رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

شريف عبد الرحمن سيف النصر

شريف عبد الرحمن سيف النصر

مساحة إعلانية

مقالات

3686

شريف عبد الرحمن سيف النصر

صفقة فاوست

29 أكتوبر 2014 , 02:57ص

الدكتور فاوست هو شخصية لها وجود تاريخي حقيقي وهو الشخصية الرئيسية في الحكاية الألمانية الشعبية عن الساحر الذي يبرم عقدا مع الشيطان لكي ينال السعادة القصوى. وقد أصبحت هذه القصة أساساً لأعمال أدبية مختلفة لأدباء كثيرين حول العالم، من أشهرها مسرحية فاوست للكاتب الألماني الشهير جوته. وتدور أحداث القصة حول سعي الدكتور فاوست إلى اكتشاف الجوهر الحقيقي للحياة، وهو ما يدفعه إلى أن يبرم اتفاقا مع الشيطان يقضي بأن يقوم الأخير بخدمته طوال حياته مقابل استيلائه على روح فاوست بعد مماته.

وعلى مدار القصة تتجسد مأساة فاوست في عدم قدرته على تحصيل السعادة أو الاقتراب منها، حيث تبقي فكرة خسرانه لروحه وضياع الأبدية من بين يديه مؤرقة له ومنغصة لأي سعادة يتحصل عليها، حتى إذا حانت لحظة وفاته، تبين له أنه لم ينل ما كان يرجوه من سعادة وأنه قد خسر في الوقت ذاته روحه إلى الأبد. ومن فصول هذه المأساة انبثقت عبارة "صفقة فاوست"، والتي تستخدم في معظم اللغات للإشارة إلى معنى الصفقة الخاسرة، حيث يبيع الإنسان أغلى ما يملك (روحه) مقابل سعادة لا يتحصل منها على شيء.

ويبدو أن أنظمة الاستبداد تعقد مع شعوبها صفقة مماثلة، فهي تعدهم بأن توفر لهم الأمن والاستقرار، في مقابل تخليهم عن حرياتهم. ولكن كما في صفقة فاوست الخاسرة، يؤدى القبول بهذه الصيغة إلى فقدان الحرية والأمن معاً. وكما أن السعادة التي يمنحها الشيطان لفاوست في القصة تحوي دائما بذرة الشقاء بداخلها، فإن الأمن الذي تعد أنظمة الاستبداد بتوفيره لرعاياها يشتمل على نقيضه من التخويف والفزع.

فأمن المستبدين هو تخويف من الإرهاب الأسود، وتخويف من المعارضة الهدامة، وتخويف من الاختلاف الذي لا تحتمله المرحلة، وتخويف من التعددية التي تهدد الدولة، وتخويف من قوى الخارج المتربصة، وتخويف من قوى الداخل المتخفية. ولهذا فإن فاتورة الشعور بالأمن في ظل الاستبداد تشمل التلبس بصفات الإذعان، والانصياع للرأي الواحد، وكراهية الآخر، والرضا بالاستبداد، والقبول بسلوك القطيع.

وليس التخويف في إطار أنظمة الاستبداد مجرد حالة مؤقتة، تزول بزوال أسبابها، ولكنه أسلوب حياة، فمن المهم في أنظمة الاستبداد أن يظل الناس في حالة من القلق المستمر والخوف على وجودهم، ولهذا يتحول "الإرهاب" في إطار هذه الصفقة من خطر يفترض أن يسعى النظام المستبد للقضاء عليه، إلى شرط ضروري لاستمراره، فمن خلال مكافحة الإرهاب تتحقق للمستبد صلاحيات لا يتمتع بها في غيره، حيث تستغل أجواء الخوف لغلق كافة آفاق التعبير، وتجميد المشهد السياسي، وتأويل القوانين لخدمة الوضع السياسي، وتمديد يافطة أعداء الدولة لتشمل كل من لا يروق للنخبة المستبدة.

والسؤال هو: هل يمكن أن تنجح صفقة الأمن في مقابل الحرية، وهل يمكن أن يؤدي تخلي الناس عن حرياتهم وعن حقهم في الاختلاف والمعارضة والتعبير، إلى دخولهم جنة الأمن المزعوم؟

تشهد التجارب التاريخية والمعاصرة أن الأمن لا يتحقق من خلال هذه الطريقة، فالأمن بلا حرية هو نوع من العبودية المقنعة، والاستقرار الذي يشعر الناس به في ظل الاستبداد لا يعدو أن يكون استقرارا هشا ينهار عند أول تحد حقيقي، فهو استقرار مفروض على الناس وليس نابعا منهم، استقرار معاد للتعددية، مؤسس على تكميم الأفواه، وعلى استبعاد كل من يعارض الصيغة الوحيدة المسموحة للحكم. أما الحرية فهي التي تصنع الأمن وهي التي تخلق الإحساس بالمسؤولية، والإحساس بالمسؤولية هو الذي يصنع الاستقرار.

إن شعارات التخويف والإرهاب، ومحاولة إقناع الناس أن يظلوا في بوتقة القهر، وتقييد حرياتهم بدعوى ضرورات المرحلة، والتعويل على القبضة الغليظة لحل كافة المشكلات بما فيها ذات الطبيعة السياسية، كل هذا يقدم صيغة مشوهة للأمن؛ صيغة لا يستشعر الناس أي آثار إيجابية لها في الواقع الذي يعيشونه.

مساحة إعلانية