رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
الدكتور فاوست هو شخصية لها وجود تاريخي حقيقي وهو الشخصية الرئيسية في الحكاية الألمانية الشعبية عن الساحر الذي يبرم عقدا مع الشيطان لكي ينال السعادة القصوى. وقد أصبحت هذه القصة أساساً لأعمال أدبية مختلفة لأدباء كثيرين حول العالم، من أشهرها مسرحية فاوست للكاتب الألماني الشهير جوته. وتدور أحداث القصة حول سعي الدكتور فاوست إلى اكتشاف الجوهر الحقيقي للحياة، وهو ما يدفعه إلى أن يبرم اتفاقا مع الشيطان يقضي بأن يقوم الأخير بخدمته طوال حياته مقابل استيلائه على روح فاوست بعد مماته.
وعلى مدار القصة تتجسد مأساة فاوست في عدم قدرته على تحصيل السعادة أو الاقتراب منها، حيث تبقي فكرة خسرانه لروحه وضياع الأبدية من بين يديه مؤرقة له ومنغصة لأي سعادة يتحصل عليها، حتى إذا حانت لحظة وفاته، تبين له أنه لم ينل ما كان يرجوه من سعادة وأنه قد خسر في الوقت ذاته روحه إلى الأبد. ومن فصول هذه المأساة انبثقت عبارة "صفقة فاوست"، والتي تستخدم في معظم اللغات للإشارة إلى معنى الصفقة الخاسرة، حيث يبيع الإنسان أغلى ما يملك (روحه) مقابل سعادة لا يتحصل منها على شيء.
ويبدو أن أنظمة الاستبداد تعقد مع شعوبها صفقة مماثلة، فهي تعدهم بأن توفر لهم الأمن والاستقرار، في مقابل تخليهم عن حرياتهم. ولكن كما في صفقة فاوست الخاسرة، يؤدى القبول بهذه الصيغة إلى فقدان الحرية والأمن معاً. وكما أن السعادة التي يمنحها الشيطان لفاوست في القصة تحوي دائما بذرة الشقاء بداخلها، فإن الأمن الذي تعد أنظمة الاستبداد بتوفيره لرعاياها يشتمل على نقيضه من التخويف والفزع.
فأمن المستبدين هو تخويف من الإرهاب الأسود، وتخويف من المعارضة الهدامة، وتخويف من الاختلاف الذي لا تحتمله المرحلة، وتخويف من التعددية التي تهدد الدولة، وتخويف من قوى الخارج المتربصة، وتخويف من قوى الداخل المتخفية. ولهذا فإن فاتورة الشعور بالأمن في ظل الاستبداد تشمل التلبس بصفات الإذعان، والانصياع للرأي الواحد، وكراهية الآخر، والرضا بالاستبداد، والقبول بسلوك القطيع.
وليس التخويف في إطار أنظمة الاستبداد مجرد حالة مؤقتة، تزول بزوال أسبابها، ولكنه أسلوب حياة، فمن المهم في أنظمة الاستبداد أن يظل الناس في حالة من القلق المستمر والخوف على وجودهم، ولهذا يتحول "الإرهاب" في إطار هذه الصفقة من خطر يفترض أن يسعى النظام المستبد للقضاء عليه، إلى شرط ضروري لاستمراره، فمن خلال مكافحة الإرهاب تتحقق للمستبد صلاحيات لا يتمتع بها في غيره، حيث تستغل أجواء الخوف لغلق كافة آفاق التعبير، وتجميد المشهد السياسي، وتأويل القوانين لخدمة الوضع السياسي، وتمديد يافطة أعداء الدولة لتشمل كل من لا يروق للنخبة المستبدة.
والسؤال هو: هل يمكن أن تنجح صفقة الأمن في مقابل الحرية، وهل يمكن أن يؤدي تخلي الناس عن حرياتهم وعن حقهم في الاختلاف والمعارضة والتعبير، إلى دخولهم جنة الأمن المزعوم؟
تشهد التجارب التاريخية والمعاصرة أن الأمن لا يتحقق من خلال هذه الطريقة، فالأمن بلا حرية هو نوع من العبودية المقنعة، والاستقرار الذي يشعر الناس به في ظل الاستبداد لا يعدو أن يكون استقرارا هشا ينهار عند أول تحد حقيقي، فهو استقرار مفروض على الناس وليس نابعا منهم، استقرار معاد للتعددية، مؤسس على تكميم الأفواه، وعلى استبعاد كل من يعارض الصيغة الوحيدة المسموحة للحكم. أما الحرية فهي التي تصنع الأمن وهي التي تخلق الإحساس بالمسؤولية، والإحساس بالمسؤولية هو الذي يصنع الاستقرار.
إن شعارات التخويف والإرهاب، ومحاولة إقناع الناس أن يظلوا في بوتقة القهر، وتقييد حرياتهم بدعوى ضرورات المرحلة، والتعويل على القبضة الغليظة لحل كافة المشكلات بما فيها ذات الطبيعة السياسية، كل هذا يقدم صيغة مشوهة للأمن؛ صيغة لا يستشعر الناس أي آثار إيجابية لها في الواقع الذي يعيشونه.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6564
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6432
| 24 أكتوبر 2025
تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع في القلب وجعًا عميقًا يصعب نسيانه.. في الجولة الثالثة من دوري أبطال آسيا للنخبة، كانت الصفعة مدوية! الغرافة تلقى هزيمة ثقيلة برباعية أمام الأهلي السعودي، دون أي رد فعل يُذكر. ثم جاء الدور على الدحيل، الذي سقط أمام الوحدة الإماراتي بنتيجة ٣-١، ليظهر الفريق وكأنه تائه، بلا هوية. وأخيرًا، السد ينهار أمام الهلال السعودي بنفس النتيجة، في مشهد يوجع القلب قبل العين. الأداء كان مخيبًا بكل ما تحمله الكلمة من وجع. لا روح، لا قتال، لا التزام داخل المستطيل الأخضر. اللاعبون المحترفون الذين تُصرف عليهم الملايين كانوا مجرد ظلال تتحرك بلا هدف و لا حس، ولا بصمة، ولا وعي! أما الأجهزة الفنية، فبدت عاجزة عن قراءة مجريات المباريات أو توظيف اللاعبين بما يناسب قدراتهم. لاعبون يملكون قدرات هائلة ولكن يُزج بهم في أدوار تُطفئ طاقتهم وتشل حركتهم داخل المستطيل الأخضر، وكأنهم لا يُعرفون إلا بالاسم فقط، أما الموهبة فمدفونة تحت قرارات فنية عقيمة. ما جرى لا يُحتمل. نحن لا نتحدث عن مباراة أو جولة، بل عن انهيار في الروح، وتلاشي في الغيرة، وكأن القميص لم يعد له وزن ولا معنى. كم كنا ننتظر من لاعبينا أن يقاتلوا، أن يردّوا الاعتبار، أن يُسكتوا كل من شكك فيهم، لكنهم خذلونا، بصمت قاسٍ وأداء بارد لا يشبه ألوان الوطن. نملك أدوات النجاح: المواهب موجودة، البنية التحتية متقدمة، والدعم لا حدود له. ما ينقصنا هو استحضار الوعي بالمسؤولية، الالتزام الكامل، والقدرة على التكيّف الذهني والبدني مع حجم التحديات. نحن لا نفقد الأمل، بل نطالب بأن نرى بشكل مختلف، أن يعود اللاعبون إلى جوهرهم الحقيقي، ويستشعروا معنى التمثيل القاري بما يحمله من شرف وواجب. لا نحتاج استعراضًا، بل احترافًا ناضجًا يليق باسم قطر، وبثقافة رياضية تعرف كيف تنهض من العثرات لتعود أقوى. آخر الكلام: هذه الجولة ليست سوى بداية لإشراقة جديدة، وحان الوقت لنصنع مجدًا يستحقه وطننا، ويظل محفورًا في ذاكرته للأجيال القادمة.
3156
| 23 أكتوبر 2025