رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

زواج الأقارب بين مؤيد ومعارض

يظل زواج الأقارب من القضايا المثيرة للجدل في المجتمعات العربية، حيث تتقاطع فيه العادات مع العلم، والتقاليد مع مفاهيم الحداثة. وبين من يراه امتدادًا طبيعيًا للروابط الأسرية والاجتماعية، ومن يعتبره ممارسة تحمل مخاطر صحية ونفسية، تتباين الآراء وتتعدد المبررات. وتزداد أهمية تناول هذا الموضوع في ظل التحولات الاجتماعية التي تشهدها المنطقة، والتي أعادت طرح مفهوم الزواج ذاته للنقاش بين الأجيال الجديدة. تاريخيًا، كان زواج الأقارب يُعد من الممارسات المقبولة والمحبذة، لما يحققه من تماسك اجتماعي وتقارب عائلي. غير أن تطور المعرفة العلمية، خصوصًا في مجالات الوراثة والصحة العامة، ألقى الضوء على جوانب أخرى من القضية، إذ أثبتت بعض الدراسات ارتفاع احتمالية الإصابة بالأمراض الوراثية بين أبناء الأقارب في حال وجود تاريخ عائلي مشترك. ومع ذلك، فإن هذه المخاطر لا تجعل من زواج الأقارب خيارًا مرفوضًا تمامًا، بقدر ما تضع مسؤولية إضافية على الأسر والمقبلين على الزواج لإجراء الفحوص الطبية اللازمة قبل اتخاذ القرار. ومن الناحية الاجتماعية، لا يمكن تجاهل البعد الثقافي في النظرة إلى هذا النوع من الزواج. فبينما كان يُنظر إليه سابقًا كضمانة لاستمرار الروابط العائلية وصون الميراث الاجتماعي والاقتصادي، أصبحت بعض فئات الشباب اليوم ترى فيه شكلاً من أشكال التقليدية التي تحد من حرية الاختيار. ويرى هؤلاء أن الارتباط بمن هم خارج نطاق الأسرة يتيح مساحة أكبر للتنوع والتفاهم بعيدًا عن ضغوط القرابة أو المجاملات العائلية. إلا أن هذا الموقف لا يخلو من تعميم، إذ إن نجاح الزواج لا يرتبط بمدى القرابة، بل بمدى النضج الشخصي والتفاهم النفسي والعاطفي بين الطرفين. من زاوية أخرى، يطرح زواج الأقارب إشكالية التوازن بين العاطفة والعقل، وبين الولاء للعائلة والرغبة في الاستقلال. فالقرب الأسري لا يعني بالضرورة انسجامًا فكريًا أو عاطفيًا، كما أن البعد لا يضمن التفاهم. لذلك يبقى المعيار الحقيقي هو القدرة على بناء علاقة متوازنة تقوم على الاختيار الحر والاحترام المتبادل وتحمل المسؤولية. وهو ما أكده الحديث الشريف: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض.» لقد أسهمت التحولات الاجتماعية خلال العقود الأخيرة في تغيير شكل العلاقات داخل الأسرة العربية، وأثرت بطبيعة الحال على مفهوم الزواج. فالتباعد الجغرافي، وتراجع التواصل بين الأقارب، والانشغال بأنماط الحياة الحديثة، كلها عوامل قللت من فرص التعارف الحقيقي داخل العائلة الواحدة. كما أن الوعي بحقوق الفرد، خاصة لدى الشباب، جعلهم أكثر ميلًا لاختيار شريك الحياة بناءً على التفاهم الشخصي لا على اعتبارات القرابة أو رضا الأسرة. ومع ذلك، تبقى هناك تجارب ناجحة تثبت أن زواج الأقارب يمكن أن يحقق استقرارًا ونجاحًا إذا قام على أسس سليمة. فحين تتوافر الإرادة الحرة، ويُجرى الفحص الطبي، ويُحترم استقلال الزوجين وخصوصية حياتهما بعيدًا عن التدخلات العائلية، يمكن أن تتحول القرابة إلى عامل دعم لا إلى مصدر خلاف. وتشير بعض الدراسات الاجتماعية إلى أن الأزواج من الأقارب قد يتمتعون بدرجة من التفاهم بسبب الخلفية المشتركة، وهو ما يسهّل التعامل مع الخلافات اليومية ويزيد من التماسك الأسري في بعض الحالات. وهنا يبرز تساؤل مهم: هل توافق العلاقة بين الزوجين الأساس الصحيح للعلاقات بين الأقارب بما يؤدي إلى زواج ناجح وموفق؟ تُظهر الخبرات الاجتماعية أن التفاهم بين الزوجين لا يتحقق تلقائيًا لمجرد وجود قرابة عائلية، بل يحتاج إلى وعي متبادل بحدود العلاقة ومسؤولياتها. فالعلاقة الزوجية تختلف عن العلاقات الأسرية الأخرى، لأنها تقوم على خصوصية ومشاركة وجدانية لا يمكن أن تدار بمنطق القرابة أو المجاملة. وعندما يتعامل الطرفان بوعي ناضج يحافظ على التوازن بين الانتماء العائلي والاستقلال الشخصي، تصبح العلاقة الزوجية امتدادًا صحيًا للعلاقات الأسرية وليست استمرارًا لها بالضرورة. وبهذا المعنى، فإن توافق العلاقة بين الزوجين هو الذي ينعكس إيجابًا على الأسرة الممتدة، لا العكس. في المقابل، فإن فشل بعض تجارب زواج الأقارب يرتبط غالبًا بتداخل الأدوار العائلية وضعف الخصوصية، أو بتغليب المصالح الاجتماعية على التوافق الشخصي. وهنا تبرز الحاجة إلى الوعي الأسري والتربية على احترام حرية الاختيار، وهو ما عبّر عنه الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: «لا تُجبروا أولادكم على عاداتكم، فإنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم». خلاصة القول إن زواج الأقارب ليس خيرًا مطلقًا ولا شرًا مطلقًا، بل هو خيار اجتماعي ينبغي أن يُقاس بمدى نضج الأفراد واستعدادهم لبناء علاقة قائمة على الوعي والمسؤولية. فالزواج في النهاية مؤسسة إنسانية تهدف إلى الاستقرار والتكامل، لا إلى الحفاظ على الشكل الاجتماعي أو الانصياع للتقاليد. ومن ثمّ، فإن نجاح أي زواج، سواء كان بين أقارب أو غرباء، يظل رهينًا بمدى الوعي، والاحترام المتبادل، والإرادة الحرة في اتخاذ القرار.

276

| 21 أكتوبر 2025

الأثر الطيب.. لغة بلا كلمات

في زمنٍ سريعٍ يركض بنا دون توقف، نعتقد أحيانًا أن ما نقوله أو نفعله يمرّ بلا أثر. غير أن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير؛ فالكلمة أو الموقف البسيط قد يتحولان إلى نقطة ضوء في قلب إنسان، يغيّران مساره ويمنحانه أملًا جديدًا. أثرٌ قد يبدو عابرًا في لحظته، لكنه يبقى محفورًا في الذاكرة والوجدان لسنوات طويلة. الكلمات ليست أصواتًا عابرة، بل بذور تُزرع في القلوب. كلمة مثل «أؤمن بك» قد تمنح إنسانًا القدرة على النهوض من كبوته، وقد تفتح أمامه طريقًا لم يكن يراه. الكلمة الطيبة لا تحتاج إلى جهد، لكنها تصنع المعجزات. ولعلّ أجمل توصيف لذلك ما جاء في القرآن الكريم حين شبّهها الله بالشجرة الطيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، لا تنحني ولا تذبل، بل تبقى تمنح الحياة وتفيض بالخير. حين يحرص الإنسان على ترك أثر طيب، فإنه في الحقيقة لا يغيّر حياة الآخرين فقط، بل يُعيد تشكيل حياته هو أيضًا. من يساعد غيره، يشعر برضا داخلي يجعله أكثر هدوءًا وثقةً بنفسه. الأثر الطيب يصبح مرآة ينعكس فيها الخير على صاحبها أولًا، فينمو بداخله الشعور بالقيمة والمعنى. الإنسان الذي يتعمّد نشر الخير في محيطه يكتسب صفات جديدة بمرور الوقت: يصبح أكثر صبرًا، وأكثر تسامحًا، وأقرب إلى التواضع. فهو يدرك أن أفعاله مهما بدت صغيرة قد تغيّر مصائر، فيتعلّم أن يتحكم في غضبه، ويزن كلماته، ويختار أفعاله بوعي أكبر. هذا التحوّل لا يحدث فجأة، لكنه تراكم طبيعي لسنوات من الممارسة والنية الصافية. من يترك بصمة طيبة يتغيّر تلقائيًا في طريقة تعامله مع الآخرين. يصبح أكثر ميلًا إلى الإنصات بدلًا من الجدل، وأكثر تعاطفًا بدلًا من الانتقاد. الأثر الطيب يفتح أمام صاحبه أبوابًا من العلاقات الإنسانية الحقيقية، لأنه يتعامل بصدق ورغبة في الإعطاء لا في الأخذ. ومع الوقت، يجد أن احترام الناس له وحبهم هو نتيجة طبيعية لرحلته في صنع الخير. القلوب التي تنبض بالعطاء لا تبحث عن مقابل. حين تمتد يد لإنقاذ متعثر أو لرفع كربة عن محتاج، فإن الأثر يتجاوز اللحظة ذاتها. من أنقذته اليوم قد يصبح غدًا عونًا لغيره، وهكذا يتسلسل الخير. وهذا ما أكده الرسول صلي الله عليه وسلم في حديثه الشريف: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة». فالطيبة لا تذهب سدى، بل تبقى رصيدًا من الرحمة يعود لصاحبه يومًا ما. ليس التأثير دائمًا في الكلام، بل أحيانًا في الصمت والابتسامة وطريقة التعامل. قد تُعيد نظرة احترام أو ابتسامة صادقة بناء إنسان هشّ فقد ثقته بالعالم. المواقف الصغيرة، كالصبر على خطأ، أو احتواء ضعف، قد تكون أقوى من خطابات طويلة. إنها لغة إنسانية يفهمها كل قلب،وتترك أثرًا أبقى من أي حديث. الأثر الطيب لا يتوقف عند حدود الشخص الذي نُسدي له معروفًا. بل ينتقل كعدوى إيجابية، فيُلهم من نساعده ليساعد غيره. هكذا يولد «التأثير المتسلسل»: سلسلة من الخير قد تبدأ بابتسامة في لحظة عابرة، لكنها تتحول إلى حركة إنسانية لا نعرف إلى أين تصل. وربما يكون ما فعلناه بذرة تثمر قادة ومصلحين وكتّابًا ملهمين بعد سنوات. الناس ينسون الكلمات أحيانًا، لكنهم لا ينسون الشعور الذي تركته بداخلهم. الأمان، الدعم، والاحتواء، تبقى محفورة في الذاكرة مهما تقادم الزمن. ولعل أصدق ما قيل: «قد تنسى الناس ما قلت، لكنهم لن ينسوا كيف جعلتهم يشعرون». هذه المشاعر هي الأثر الحقيقي الذي لا يُمحى. فى النهاية.. لا يحتاج المرء إلى ثروة أو شهرة ليترك أثرًا خالدًا. الأمر أبسط من ذلك: كلمة صادقة، موقف كريم، أو حتى صمت حانٍ. كل إنسان قادر على أن يكون بداية لدوائر من الخير تمتد بعده. حين تُضيء قلبًا واحدًا، فأنت تفتح نافذة لعالم أكثر دفئًا وإنسانية.

405

| 16 أكتوبر 2025

بين دفء الاجتماع ووحشة الوحدة

الإنسان لم يُخلق ليعيش وحيداً. فمنذ فجر التاريخ، ارتبط بقاء البشر بالقدرة على التعاون والعيش في جماعات. فالكهوف الأولى لم تكن مجرد مأوى، بل كانت بداية الحكاية الإنسانية التي لا تكتمل إلا بالآخر. لكن ليس الجميع يجد في العلاقات الاجتماعية ملاذاً أو راحة. فهناك من يميل إلى الوحدة، لا هرباً من الناس، بل بحثاً عن السكون الداخلي. هؤلاء لا يكرهون الآخرين، بل يفضلون المسافة الآمنة التي تمنحهم وضوحاً وصفاءً. فهل يُعد هذا الميل للانطواء ضعفاً أم خياراً مشروعاً؟ الوحدة قد تكون ملاذاً مؤقتاً، يلجأ إليها الإنسان حين يضيق صدره أو يثقل قلبه. لكنها تتحول إلى مأزق حين تصبح أسلوب حياة دائم، يقطع الصلة بالآخرين ويجعل الإنسان غريباً حتى عن أقرب الناس إليه. أما الانطوائية، فهي طبيعة شخصية، لا تعني بالضرورة العزلة، بل تعكس حاجة الفرد إلى الهدوء أكثر من الضجيج، إلى التأمل أكثر من التفاعل. الوحدة والانطوائية حين تتحولان من خيار شخصي إلى نمط دائم، تُلقيان بظلال ثقيلة على الفرد والمجتمع معاً. فالفرد المنعزل يفقد تدريجياً مهارات التواصل، ويصبح أقل قدرة على التعبير عن مشاعره أو فهم الآخرين، مما يزيد من احتمالية الإصابة بالقلق والاكتئاب. كما أن الانطواء يحدّ من فرص النمو الشخصي، ويقلل من التفاعل مع التجارب التي تُثري الفكر وتوسع المدارك. أما على مستوى المجتمع، فإن انتشار الانعزال يضعف الروابط الإنسانية، ويخلق فجوات بين الأفراد، مما يؤدي إلى تراجع روح التعاون والتكافل. فالمجتمع لا يُبنى بالأفراد المنعزلين، بل بالأرواح المتفاعلة التي تتبادل الدعم وتشارك في البناء. الدراسات النفسية تشير إلى أن الانطواء ليس مرضاً، بل نمط تفكير وسلوك. لكنه قد يتحول إلى عبء نفسي إذا صاحبه شعور بالرفض أو عدم الفهم من الآخرين. فحين يُنظر إلى الانطوائي على أنه غريب أو غير اجتماعي، يُدفع إلى عزلة قسرية، لا اختيارية، وهنا تبدأ المعاناة. على مستوى العلاقات، قد لا يكون الانطوائي كثير الكلام، لكنه يحمل مشاعر عميقة، ويمنح ثقته بصعوبة، لكنه حين يمنحها، تكون صادقة وثابتة. فالعلاقات عنده ليست كثيرة، لكنها قوية. وهو لا يبحث عن الحشود، بل عن القلوب التي تفهمه دون أن تفرض عليه التغيير. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم». لكن هذا لا يعني أن من لا يخالط الناس مذموم، بل أن الصبر على العلاقات فضيلة، وأن الاجتماع يحتاج إلى جهد، لا يُجبر عليه كل أحد. في بيئة العمل، لا تقتصر أهمية التجمع على تبادل المهام أو إنجاز المشاريع، بل تمتد لتشمل بناء الثقة وتعزيز روح الفريق. فالتجمعات بين الزملاء، سواء كانت رسمية أو ودية، تخلق مناخاً إيجابياً يُشعر الفرد بالانتماء ويحفّزه على العطاء. ممارسة الحياة الاجتماعية في العمل تُسهم في تخفيف التوتر، وتزيد من الإنتاجية، وتفتح المجال لتبادل الأفكار والخبرات. كما أن العلاقات الإنسانية داخل بيئة العمل تُعدّ صمام أمان نفسي، تمنح الموظف شعوراً بالدعم والتقدير. فحين يشعر الإنسان أنه جزء من منظومة حية، لا مجرد ترس في آلة، يصبح أكثر قدرة على الإبداع وأكثر استعداداً لمواجهة التحديات. لا شيء يعوّض لحظة صدق بين شخصين يفهمان بعضهما دون كثير كلام. فالعلاقات ليست بعدد الأصدقاء، بل بجودة التواصل. والانطوائي قد يجد راحته في جلسة هادئة مع شخص واحد، أكثر مما يجده في حفل مزدحم. قال الله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا» (الفرقان: 54). فالعلاقات الإنسانية جزء من فطرة الإنسان، لكن لكلٍ طريقته في التعبير عنها. فليس كل من ابتعد، فقد المحبة، وليس كل من صمت، غاب عن الود. الحياة الاجتماعية ليست فرضاً على الجميع بنفس الدرجة. هي مساحة للتفاعل، لكن لا بد أن تُراعى فيها الفروق الفردية. فبعض الناس يحتاج إلى العزلة ليعيد ترتيب نفسه، وبعضهم يجد في الوحدة طمأنينة لا توفرها الجموع. كثير من الانطوائيين تغيّرت حياتهم عبر مواقف بسيطة: كلمة طيبة، جلسة صادقة، أو حتى نظرة احترام من شخص لم يُجبرهم على التغيير. فالتواصل لا يعني التنازل عن الذات، بل إيجاد من يفهمها ويقبلها كما هي. قال تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى» (المائدة: 2). وهذه دعوة للتعاون، لا للتشابه. فالتعاون لا يعني أن نكون نسخاً من بعضنا، بل أن نكمل بعضنا، كلٌ بطريقته. لا أحد يُطالب بأن يكون منفتحاً طوال الوقت، ولا أن يتخلى عن خصوصيته. المطلوب هو التوازن: أن نحترم ميولنا، ونمنح أنفسنا فسحة من الوحدة حين نحتاجها، دون أن نقطع الصلة بالناس تماماً. ختاماً.. الوحدة قد تمنح راحة وقتية، لكنها لا تصنع سعادة دائمة. والسعادة ليست في كثرة العلاقات، بل في صدقها. فليكن لكلٍ طريقه، وليكن الاحترام هو الجسر الذي يربط المختلفين، دون أن يُجبر أحد على تغيير ذاته.

780

| 06 أكتوبر 2025

النسيان نعمة أم نقمة؟

في لحظة صفاء مع النفس، يطلّ النسيان عليَّ كسؤال وجودي يأبى أن يتركني بسلام: هل هو نعمة تحررني من ثِقل التجارب الموجعة، أم نقمة تسلبني تفاصيل اللحظات التي صنعتني؟ كثيرًا ما أرى أن الذاكرة هي مستودع الإنسان، وأنها ما يميّزه عن غيره من الكائنات، لكن النسيان، ليس دائمًا خصمًا، بل قد يكون حبل النجاة الوحيد. أدركت أن النسيان ليس ضيفًا عابرًا، بل طبيعة بشرية متأصلة. يتسلل إليَّ حين يرهقني الألم أو حين يُثقلني الحنين. أحتاجه حين أتألم، وأخشاه حين يبتلع أجمل ما مررتُ به. ففي الحب مثلًا، قد ينقذني النسيان من وجع علاقة انتهت، لكنه قد يسلبني جمال ذكرى لم يزل القلب يحنّ إليها. وفي الفقد، يمدّني النسيان بطاقة على الاستمرار، لكنه لا يعيد لي من رحل. أما في الغضب، فقد يطفئ النسيان نار مشاعري، لكنه يتركني عرضة لتكرار الأخطاء وكأنني لم أتعلم. أسباب النسيان كثيرة ومتداخلة، منها ما يرتبط بطبيعة العقل، ومنها ما يتصل بنمط الحياة وضغوطها. أحيانًا يكون النسيان نتيجة طبيعية لتكدس المعلومات وتزاحم التفاصيل، فيعجز العقل عن الاحتفاظ بكل شيء، فيُسقط ما يراه أقل أهمية. وأحيانًا يكون وليد التعب والإرهاق، فالعقل المنهك لا يملك طاقة للتخزين والتذكر. وقد يتجلى النسيان كآلية دفاعية يطلقها الجسد لحماية الروح من الانهيار، فيُبعد عنا ما يثقلنا من ذكريات موجعة أو مواقف قاسية. حتى التقدم في العمر له نصيبه، فمع مرور السنين تتراجع الذاكرة أمام ضغط الزمن وكثرة التجارب. لكنني أؤمن أن بعض النسيان يصنعه الإنسان بوعي حين يختار أن يتجاوز، فلا يظل أسيرًا لذكرى تعوقه عن المضي قدمًا. القرآن الكريم لم يغفل هذا البُعد الإنساني، فصوّر النسيان أحيانًا كعقوبة، كما في قوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾، وأحيانًا كصفة بشرية أصيلة، كما حدث مع آدم عليه السلام: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾. بل إن الدعاء القرآني نفسه جاء ليؤكد ضعف الإنسان وحاجته إلى رحمة الله في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، وكأنها تربية ربانية على أن النسيان ليس عيبًا بل جزء من طبيعتنا التي تحتاج إلى العفو والصفح. أما السنة النبوية فقد تعاملت مع النسيان برفق ورحمة، فجاء الحديث الشريف: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه.» بل إن النبي ﷺ نفسه أقرّ بإنسانيته قائلاً: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون.» وهنا يترسخ المعنى بأن النسيان ليس نقصًا، بل طبيعة لا ينفكّ عنها الإنسان. وحين أتأمل العلاقة بين المشاعر والنسيان أجدها من أعقد الروابط وأكثرها إرباكًا. فالمشاعر القوية، سواء كانت حبًا أو ألمًا أو غضبًا، تترك أثرًا صعب الزوال في الذاكرة، لذلك يصعب نسيانها بسهولة. لكن المفارقة أن قوة المشاعر ذاتها قد تدفع أحيانًا إلى النسيان، فالقلب المنهك من كثرة الوجع يقرر أن يتخفف، فيطوي الصفحات الموجعة كي يتمكن من الاستمرار. في لحظات الفرح، يختزن العقل الذكرى بحيوية تجعلها عصية على النسيان، بينما في لحظات الحزن العميق يتدخل الزمن ببطء ليمحو حدّة الذكرى، لا ليجعلنا ننساها بالكامل، بل ليجعلها أخف وطأة على أرواحنا. وهكذا أرى أن النسيان ليس مجرد فعل عقلي بارد، بل هو انعكاس لمشاعرنا العميقة وصراعها الدائم بين التذكر والنسيان. حين أتأمل بعمق، أجد أن النسيان نعمة كبرى لا يدركها إلا من تجرّع مرارة الفقد أو صراع الفشل. لولا النسيان لبقينا أسرى جراح الأمس، نعيش حاضرنا مقيّدين بقيود الماضي. إنه يخفف من ثِقل الحزن، يفتح لي نافذة نحو شمس جديدة، ويعيد إليَّ القدرة على التنفس. فتصوّرتُ لو أن كل ألم عشته ظل حاضرًا بنفس حدته الأولى، كيف كنت سأحتمل الحياة؟ لكنني لا أستطيع أن أبرئ النسيان من كونه نقمة أيضًا. فحين أنسى المعروف أصبح جاحدة، وحين أنسى العِبرة أكرر الأخطاء ذاتها، وحين أنسى الأحبة أفرّط في أجمل ما أملك من روابط إنسانية. بل إن بعض صور النسيان قد تقترب من فقدان الهوية، حين أنسى ماضيَّ وتجربتي، فأعيش كمن تبدأ من الصفر في كل مرة. وهنا أرى أن النسيان ليس في ذاته خيرًا أو شرًا، بل أداة محايدة، نحن من نحدد وجهتها. إن نسيتُ بوعي، صار دواءً يرمم جراحي، وإن تركته يعبث بذاكرتي صار وبالًا يطيح بدروس عمري. النسيان الحقيقي الذي أحتاجه هو ذاك الذي يترك فيَّ الأثر دون أن يُبقيني أسيرة الألم، ويمنحني الصفح دون أن يجرّدني من الحكمة. في النهاية، يظل النسيان هبة إلهية مزدوجة الوجه. هو نعمة حين يساعدني على تجاوز القسوة، ونقمة حين يُغرقني في سطحية اللحظة وينزع مني جذور التجربة. لذلك أرى أن الحكمة ليست في محاربة النسيان أو الخضوع له، بل في التعايش معه، وقيادته بدل أن يقودني. أن أحفظ من ذاكرتي ما يعينني على النهوض، وأُسقط منها ما يعوق خطواتي. هكذا فقط يصبح النسيان مدرسةً أتعلم منها كيف أعيش، لا هاويةً أسقط فيها بلا وعي.

879

| 30 سبتمبر 2025

الأسرة خط الدفاع الأخير أمام غزو المنصات الرقمية

في زمن تحولت فيه الهواتف الذكية إلى «حاضنة صامتة» لأطفالنا، وتبدلت فيه الألعاب من مجرد تسلية بريئة إلى عوالم افتراضية موازية قد تلتهم القيم وتُضعف الروابط الأسرية، جاء الحوار الذي أجرته صحيفة الشرق مع الدكتورة مريم الخاطر، أستاذ الاتصال الرقمي والسياسة، كجرس إنذار مدوٍّ، بجرأة الباحثة وعمق الاستشراف، وضعت الخاطر إصبعها على الجرح: المنصات الرقمية لم تعد مجرد أدوات ترفيه أو تواصل، بل باتت ــ إن تُركت بلا ضابط ــ أشبه بـ «أسلحة دمار شامل» تستهدف النشء وتخترق حصون الأسرة من الداخل. ما قالته عن حظر لعبة «روبلوكس» في قطر لم يكن تعليقاً عابراً، بل كشفاً عن أزمة أوسع تتجاوز لعبة أو تطبيقاً إلى نمط حياة يهدد الأمن النفسي والاجتماعي. وما بين «الفاشينيستا» الذين صنعوا من الشهرة تجارة على حساب القيم، وغياب الوعي الإعلامي والتقني لدى كثير من أولياء الأمور، تبرز الحاجة إلى وقفة صادقة تعيد صياغة علاقتنا بهذا الفضاء الرقمي المتغول. وهنا تحديداً تستعيد الخاطر مبادرة «نحو فضاء إعلامي مسؤول» التي أطلقتها صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع عام 2007، لتذكرنا أن الرؤية الاستشرافية قادرة على أن تسبق الزمن، وأن ما بدا وقتها تحذيراً بعيد المدى أصبح اليوم ضرورة وجودية لحماية الأجيال المقبلة. حينما قررت دولة قطر حظر لعبة «روبلوكس»، اعتبر البعض أن القرار مبالغ فيه، أو أن الرقابة على الألعاب لم تعد مجدية في ظل انتشار مئات المنصات البديلة. لكن ما أوضحته الدكتورة مريم الخاطر هو أن القضية ليست مجرد لعبة، بل منظومة متكاملة من المحتوى التفاعلي الذي يتجاوز حدود البراءة الطفولية إلى فضاءات تهدد الأمن النفسي والاجتماعي. «روبلوكس» ليست مجرد ترفيه، بل عالم افتراضي مفتوح يُمكّن الأطفال من التفاعل مع محتوى يصنعه مستخدمون آخرون، دون ضوابط حقيقية أو رقابة فعلية. ومن هنا تأتي خطورة اللعبة، حيث تنفتح على احتمالات التعرض لمضامين غير مناسبة، أو لسلوكيات سامة، بل وحتى لاستغلال رقمي خطير. إن قرار الحظر، برغم تأخره، يمثل إعلاناً بأن حماية النشء ليست ترفاً، بل ضرورة وطنية وأخلاقية. أحد المحاور اللافتة في حديث الخاطر كان تناولها لظاهرة «البلوجر» و»الفاشينيستا»، بوصفها تجسيداً لتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى سوق استهلاكي، تُسوَّق فيه القيم السطحية على حساب المضمون الهادف. فبدلاً من أن تكون هذه المنصات جسراً للتنوير والمعرفة، أصبحت في كثير من الأحيان وسيلة لتكريس ثقافة المظهر والربح السريع، حتى لو كان الثمن هو إضعاف البنية الأخلاقية للمجتمع. هذه الظاهرة ليست شأناً قطرياً فحسب، بل امتداد عالمي. لكن خصوصية المجتمع القطري، والعربي عموماً، تكمن في أن مثل هذه الظواهر تتصادم مباشرة مع قيم أصيلة، مثل التكافل الأسري، والهوية الدينية والثقافية. وهو ما يضاعف الحاجة إلى رقابة اجتماعية، لا بمعناها القمعي، بل في شكل وعي نقدي يتيح للنشء التمييز بين ما يُعرض عليهم، وما يتناقض مع قيمهم. ركزت الخاطر في حديثها على أن المواجهة الحقيقية تبدأ من الأسرة، وهو طرح بالغ الأهمية. فالقرارات الحكومية أو التشريعات، مهما كانت صارمة، تظل عاجزة عن ضبط كل تفاصيل التفاعل اليومي للأطفال واليافعين مع المنصات الرقمية. هنا يبرز دور الوالدين كخط الدفاع الأول، من خلال رفع وعيهم الإعلامي والتقني. ولعل أكبر إشكالية تواجه الأسرة القطرية والعربية اليوم، أن الفجوة الرقمية بين الأجيال تتسع يوماً بعد يوم. في حين ينغمس الأبناء في تفاصيل التطبيقات والمنصات الحديثة، يبقى كثير من الآباء والأمهات خارج هذه المعادلة، مكتفين بالمتابعة من بعيد أو بالمنع التقليدي. غير أن المطلوب، كما أشارت الخاطر، ليس المنع فقط، بل المشاركة الواعية، من خلال تثقيف الوالدين إعلامياً وتقنياً، بحيث يصبحون شركاء لأبنائهم في الفضاء الرقمي، لا مجرد رقباء أو خصوم. من أبرز ما جاء في الحوار استدعاء الخاطر لمبادرة «نحو فضاء إعلامي مسؤول» التي أطلقتها صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع عام 2007. يومها ربما لم يدرك كثيرون أن العالم مقبل على ثورة رقمية ستجعل من الإعلام الجديد سلطة فوق الدول والمجتمعات. لكن المبادرة كانت بمثابة رؤية استراتيجية، دعت إلى إعلام يحترم القيم الإسلامية والعربية، ويحمي النشء من سطوة المحتوى المستورد. اليوم، وبعد مرور ما يقارب عقدين، يبدو أن تلك المبادرة لم تفقد بريقها، بل تزداد راهنيتها. ففي زمن تحول فيه «المؤثر» إلى سلطة تنافس المدرسة والجامعة، وفي وقت باتت فيه المنصات الرقمية «أسلحة دمار شامل» للقيم والثقافة، يصبح استدعاء هذه الرؤية ضرورة قصوى. وصفت الدكتورة مريم الخاطر منصات التواصل الاجتماعي بأنها «أسلحة دمار شامل»، وهو توصيف يحمل دلالتين: الأولى أن هذه الوسائل تملك قدرة هائلة على التأثير في العقول والوجدان، والثانية أنها إذا لم تُضبط بقوانين وقيم، فإنها تتحول إلى قوى تدميرية. فوسائل التواصل الاجتماعي مكنت الأفراد من التعبير عن ذواتهم، وخلقت فضاءات للنقاش والتفاعل. لكنها في الوقت نفسه أفرزت تحديات خطيرة، مثل الأخبار المضللة، والعنف اللفظي، والإدمان الرقمي، وتفكك الروابط الأسرية. إن إدارة هذا التناقض لا يمكن أن تتحقق عبر الدولة وحدها، بل عبر شراكة مجتمعية متكاملة، تضع حماية النشء في صدارة الأولويات. من خلال قراءة ما طرحته الدكتورة الخاطر، يمكن القول إننا أمام حاجة ملحّة لبناء إستراتيجية وطنية شاملة لحماية النشء في قطر من مخاطر الفضاء الرقمي. هذه الإستراتيجية يجب أن تقوم على عدة ركائز، التشريعات والقوانين، التثقيف الأسري، التعليم المدرسي، الشراكة مع المجتمع المدني: تمكين الجمعيات والمؤسسات الثقافية من المشاركة في التوعية، وتقديم مبادرات بديلة عن المحتوى المستورد، إنتاج محتوى محلي هادف: دعم صناعة إعلامية محلية توفر بدائل جاذبة ومواكبة، تحترم القيم وتستجيب لاحتياجات الجيل الجديد. ختاما.. حوار صحيفة الشرق مع الدكتورة مريم الخاطر ليس مجرد نقاش أكاديمي، بل دعوة جادة لإعادة النظر في علاقتنا بالفضاء الرقمي. إن حماية النشء في قطر، والحفاظ على الترابط الأسري، لم تعد مسؤولية فردية أو خياراً ترفياً، بل قضية أمن وطني وثقافي بامتياز.

582

| 22 سبتمبر 2025

قمة الدوحة.. لحظة الحقيقة في مواجهة العدوان الإسرائيلي

مع إشراقة شمس هذا اليوم، تكتب قطر صفحة جديدة في تاريخ الأمتين العربية والإسلامية، إذ تحتضن «دوحة الخير» قمةً استثنائية تأتي في لحظة مصيرية. فبينما يتواصل العدوان الإسرائيلي الوحشي على الشعب الفلسطيني الأعزل، امتدت يد الاحتلال الغاشمة لتطال قطر نفسها بضربة غادرة، في استهدافٍ سافرٍ لدولة لم تتوانَ يوماً عن الدفاع عن فلسطين وقضيتها العادلة، إن انعقاد هذه القمة لا يُعد مجرد اجتماع بروتوكولي، بل هو امتحان حقيقي لإرادة القادة، وفرصة تاريخية لإثبات قدرتهم على حماية كرامة الأمة وصون سيادة دولها. إن اجتماع القمة اليوم في الدوحة يحمل بُعدين متلازمين: الأول نصرة الشعب الفلسطيني الذي يواجه حرب إبادة ممنهجة، والثاني الدفاع عن قطر التي استُهدفت مباشرة كرسالة إسرائيلية خطيرة بأن أي دولة تساند فلسطين لن تكون في مأمن. ومن هنا، فإن هذه القمة ليست خياراً بل واجباً تاريخياً يمس كرامة الأمة جمعاء. لقد أثبتت التجارب الماضية أن الاحتلال الإسرائيلي لا يتراجع إلا تحت ضغط حقيقي، وأنه يستفيد من الانقسام والتردد العربي والإسلامي، واليوم، بعد أن توسع العدوان ليشمل فلسطين وقطر معاً، يصبح لزاماً على القادة العرب والمسلمين أن يتعاملوا مع الموقف بوصفه عدواناً شاملاً يستهدف الأمة كلها، لا مجرد نزاع محلي أو أزمة عابرة. منذ أكثر من سبعة عقود، ظلت القضية الفلسطينية هي البوصلة المركزية للأمة، غير أنّ السياسات الدولية المزدوجة والمعايير الانتقائية في تطبيق القانون الدولي، جعلت الاحتلال الإسرائيلي يتجرأ أكثر على ارتكاب جرائم الحرب دون خوف من العقاب. اليوم، ومع تواصل العدوان الإسرائيلي، تبرز أهمية هذه القمة التي تعقد في قطر، الدولة التي أثبتت عبر مواقفها المتكررة أنها لا تتعامل مع فلسطين كقضية سياسية عابرة، بل كقضية وجود وهوية. فالمشهد الراهن يتطلب أكثر من أي وقت مضى توحيد الجهود السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية في جبهة واحدة قوية، تُعيد للقضية مركزيتها وتفرض على العالم التعاطي معها بجدية. إذًا فالمطلوب أن تكون مخرجات قمة الدوحة مُعبّرة عن موقف واحد وموحّد، يعكس التزاماً جماعياً لا لبس فيه بالدفاع عن فلسطين، لأن وحدة الصف هي السلاح الأول في مواجهة آلة الاحتلال، وهي أيضاً الرسالة الأقوى للمجتمع الدولي بأن الأمة قادرة على تجاوز تبايناتها عندما يتعلق الأمر بالقضايا المصيرية. التاريخ مليء بالقمم التي خرجت ببيانات قوية لكن لم يُكتب لها التنفيذ. المطلوب من قادة اليوم أن يترجموا كلماتهم إلى أفعال، عبر اتخاذ قرارات اقتصادية ودبلوماسية ذات أثر مباشر، كقطع العلاقات أو تجميدها مع الاحتلال، أو على الأقل خفض التمثيل الدبلوماسي، وتفعيل الضغوط في المؤسسات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة والمحاكم الدولية، لمحاسبة إسرائيل على جرائمها. في السنوات الأخيرة، تراجعت القضية الفلسطينية في سلم الأولويات لدى بعض الأنظمة، نتيجة لانشغالات داخلية أو إقليمية. هذه القمة يجب أن تُعيد البوصلة إلى مكانها الطبيعي، وأن تؤكد أن فلسطين ليست قضية شعب وحده، بل قضية الأمة كلها، وأن المساس بالقدس أو غزة أو أي بقعة من الأرض الفلسطينية هو مساس بكرامة مليار ونصف المليار مسلم. الإعلام الغربي لعب دوراً في تزييف الحقائق وتبرير العدوان الإسرائيلي، ما يجعل من الضروري وضع إستراتيجية إعلامية عربية وإسلامية تكشف للرأي العام العالمي جرائم الاحتلال وتدحض روايته وهنا تأتي أهمية التنسيق بين القنوات والمنصات والمؤسسات الإعلامية في الدول العربية والإسلامية لتوحيد الرسالة الموجهة للعالم. لا يمكن الحديث عن الدفاع عن فلسطين دون دعم صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، المطلوب من القمة اعتماد آليات عملية لدعم غزة والقدس والضفة الغربية، سواء عبر المساعدات الإنسانية والإغاثية العاجلة، أو عبر توفير الدعم السياسي والمادي لمؤسسات الشعب الفلسطيني التي تواجه الحصار والعدوان. منذ سنوات طويلة، لعبت قطر دوراً ريادياً في نصرة القضية الفلسطينية، سواء عبر الدعم المالي والإنساني المباشر لسكان غزة، أو من خلال الوساطات الدبلوماسية التي قادتها للتخفيف من حدة الأزمات ووقف العدوان في محطات متعددة. اليوم، تحتضن الدوحة هذه القمة التاريخية، في تأكيد جديد على التزامها الثابت بدعم فلسطين، وعلى أنها حاضنة للمواقف العربية والإسلامية الصادقة التي تسعى للترجمة العملية لا الاكتفاء بالشعارات. فالمواقف القطرية كانت دائماً واضحة وحاسمة: لا تنازل عن القدس، لا شرعية للاحتلال، ولا استقرار في المنطقة دون حل عادل وشامل يعيد الحقوق إلى أصحابها. إن الدور القطري يتجاوز حدود الدعم المالي والسياسي، ليعكس إرادة صلبة في جعل القضية الفلسطينية في صدارة الاهتمام الدولي، سواء عبر المحافل الدبلوماسية أو عبر الحملات الإعلامية والإنسانية. ختاما إن قمة الدوحة اليوم ليست فقط من أجل وقف نزيف الدم الفلسطيني، بل أيضاً رداً مباشراً على العدوان الإسرائيلي الذي استباح سيادة قطر، هذا الاستهداف المزدوج يكشف أن الاحتلال لم يعد يرى خطوطاً حمراء، وأنه ماضٍ في غطرسته ما لم يواجه بردّ عربي وإسلامي موحّد وحازم. إن انعقاد هذه القمة في قطر، في هذا التوقيت العصيب، هو رسالة أمل للشعب الفلسطيني، ورسالة تحدٍّ للاحتلال الإسرائيلي، ورسالة إلى العالم بأسره بأن العرب والمسلمين ما زالوا قادرين على الفعل إذا امتلكوا الإرادة. فإما أن تكون هذه القمة بداية مرحلة جديدة من الفعل العربي والإسلامي المؤثر، أو أن ينظر إليها التاريخ كفرصة ضاعت في لحظة كانت بأمسِّ الحاجة إلى قرارات شجاعة.

477

| 15 سبتمبر 2025

قطر بين نيران العدوان وأمانة الوساطة

لا يمكن النظر إلى الضربة الإسرائيلية التي استهدفت قيادات من حركة حماس في الدوحة، إلا بوصفها حدثًا فارقًا في مسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ومحاولة يائسة لإجهاض الجهود القطرية التي قطعت شوطًا كبيرًا في التوسط لوقف الحرب الدامية في غزة. فإن تمتد يد الاحتلال إلى قلب العاصمة القطرية، وفي لحظة تفاوضية حساسة، فذلك لا يعني فقط انتهاك السيادة، بل رسالة سياسية بليغة: إسرائيل لا تريد سلامًا، ولا تطيق وسيطًا مستقلًا يفرض قواعد مختلفة على طاولة المفاوضات. ما بعد الضربة لم يكن كما قبلها. في قطر، شهدنا صورة نادرة من التلاحم الوطني، حيث وقف الشعب بكافة أطيافه خلف قيادته، مؤكدًا أن السيادة ليست موضع مساومة. مشاهد التضامن الشعبي، والتغطيات الإعلامية التي أبرزت وحدة الموقف، كشفت عن عمق العلاقة بين القيادة والمواطنين، وعن إدراك جمعي بأن قوة قطر تكمن في ثباتها على مواقفها، مهما اشتد الضغط الخارجي. ذلك الالتفاف لم يكن مجرد رد فعل عاطفي، بل تجديد لعقد وطني غير مكتوب: إن قطر، الصغيرة بمساحتها، الكبيرة بدورها، لا تقبل الابتزاز، وأن كل محاولة للنيل منها تزيدها تماسكا. منذ اندلاع الحرب على غزة عام 2023، تحملت قطر عبئًا لا تحمله إلا الدول الكبرى: التوفيق بين طرفين على طرفي نقيض، إسرائيل وحماس، والسعي لإيجاد أرضية مشتركة لوقف النار. لم يكن ذلك جهدًا تقنيًا فقط، بل مسؤولية أخلاقية وإنسانية، إذ ارتبطت الوساطة القطرية بممرات الإغاثة، ودعم إعادة الإعمار، وتأمين المساعدات لآلاف الأسر المنكوبة. إسرائيل تعلم أن نجاح الوساطة القطرية يضعف ذريعة استمرار الحرب. لذلك اختارت أن تضرب قلب الدوحة، ليس فقط لتصفية قادة حماس، بل لإرسال إشارة إلى أن أي وسيط لا يسير وفق الإيقاع الإسرائيلي، سيكون عرضة للتشكيك أو الاستهداف. إنها محاولة لكسر الحياد القطري، وإرغامه على التراجع عن دوره. الدوحة لم تدخل على خط الوساطة بحثًا عن مكاسب آنية، بل انطلاقًا من قناعة بأن السلام العادل هو استثمار طويل الأمد في استقرار المنطقة. غير أن الثمن كان باهظًا: تهديدات متكررة، تشكيك إعلامي من أطراف مختلفة، وأخيرًا ضربة عسكرية داخل أراضيها. من وجهة نظري، هذه الضربة تكشف عن مأزق استراتيجي تعيشه إسرائيل. فهي تملك القوة العسكرية لتدمير الأبنية فوق ساكنيها، لكنها تفتقر للقوة الدبلوماسية لفرض حل سياسي مقبول. كل ما فعلته في الدوحة أنها عمّقت عزلتها، وأكدت أنها عاجزة عن التعامل مع الوسطاء إلا بلغة النار. في النهاية، أثبتت الضربة أن الدوحة ليست مجرد وسيط ثانوي في ملف غزة، بل لاعب مركزي باتت حساباته تفرض نفسها على الإقليم. إسرائيل حاولت أن تكسر قطر، لكنها في الحقيقة منحتها فرصة لتأكيد موقعها القيادي، عربيًا ودوليًا. التفاف الشعب حول القيادة، وحدة الموقف العربي، والإدانة العالمية، كلها عناصر جعلت من الحدث نقطة تحول: لم تعد القضية مجرد نزاع بين إسرائيل وحماس، بل صارت اختبارًا لاحترام سيادة الدول العربية، وشرعية أدوارها في السعي إلى السلام. التاريخ سيذكر أن قطر اختارت أن تكون صوتًا للسلام، وأنها لم تنكسر تحت وطأة العدوان.

1116

| 11 سبتمبر 2025

الثروة الحقيقية.. جمال الروح

في زمنٍ تتسارع فيه الخطى نحو بريق المظاهر الخارجية، وتُقاس قيمة المرء بما يرتديه من ماركات أو بما يملكه من أرصدة، يبرز سؤال جوهري يتجاوز كل هذه القشور: أين تكمن القيمة الحقيقية للإنسان؟ هل في جيبه الممتلئ أم في نفسه العامرة؟ هل في قسمات وجهه أم في ملامح روحه؟ إن الإجابة التي تعطيها الفطرة السليمة وتجسدها خبرات الأجيال هي أن الثروة ليست مالًا ولا ذهبًا، بل هي صفاء نفسٍ وقوة روحٍ وعمق إنسانية. لقد اعتدنا أن نلهث وراء ما لا يُشبع، وأن نربط سعادتنا بما قد يتبخر بين عشية وضحاها. ومع ذلك، هناك حكمة متوارثة تقول: «الشبع في العين لا في البطن، والغنى في النفس لا في الجيب، والجمال في الروح لا في الشكل.» إنها ليست مجرد عبارات مثالية تُزين الكتب، بل فلسفة حياة عملية تمنح صاحبها توازنًا ورضا وسعادة لا تنالها الأزمات ولا تقوى عليها الظروف. القناعة ليست مجرد فضيلة أخلاقية، بل هي فن العيش بطمأنينة، شبع البطن مؤقت؛ فمن يلتهم ما لذ وطاب سيعود سريعًا ليبحث عن وجبة أخرى، إنها دائرة لا تنتهي من رغبة مؤقتة وإشباع زائل، أما شبع العين فهو الامتنان لما بين يديك، ورؤية النعمة في أبسط الأشياء. الإنسان القنوع يرى جمال شروق الشمس وكأنه لوحة نادرة، يبتسم لضحكة طفله وكأنها أغلى من كنوز الأرض، ويستمتع بدفء جلسة عائلية بسيطة أكثر مما يستمتع غيره بموائد مترفة، في المقابل، الجشع لا يشبع؛ عيناه جائعتان دومًا، لا ترى سوى ما يملكه الآخرون، حتى لو امتلأت خزائنه. الشبع في العين يجعلنا أحرارًا من سطوة المقارنات، فلا نقيس حياتنا على مقاييس الآخرين، ولا نُثقل كاهلنا بأحلام مادية لا تنتهي، إنه طريق قصير نحو سعادة طويلة الأمد، بينما شبع البطن هو طريق طويل نحو وهم قصير. كم من غنيٍ محاط بالقصور يعاني فقرًا داخليًا لا يداويه مال، وكم من فقير الموارد يعيش غنىً يفيض على من حوله، المال قد يشتري سريرًا فاخرًا، لكنه لا يشتري النوم الهادئ؛ وقد يشتري أصدقاء مصلحة، لكنه لا يشتري قلبًا مخلصًا. الغني الحقيقي هو من يملك في داخله ما يعجز الذهب عن منحه، العلم والمعرفة ثراء لا يصدأ، وباب يفتح آفاقًا لا تنتهي، والغنى النفسي هو درع الإنسان ضد الابتذال والمهانة، وهو ما يمنحه احترام الناس وثقتهم، فالمال قد يشتري النفوذ لحين، لكنه لا يشتري القلوب، أما غنى النفس فهو ميراث خالد يُذكر به صاحبه بعد رحيله، ويخلّد أثره بين الناس. لقد خدعتنا الإعلانات حين صورت الجمال على أنه وجه مثالي، لكن الحقيقة التي لا يخطئها القلب أن الجمال الحقيقي ليس في المظهر، بل في الروح، الوجه الجميل قد يبهرك لحظة، أما الروح الجميلة فتأسرك عمرًا. الجمال الخارجي محكوم بالزمن؛ يفنى مع العمر ويذبل مع المرض، أما الجمال الروحي فخالد يزداد بريقًا كلما نضج صاحبه، هو ما يجعل شخصًا عاديًا محبوبًا أكثر من عارض أزياء، وما يجعل ابتسامة صادقة أقوى من كل مساحيق التجميل. يتجلى جمال الروح في اللطف والرحمة، معاملة الآخرين برفق، واحترام الضعفاء قبل الأقوياء، والابتسامة الصادقة التي تضيء الوجوه أكثر من أي مساحيق، التفاؤل والأمل الذي يبث طمأنينة في المحيطين به، ويزرع فيهم إيمانًا بالحياة، الصدق والأمانة، فلا شيء يُشوه وجه المرء مثل الكذب، ولا شيء يُجمله مثل الصراحة، الاستماع والتعاطف وأن تمنح قلبك قبل أذنك لمن يحتاج، فتشعره بأنه غير وحيد. جمال الروح لا يُمحى مع السنين، بل يزداد رسوخًا. وحين يُذكر صاحبه بعد رحيله، لا يذكره الناس بمظهره، بل بمواقفه ودفء قلبه وطيب معشره. في الختام لا أحد ينكر أهمية المال أو المظهر؛ فهما جزء من سنن الحياة، لكن الخطر يبدأ حين نجعل المال هو المقياس الوحيد، والمظهر هو الحكم الأخير فبهذا نُسقط جوهر الإنسان ونحوله إلى سلعة. القيمة الحقيقية تكمن في الداخل، في بناء النفس وصقل الروح وتغذية العقل، أعظم استثمار يقوم به المرء ليس في العقارات أو الأسهم، بل في أخلاقه، في ثقافته، في صحته النفسية، في علاقاته الإنسانية، تلك هي الثروة التي لا تُسرق، ولا تنهار في الأزمات، ولا يستهلكها الزمن. فلنضع نصب أعيننا شعارًا واضحًا: لنَعِش حياة بسيطة في مادتها، غنية في معناها، جميلة في أثرها، لأن الحياة ليست فيما نملك، بل فيما نكون.

327

| 02 سبتمبر 2025

رحلة التحرر من الطاقة السلبية

تُعد الطاقة السلبية من المفاهيم التي يكثر تداولها في السنوات الأخيرة، وهي تعبير شامل عن حالة من المشاعر والأفكار المظلمة التي تؤثر سلبًا على الصحة النفسية والجسدية والعاطفية للإنسان، هذه الطاقة قد تتشكل نتيجة تراكم الضغوط الحياتية، أو المرور بتجارب صعبة، أو الانغماس في بيئات مليئة بالتوتر والصراعات، حتى تصبح جزءًا من نمط الحياة اليومي دون أن نشعر. تتجلى الطاقة السلبية في صور متعددة ومتداخلة، فهي ليست مجرد إحساس عابر بالضيق، بل حالة يمكن أن تتغلغل في أعماق النفس وتؤثر في التفكير والسلوك. قد تظهر على شكل إحباط مستمر يطفئ الحماس، أو قلق متصاعد يثقل الصدر، أو شعور دائم بالإرهاق الجسدي والذهني حتى من أبسط المهام، أو عزلة عن الآخرين وكأن هناك جدارًا غير مرئي يفصل الإنسان عن محيطه. وفي كثير من الأحيان، تأتي هذه الطاقة من مصادر لا نتوقعها؛ فقد تتسلل عبر الأخبار المليئة بالمآسي والصور المؤلمة التي تترك أثرًا في الروح، أو من التواجد في أماكن غير منظمة وفوضوية تبعث على التوتر دون وعي، أو من التعامل مع أشخاص اعتادوا النقد الجارح والتقليل من قيمة الآخرين، مما يترك بصمة سلبية في النفس. كما أن البيئة المحيطة — سواء كانت مكان العمل أو المنزل — لها تأثير بالغ، فالمكتب المزدحم بالأوراق غير المرتبة، أو الجدران التي تفتقر للألوان المريحة، أو المساحات التي تفتقد الهواء النقي، جميعها يمكن أن تضاعف من الشعور بالاختناق الداخلي. حتى الأصوات الصاخبة أو الإضاءات الحادة قد تخلق حالة من التوتر المستمر. وفي المقابل، فإن بيئة هادئة، نظيفة، ومنظمة يمكنها أن تمتص الكثير من هذا الثقل النفسي، وتعيد التوازن إلى الروح. الأمر لا يقتصر على المكان أو الأشخاص فقط، بل قد تكون الطاقة السلبية وليدة أفكارنا الداخلية، حين نكرر في أذهاننا مخاوفنا وإخفاقاتنا، أو نسترجع أحداثًا مؤلمة مرارًا، فنصبح نحن مصدر بثّ هذه الطاقة لأنفسنا دون أن نشعر. العلاقات الإنسانية تمثل أيضًا أحد أهم العوامل المؤثرة؛ فالأشخاص السلبيون أو الذين يميلون إلى استنزاف طاقة من حولهم بالكلمات الجارحة أو المطالب المستمرة، يسهمون بشكل مباشر في تعزيز الشعور بالضيق والاختناق، كما أن الاحتفاظ بمشاعر سلبية غير مُعالجة مثل الغضب أو الحزن أو الخوف لفترات طويلة، يتيح لهذه الطاقة أن تتجذر في النفس، فتؤثر على التفكير والسلوك. التعامل مع الطاقة السلبية لا يقتصر على تجنب مصادرها، بل يحتاج إلى بناء منظومة متكاملة من العادات الإيجابية، ممارسة النشاط البدني بانتظام، مثل المشي أو الرياضة أو اليوغا، تساعد في تحرير التوتر وإفراز هرمونات السعادة. التأمل والتنفس العميق يتيحان للعقل فرصة للهدوء وإعادة التوازن، بينما قضاء وقت في الطبيعة يمنح شعورًا بالاتصال والسكينة. كما أن التعبير عن المشاعر بطريقة صحية، سواء بالكتابة أو التحدث مع شخص موثوق، يخفف من تراكم الضغوط، الحفاظ على بيئة نظيفة ومرتبة في المنزل أو مكان العمل يساهم في تحسين الحالة المزاجية، تمامًا كما تفعل الألوان المشرقة والإضاءة الجيدة. حتى الماء، سواء من خلال الاستحمام الدافئ أو الجلوس قرب البحر أو النهر، يمكن أن يكون له أثر مهدئ للنفس. البعد الروحي يمثل جانبًا محوريًا في مواجهة الطاقة السلبية، إذ يجد الكثيرون أن القرب من الله وممارسة العبادات والذكر يمدّ القلب بالطمأنينة ويمنح النفس قوة لمواجهة ما قد يعترضها من ضيق أو هم. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِن شَرِّ مَا خَلَقَ، وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ»، وهي آيات عظيمة تحصّن النفس وتطرد الشرور، وتذكّر المؤمن بأن الله هو الحافظ من كل سوء. إن قراءة هذه السورة، إلى جانب المعوذتين وآية الكرسي، صباحًا ومساءً، ليست مجرد تلاوة كلمات، بل هي استحضار لمعاني الحماية الإلهية، وطلب السكينة في حضرة الرحمن. كما أن استشعار معانيها يرسّخ في القلب الثقة بأن أي طاقة سلبية، حسدًا كانت أو وساوس أو هموما، لا يمكن أن تصمد أمام نور الإيمان. ولا يتوقف الأمر عند التلاوة فقط، بل يمتد إلى أعمال البر والإحسان، فالخير الذي يقدمه الإنسان للآخرين يرتد عليه مضاعفًا، فيخلق هالة من الطاقة المشرقة حوله، تحيطه بالطمأنينة وتبعد عنه الأذى. مساعدة المحتاج، رسم البسمة على وجه مهموم، أو حتى كلمة طيبة، كل ذلك يفتح أبواب الرحمة، ويجعل النفس أكثر صفاءً وقوة أمام الضغوط. في النهاية، الطاقة السلبية ليست قدرًا محتومًا، بل حالة يمكن إدارتها والتحرر منها. إدراك وجودها هو الخطوة الأولى، ثم اتخاذ قرارات واعية لتغيير أنماط الحياة والعلاقات والبيئة المحيطة. عندما ندرك أن المفتاح في أيدينا، يمكننا أن نحطم الجدران التي تعوقنا ونفتح المجال للنور ليدخل حياتنا.

186

| 21 أغسطس 2025

الذكاء الاصطناعي.. سلاح ذو حدين

نحن نعيش في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا بوتيرة مدهشة، حتى أننا بالكاد نلتقط أنفاسنا لنفهم ما يدور حولنا، أحد أكثر الابتكارات تأثيرًا في هذا العصر هو «الذكاء الاصطناعي»، الذي دخل حياتنا دون استئذان، وتمدد في تفاصيل يومنا العادي، في هواتفنا، في منازلنا، في تعليم أبنائنا، وحتى في لحظات الترفيه والراحة. لكن مع كل ما يحمله من فرص، لا يمكن أن نغفل عن كونه سلاحًا ذا حدين. وبينما ينشغل العالم بإبراز مزاياه، أرى أن من واجب كل أب وأم أن يقفا قليلًا ليفكرا، ما الذي يدخل حياتي من خلال هذه التقنية؟ وكيف يمكن أن يؤثر على نفسي، وأسرتي، وأطفالي تحديدًا؟ ببساطة، الذكاء الاصطناعي هو قدرة الآلات على محاكاة بعض قدرات الإنسان العقلية، مثل التعلم، واتخاذ القرار، والتخطيط، والتفاعل مع اللغة والصوت والصورة، لكن دعونا لا نُبسط الأمور أكثر من اللازم، فهذه التقنية ليست مجرد روبوتات لطيفة أو تطبيقات طريفة، بل هي منظومات ضخمة تحلل بياناتنا، وتتعلم من سلوكنا، وتُعيد تشكيل تجاربنا اليومية في كل ضغطة زر. كيف لا يُدهشك ذكاء آلة تقترح عليك فيلمًا تحبه دون أن تطلب؟ أو تطبيق يتنبأ بما تريده بناءً على محادثة عابرة؟ أو برنامج تعليمي يتفاعل مع مستوى ابنك بشكل شخصي؟ الذكاء الاصطناعي جعل حياتنا أسهل من أي وقت مضى، يوفّر الوقت، يقلل من الأخطاء، يُحسّن من جودة التعليم، ويمنحنا راحة لم نكن نحلم بها، لكنه – ويا للأسف – قد يسلبنا في المقابل شيئًا أثمن بكثير: وعينا، قدرتنا على التفكير، وعلاقاتنا الإنسانية. لا أنكر أن هناك تطبيقات تعليمية رائعة، تنمّي مهارات الطفل وتُبسط له المفاهيم الصعبة. لكن هل ننتبه للوجه الآخر؟ كم من طفل اليوم لا يستطيع أن ينام دون شاشة؟ كم من طفل فقد قدرته على التركيز أو الكلام المباشر بسبب الإفراط في استخدام الأجهزة الذكية؟ إن خوارزميات الذكاء الاصطناعي في منصات مثل YouTube لا تسعى لتعليم الطفل، بل لإبقائه مشدودًا لأطول وقت ممكن، محتوى يُبهر العين لكنه – في كثير من الأحيان – يُفسد الوجدان. أيها الأب، أيتها الأم... لا تفرحوا كثيرًا حين يصمت طفلك أمام الشاشة، هذا الصمت ليس علامة على الراحة، بل نداء خفي من عقل صغير يغرق في العزلة الرقمية. الذكاء الاصطناعي يتلاعب أيضا بعقول المراهقين أكثر مما نتصور، ما بين خوارزميات مواقع التواصل التي تبالغ في عرض «الكمال المزيف»، وتطبيقات تُعيد تشكيل الصور والواقع، يضيع الشاب أو الفتاة في مقارنة مستمرة مع نماذج غير حقيقية، يبدأ الشعور بالنقص، ثم التوتر، ثم الاكتئاب... وربما ما هو أخطر. هناك أيضًا خطر التنمر الإلكتروني، ونشر الشائعات، وتلقي رسائل مشفرة من شخصيات مؤثرة تحركها أدوات الذكاء الاصطناعي. المراهق، بطبيعته، يفتش عن ذاته، عن صوته الخاص، عن شخصيته، فكيف له أن يجدها وسط زحام محتوى مفلتر ومُصمم ليجذبه لا ليبنيه؟ أحيانًا نحن – ككبار – نستسلم بسهولة، نُسلم أطفالنا للمحتوى الذكي كي نرتاح قليلاً، أو نبرر بأن العالم يتغير ولابد أن يواكبوا، لكن... هل نراقب فعلًا ما يُشاهد؟ هل نسأل أنفسنا: هل أنا أعلّم طفلي التوازن، أم أزرع فيه التبعية؟ التكنولوجيا لا تعوض التربية، ولا تملأ الفراغ العاطفي، إن بيوتًا كثيرة تبدو هادئة من الخارج، لكن ما إن تُغلق الشاشات حتى تظهر الفجوات: طفل لا يعرف كيف يتكلم مع والده، ومراهق يفضل الحديث مع «روبوت» على أن يفتح قلبه لأمه. وهنا أدعو جميع الآباء والأمهات، لا تتركوا التربية للأجهزة الذكية.. التطبيقات لا تُربي، والخوارزميات لا تُراعي قيمنا ولا ثقافتنا، التربية تبدأ بالقدوة، ثم بالحديث، ثم بالحب والاحتواء.. راقبوا المحتوى دون تجسس: هناك فرق بين المراقبة الحانية، والشك المؤذي. اسأل ابنك، اجلسي مع ابنتك، تحدثوا بلا توتر... فالحوار هو جدار الأمان الأول. حدّدوا أوقات الاستخدام... وكونوا قدوة: لا يمكن أن تطلب من ابنك ترك الهاتف وأنت تمسك به طوال الوقت، التقنية تحتاج نظامًا عائليًا لا أوامر فردية.. عزّزوا المناعة النفسية والعقلية: لا تتركوا أبناءكم فريسة لما يُبهرهم بصريًا، علّموهم كيف يفكرون، كيف يشككون، كيف يسألون، التفكير النقدي هو السلاح الحقيقي.. حافظوا على العلاقات الواقعية، خصصوا وقتًا للأنشطة الجماعية، للأحاديث اليومية، للنقاشات العابرة، فالعائلة ليست شاشة، بل مشاعر وتفاعل وإنصات. ختاما.. الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا، لكنه ليس صديقًا دائمًا أيضًا، إنه أداة، وسلاح، ومرايا تعكس ما نزرعه نحن، إذا كنا واعين ومسؤولين، سيخدمنا، وإن كنا مهملين أو مستسلمين، فسيفسد حياتنا بصمت، دون أن نشعر إلا بعد فوات الأوان. أحب أن أكرر دائمًا هذه العبارة.. «الذكاء الحقيقي ليس في الآلة، بل في من يستخدمها.» أيها الأب... أيتها الأم... المستقبل يبدأ من اليوم، ومن كل قرار تتخذونه داخل البيت، لا تجعلوا الذكاء الاصطناعي يُربي أبناءكم بدلًا عنكم، فأنتم – مهما تطورت الآلات – تظلون الأصل، والمرجعية، والمصدر الأهم للحب والأمان والتوجيه.

213

| 11 أغسطس 2025

فنّ العيش بسلام داخلي

الحياة ليست مجرد أيام تمرّ، بل دروس تُعاش وتُستوعب. ومع مرور السنوات وتراكم التجارب، تكتشف المرأة أن أعظم المهارات التي يمكن أن تكتسبها ليست تلك التي تعلّمها كيف تربح أو تنجو أو تتفوق، بل كيف تهدأ، كيف تعيش بسلام داخلي، هذا السلام لا تمنحه الظروف، ولا تصنعه الأيدي، بل يُولد في أعماقنا، حين نكفّ عن الركض خلف ما لا نملك، ونتوقف عن تحميل أرواحنا ما لا طاقة لها به. لقد أدركتُ، ربما بعد صدمات عديدة، أنني لستُ مطالبة بأن أُرهق نفسي في ملاحقة إجابات لا تأتي، ولا أن أعلّق سعادتي على مشاعر الآخرين المتقلّبة، مهما كانت العلاقة عميقة. فالنضج، كما أراه اليوم، لا يُقاس بقدرتي على الانتصار في جدال، أو التمسّك بمن قرّر الانسحاب، بل في هدوئي حين أصمت، وفي حكمتي حين أنسحب بلطف، وفي تصالحي مع نفسي دون أن أحتاج إلى شرح أو تبرير. لأنني ببساطة لستُ مطالبة بخوض كل معركة، ولا بالرد على كل تصرف. من أكثر الأخطاء التي نقع فيها – نحن النساء خاصة – أن نربط طمأنينتنا بوجود أشخاص بعينهم في حياتنا. نُعلّق قلوبنا على حضورهم، ونستمدّ الشعور بالأمان من كلماتهم أو اهتمامهم. نبني وهمًا بأنهم الملاذ والملجأ، ثم نتفاجأ حين يخفت ذلك الحضور، أو ينقطع بلا مقدمات. بمرور الوقت، تعلمتُ – وبألم لا أخفيه – أن الأمان الحقيقي لا تصنعه يد تمسك بي، بل تصنعه روحي حين أدرك أنني كافية لنفسي. أن سعادتي لا تُعطى، بل أخلقها بنفسي. وأن الطمأنينة الحقيقية تُبنى من الداخل، حين أتوقف عن طلب الاعتراف الخارجي لأثبت ذاتي، وأبدأ في حبّ نفسي، بصدق، دون انتظار لتصفيق أحد. وقد صدق من قال: «من جعل سعادته بيد غيره، أعطاه الدنيا ثم انتزعها منه في لحظة» لأننا حين نُعلّق مصيرنا بمن حولنا، نصبح هشّات، عُرضة للانكسار عند أول خيبة، أو أول جفاء. كم مرة ظننتُ أن من حولي ثابتون؟ كم من صديقة أحببتُها بصدق، فإذا بها تتغير بلا سبب واضح؟ وكم من علاقة بدت راسخة، ثم انكسرت في لحظة عابرة؟ المؤلم ليس فقط الفقد، بل الأسئلة التي تُرهقني بعده: لماذا؟ كيف؟ متى؟ وكأنني إذا عرفت السبب زال الألم. لكن الحقيقة أن بعض الأمور لا تُفهم، وبعض العلاقات لا تُشرح، وبعض الأشخاص لا يجب أن أركض خلفهم بحثًا عن مبرر الغياب. السلام الحقيقي هو أن أملك شجاعة القبول. أن أقول لنفسي بثقة: «كفاني الله شرّ ما صادفني» أن أمضي دون ضجيج، وأن أدرك أن بعض الأشخاص لم يكونوا خطأً في حياتي، بل درسًا قاسيًا في التقدير الزائد. أن أتقبل أن الحياة بطبيعتها متغيرة، لا شيء يدوم فيها، وعليّ أن أُحصّن نفسي، لا أن أحاول منع التبدّل. عندما يُغلق الله بابًا في وجهي، قد لا أجد تفسيرًا. لكنني مع الوقت أدركت أن بعض الأبواب لم تكن لي من الأساس. لم أعد أُكثر من السؤال كما كنت، بل أقول لنفسي بثقة: «لعل الله صرف عني شرًّا لم أكن أراه». كم مرة تمنّيت شيئًا بكل جوارحي، ثم لم يُكتب لي؟ كم من فرصة سعيتُ إليها ثم ابتعدت عني؟ في البداية حزنتُ، ثم غضبت، ثم – مع الزمن – فهمت. ما حسبتُه خذلانًا، كان في جوهره رحمة خفية. الرضا لا يعني الاستسلام، بل هو قمة النضج والثقة بأن ما كتبه الله لي، هو الخير، حتى وإن لم يُرضِ قلبي الآن. كما قال ابن عطاء الله السكندري: «ما حُرمتِ إلا ما لم يُقدّر لكِ، وما أُعطيتِ إلا ما قُدّر لكِ». ختاما: كوني حديقتك الخاصة فالسلام الداخلي لا يُختزل في شخص أو علاقة أو وظيفة. هو قرار. قرار أتخذه كل يوم، بأن أختار نفسي، وأحبّها، وأحميها. أن أُحب بلا تملّك، وأعطي بلا انتظار، وأغادر دون مرارة. أن أفهم أن الحياة أقصر من أن أقضيها في إرضاء من لا يرون قيمتي، أو في شرح نفسي لمن لا يريد الفهم أصلًا. كوني حديقتك الخاصة. ازرعي في داخلك بذور الرضا، واسقيها بالتوكل، وأحيطيها بسياج الصمت الناضج. حينها، لن يهمّ من بقي أو من رحل، لأن عبير سلامك سيبقى معكِ، يرافقكِ حيثما كنتِ. «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» فليكن الله كافيكِ، وليكن صمتكِ حصنكِ، ورضاكِ سلاحكِ، وحبكِ لذاتكِ أعظم سند في هذه الحياة المتقلبة.

408

| 05 أغسطس 2025

هل الأخ سند فعلًا ؟

تتردد عبارة «الأخ سند» على ألسنة الكثيرين، كأنها حقيقة راسخة لا تقبل الجدل، لكنني أجد نفسي أطرح سؤالًا صريحًا: هل ما زال الأخ فعلًا كما كان في السابق؟ هل ما زال يحمل هذا المعنى العميق والدافئ الذي كنا نتربى عليه ونراه في حياة الأجداد والآباء؟ أم أن تغيّرات الزمن قد سلبت من هذه العبارة معناها الحقيقي، وأبقتها فقط مجرد كلمات نرددها دون أن نشعر بها؟ لقد كان الأخ في الزمن الماضي حصنًا منيعًا، كتفًا يُستند إليه عند الانكسار، وصوتًا يصدح بالحق حين تخفت الأصوات، أما اليوم، فكثيرًا ما أرى الأخوة وقد باتت علاقتهم شكلية، ضعيفة، تفتقر إلى الدفء والاحتواء، وكأنها واجب اجتماعي أكثر منها رابطة وجدانية. في ذاكرة الزمن الجميل، كانت الأخوة من أقوى الروابط الإنسانية، لا تعني فقط المشاركة في النسب والاسم، بل كانت تعني الشراكة في كل تفاصيل الحياة، من الأفراح إلى الأتراح، من الأحلام إلى الأزمات، كان الأخ هو الرفيق في الطريق، والحامي في الخصام، والناصح في الحيرة، بل وكان مستعدًا للتضحية دون مقابل. من لا يتذكر كيف كانت العائلات تتكافل في أبسط الأمور؟ كيف كان الأخ الأكبر يحمل عبء الأسرة، ويكون قدوة لإخوته؟ لقد كانت الأخوة تعني الانتماء، وتعني أن لك ظهرًا لا ينكسر مهما عصفت بك الأيام، كان يكفي أن تقول «أخي معي» لتشعر بالطمأنينة. لكننا لا نعيش في الأمس، بل في زمن تغيّر فيه الكثير، وأصبح من الصعب أن نجد بين الإخوة ذلك الارتباط العميق الذي عرفناه سابقًا، السبب ليس واحدًا، بل تتعدد العوامل التي أضعفت هذه الرابطة، أول ما يخطر ببالي هو تلك الوتيرة السريعة التي فرضتها الحياة العصرية، أصبح كل فرد منشغلًا بنفسه، يركض خلف العمل، والطموحات، والضغوط المالية والنفسية، حتى بات لا يملك وقتًا للجلوس مع أسرته، ناهيك عن لقاء إخوته. ولا يمكن إنكار تأثير الزواج على هذه العلاقة، فالزوجة أحيانًا، وبدون قصد، قد تصبح حاجزًا بين الأخ وأهله، خصوصًا إذا لم تكن العلاقة متوازنة تحكمها المودة والتفاهم، نرى بعض الأزواج يختارون الابتعاد عن إخوتهم لتفادي المشكلات أو إرضاء الشريك، فيخسرون بذلك رابطًا لا يُعوّض، وهناك أيضًا المال، ذلك الفتّاك الصامت، الذي كثيرًا ما يعصف بالأخوة، حين تتقاطع المصالح أو تتشابك الحقوق. أما وسائل التواصل الاجتماعي، التي يُفترض بها أن تقرّب الناس، فقد ساهمت للأسف في جعل العلاقة بين الإخوة سطحية، مقتصرة على رسائل مقتضبة أو إعجابات عابرة على منشورات، بدلًا من الحديث العميق واللقاء الحقيقي، التواصل أصبح إلكترونيًا لا إنسانيًا، وانحسر دفء اللقاءات في زحمة الرسائل والمكالمات المؤجلة. وسط هذه الصورة المتغيرة، قد يتساءل البعض: هل فقد الأخ قيمته كسند؟ أقول: ليس تمامًا. فالأخ لا يزال سندًا إذا أردنا نحن أن نحافظ على هذه الصفة فيه، لا بد أن نعيد تعريف علاقتنا بإخوتنا، ونعيد إحياء المودة القديمة التي ماتت اختناقًا بضغوط العصر، لا يجب أن ننتظر الأزمة لنمد يد المساعدة، بل ينبغي أن يكون الحضور مستمرًا، والمودة دائمة، والمبادرة دائمًا حاضرة. أحيانًا لا يحتاج الأخ منا سوى مكالمة صادقة، أو زيارة بلا مناسبة، أو سؤال بسيط يشعره أننا ما زلنا نراه جزءًا من حياتنا، لا يمكن أن نقيم علاقات أخوية حقيقية دون أن نمنحها من وقتنا وجهدنا واهتمامنا، الأخوة ليست معادلة حسابية، بل رابطة روحية تحتاج إلى تغذية دائمة. ولا بد أن نتعلم ثقافة العفو بين الإخوة، فالخلافات أمر طبيعي، لكن الخطر هو أن تتركها تكبر حتى تصبح حاجزًا دائمًا، كم من أخ وأخ انقطعت بينهما العلاقة لسنوات بسبب سوء تفاهم بسيط؟ وكم من مواقف صغيرة كبُرت لأن الكبرياء غلب على المحبة؟ لو كنا نؤمن حقًا بأن الأخ سند، لما تركنا الخلافات تسرق منا هذه النعمة. في الإسلام، الأخوة لها مكانة عظيمة، سواء كانت أخوة في الدم أو في الدين. قال النبي صلى الله عليه وسلم م: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه»، أي لا يتخلى عنه ولا يسلمه للضياع، فكيف إذًا بالأخ الحقيقي، شقيق الروح والدم؟ لقد شدد الإسلام على صلة الرحم، وعلى احترام الأخ وتقديره، وعلى حفظ الود والحقوق. لهذا، فإن العودة إلى قيمنا الدينية والإنسانية الأصيلة هي السبيل لإعادة الأخوة إلى مكانتها. ختامًا، أقول إن عبارة «الأخ سند» لا يجب أن تكون مجرد شعار نردده في المناسبات، بل ينبغي أن تكون حقيقة نحياها ونحافظ عليها، الأخوة لا تسقط بالتقادم، ولا تضعف إلا إذا أهملناها، وإذا كانت الحياة قد فرّقت بين الإخوة بالمكان أو المشاغل، فإن القلوب وحدها قادرة على أن تُبقي الرابط قويًّا إذا وُجد فيها الحب الصادق. نحن من نُقرر: إما أن نُبقي الأخوة مجرد ذكرى جميلة من الماضي، أو أن نعيد إليها رونقها في الحاضر، فالأخ الذي يسندك في أوقات الشدة، ويقف إلى جوارك حين يبتعد الجميع، هو نعمة لا تقدر بثمن، فلنتمسك بها، ونغرسها في أبنائنا، لعلنا نُعيد للمجتمع تلك الروح العائلية التي نفتقدها اليوم.

381

| 28 يوليو 2025

alsharq
من فاز؟ ومن انتصر؟

انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت...

7083

| 14 أكتوبر 2025

alsharq
الكرسي الفارغ

ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...

2991

| 20 أكتوبر 2025

alsharq
النعش قبل الخبز

لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...

2898

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
معرفة عرجاء

المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....

2856

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
نموذج قطر في مكافحة المنشطات

يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...

2568

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
العنابي يصنع التاريخ

في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...

2313

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
قادة العالم يثمّنون جهود «أمير السلام»

قمة شرم الشيختطوي صفحة حرب الإبادة في غزة.....

1623

| 14 أكتوبر 2025

alsharq
ملف إنساني على مكتب وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة

في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...

1404

| 16 أكتوبر 2025

alsharq
مواجهة العزيمة واستعادة الكبرياء

الوقت الآن ليس للكلام ولا للأعذار، بل للفعل...

1251

| 14 أكتوبر 2025

alsharq
العطر الإلكتروني في المساجد.. بين حسن النية وخطر الصحة

لا يخفى على أحد الجهود الكبيرة التي تبذلها...

1128

| 14 أكتوبر 2025

alsharq
أين ربات البيوت القطريات من القانون؟

واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...

1026

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
وجبات الدايت تحت المجهر

لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...

972

| 20 أكتوبر 2025

أخبار محلية