رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في لحظة صفاء مع النفس، يطلّ النسيان عليَّ كسؤال وجودي يأبى أن يتركني بسلام: هل هو نعمة تحررني من ثِقل التجارب الموجعة، أم نقمة تسلبني تفاصيل اللحظات التي صنعتني؟ كثيرًا ما أرى أن الذاكرة هي مستودع الإنسان، وأنها ما يميّزه عن غيره من الكائنات، لكن النسيان، ليس دائمًا خصمًا، بل قد يكون حبل النجاة الوحيد.
أدركت أن النسيان ليس ضيفًا عابرًا، بل طبيعة بشرية متأصلة. يتسلل إليَّ حين يرهقني الألم أو حين يُثقلني الحنين. أحتاجه حين أتألم، وأخشاه حين يبتلع أجمل ما مررتُ به. ففي الحب مثلًا، قد ينقذني النسيان من وجع علاقة انتهت، لكنه قد يسلبني جمال ذكرى لم يزل القلب يحنّ إليها. وفي الفقد، يمدّني النسيان بطاقة على الاستمرار، لكنه لا يعيد لي من رحل. أما في الغضب، فقد يطفئ النسيان نار مشاعري، لكنه يتركني عرضة لتكرار الأخطاء وكأنني لم أتعلم.
أسباب النسيان كثيرة ومتداخلة، منها ما يرتبط بطبيعة العقل، ومنها ما يتصل بنمط الحياة وضغوطها. أحيانًا يكون النسيان نتيجة طبيعية لتكدس المعلومات وتزاحم التفاصيل، فيعجز العقل عن الاحتفاظ بكل شيء، فيُسقط ما يراه أقل أهمية. وأحيانًا يكون وليد التعب والإرهاق، فالعقل المنهك لا يملك طاقة للتخزين والتذكر.
وقد يتجلى النسيان كآلية دفاعية يطلقها الجسد لحماية الروح من الانهيار، فيُبعد عنا ما يثقلنا من ذكريات موجعة أو مواقف قاسية. حتى التقدم في العمر له نصيبه، فمع مرور السنين تتراجع الذاكرة أمام ضغط الزمن وكثرة التجارب. لكنني أؤمن أن بعض النسيان يصنعه الإنسان بوعي حين يختار أن يتجاوز، فلا يظل أسيرًا لذكرى تعوقه عن المضي قدمًا.
القرآن الكريم لم يغفل هذا البُعد الإنساني، فصوّر النسيان أحيانًا كعقوبة، كما في قوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾، وأحيانًا كصفة بشرية أصيلة، كما حدث مع آدم عليه السلام: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾. بل إن الدعاء القرآني نفسه جاء ليؤكد ضعف الإنسان وحاجته إلى رحمة الله في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، وكأنها تربية ربانية على أن النسيان ليس عيبًا بل جزء من طبيعتنا التي تحتاج إلى العفو والصفح.
أما السنة النبوية فقد تعاملت مع النسيان برفق ورحمة، فجاء الحديث الشريف: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه.» بل إن النبي ﷺ نفسه أقرّ بإنسانيته قائلاً: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون.» وهنا يترسخ المعنى بأن النسيان ليس نقصًا، بل طبيعة لا ينفكّ عنها الإنسان.
وحين أتأمل العلاقة بين المشاعر والنسيان أجدها من أعقد الروابط وأكثرها إرباكًا. فالمشاعر القوية، سواء كانت حبًا أو ألمًا أو غضبًا، تترك أثرًا صعب الزوال في الذاكرة، لذلك يصعب نسيانها بسهولة. لكن المفارقة أن قوة المشاعر ذاتها قد تدفع أحيانًا إلى النسيان، فالقلب المنهك من كثرة الوجع يقرر أن يتخفف، فيطوي الصفحات الموجعة كي يتمكن من الاستمرار. في لحظات الفرح، يختزن العقل الذكرى بحيوية تجعلها عصية على النسيان، بينما في لحظات الحزن العميق يتدخل الزمن ببطء ليمحو حدّة الذكرى، لا ليجعلنا ننساها بالكامل، بل ليجعلها أخف وطأة على أرواحنا. وهكذا أرى أن النسيان ليس مجرد فعل عقلي بارد، بل هو انعكاس لمشاعرنا العميقة وصراعها الدائم بين التذكر والنسيان.
حين أتأمل بعمق، أجد أن النسيان نعمة كبرى لا يدركها إلا من تجرّع مرارة الفقد أو صراع الفشل. لولا النسيان لبقينا أسرى جراح الأمس، نعيش حاضرنا مقيّدين بقيود الماضي. إنه يخفف من ثِقل الحزن، يفتح لي نافذة نحو شمس جديدة، ويعيد إليَّ القدرة على التنفس. فتصوّرتُ لو أن كل ألم عشته ظل حاضرًا بنفس حدته الأولى، كيف كنت سأحتمل الحياة؟
لكنني لا أستطيع أن أبرئ النسيان من كونه نقمة أيضًا. فحين أنسى المعروف أصبح جاحدة، وحين أنسى العِبرة أكرر الأخطاء ذاتها، وحين أنسى الأحبة أفرّط في أجمل ما أملك من روابط إنسانية. بل إن بعض صور النسيان قد تقترب من فقدان الهوية، حين أنسى ماضيَّ وتجربتي، فأعيش كمن تبدأ من الصفر في كل مرة.
وهنا أرى أن النسيان ليس في ذاته خيرًا أو شرًا، بل أداة محايدة، نحن من نحدد وجهتها. إن نسيتُ بوعي، صار دواءً يرمم جراحي، وإن تركته يعبث بذاكرتي صار وبالًا يطيح بدروس عمري. النسيان الحقيقي الذي أحتاجه هو ذاك الذي يترك فيَّ الأثر دون أن يُبقيني أسيرة الألم، ويمنحني الصفح دون أن يجرّدني من الحكمة.
في النهاية، يظل النسيان هبة إلهية مزدوجة الوجه. هو نعمة حين يساعدني على تجاوز القسوة، ونقمة حين يُغرقني في سطحية اللحظة وينزع مني جذور التجربة. لذلك أرى أن الحكمة ليست في محاربة النسيان أو الخضوع له، بل في التعايش معه، وقيادته بدل أن يقودني. أن أحفظ من ذاكرتي ما يعينني على النهوض، وأُسقط منها ما يعوق خطواتي. هكذا فقط يصبح النسيان مدرسةً أتعلم منها كيف أعيش، لا هاويةً أسقط فيها بلا وعي.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
• ناشطة اجتماعية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4767
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3258
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2862
| 16 أكتوبر 2025