافة الحذر والخوف. ومع مرور الوقت، تصبح المجالس مثقلة بالصمت، والابتسامات مريبة، والحديث محسوبا كأنه يمشي على الجمر. فهكذا يموت الود في ظلال الرقابة، وتذبل المودة تحت عبء المحاسبة.

ولذلك، فإن من أصدق مظاهر الحكمة أن تدرك أن العدل الحقيقي لا يتحقق بالتدقيق، بل بالرحمة. وأن القلوب لا تصلحها الموازين، بل يصلحها اللين والمغفرة. إن الله تعالى، وهو أعدل العادلين، غلبت رحمته غضبه، ليعلم عباده أن صلاح الخلق لا يتم بالإنصاف المجرد، بل بالرحمة التي تتجاوز حدود الحساب.

التغافل: جسر العبور إلى دوام العلاقات

ما من علاقة بشرية إلا وفيها هنات صغيرة، وزلات عابرة، ولكن الذي يبقيها حية هو التغافل الجميل الذي يردم الشقوق قبل أن تتسع. فالأصدقاء الحقيقيون هم الذين يرون العيب ويسترونه، والأزواج الصادقون هم الذين يدركون الزلة فيغفرونها. إن المحبة لا تحتاج إلى محاكمات، بل إلى قلوب تتسع للضعف الإنساني، وتؤمن بأن الخطأ لا يمحو العطاء.

فلا تحاكم رفيقك على لحظة فتور، ولا تقلب هفوة المحب إلى جريمة. ولا تدخل العلاقات في دائرة التحقيق، فإنها لا تحتمل حرارة الأسئلة المتكررة. سل نفسك دائما: لو كنت أنا المخطئ، أكنت أرجو أن يغفر لي أم أن أدان؟ فكما تحب أن تعذر، فاعذر، وكما تحب أن يصفح عنك، فاعفُ.

خاتمة: في فلسفة التوازن الإنساني

الحياة لا تدار بالمنطق وحده، ولا تبنى العلاقات على العدالة البحتة، بل على مزيج من الرحمة والعقل، ومن التسامح والحذر. التغافل ليس تنازلا عن الحق، بل هو ارتقاء فوق الجزئيات إلى جوهر المعنى. هو أن تختار السكينة على الجدال، والصفح على القصاص، والحلم على المحاسبة.

ومن أكثر التدقيق حرم التوفيق، ومن أحسن الظن بالناس أراح قلبه، ومن جعل الرفق ميزانه عاش سعيدا. فاجعل من نفسك مرآة رحيمة لا عدسة مكبرة، وامنح من حولك مساحة للخطأ كما تريد أن يمنحوك. فالحياة لا تستقيم إلا بالتغافل، ولا تدوم المودة إلا بالصبر، ولا تزهر القلوب إلا إذا سقيناها بعفو جميل وصمت حكيم.

مساحة إعلانية