رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
قال القرطاس للقلم لولاي لما حفل بك الناس! فقال القلم: لولاي لما كان لوجودك معنى! كذلك الحاكم مع شعبه.. إنها حكمة أفادنا بها الداعية الكبير المجدد الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله في جملة حكم عديدة خصصها لمعالجة الحكام والشعوب والسياسة الصالحة أو الطالحة في كتابه النفيس "هكذا علمتني الحياة"، أجل فإن ألسنة الخلق أقلام الحق، وإن الجماهير في كل زمان ومكان هي تراجم حكامها فكما يكونون تكون، وقد قالوا: الناس على دين ملوكها، بمعنى أن الجميع يدورون في هذا الفلك صلاحا أو فسادا وكم شقيت رعية بشقاء راعيها وسعدت أخرى بطهارة هذا الراعي، وإذا أردنا أن نطوف قليلا ونحن نرى الكم الهائل من المفارقات بين الحاكم والمحكوم في وقتنا هذا بالذات والذي بدت مظاهره أخيرا في الانتفاضة الشعبية التونسية العارمة التي أراد الشعب فيها الحياة وما نحسه اليوم بالثورة الكبرى التي هبت عاصفتها في مصر كاسرة كأختها التونسية حاجز الخوف ناهضة بشبابها المتوثب بدمه المتدفق لدحر الطغيان والطغاة إذا تأملنا ذلك بوعي واتعاظ رأينا كيف يتأخر أو لا يكون على وجه الحقيقة فهم المستبدين والفراعنة لطبائع النفوس والحقائق والأشياء لأنهم غائبون عن السنن الإلهية وعبر التاريخ، فمثلاً بينما رأينا ابن علي في تونس بعد ثلاثة وعشرين عاما يخاطب شعبه بأنه الآن قد فهمهم وأخذ يعد بإعادة الديمقراطية والحقوق إليهم، ولكن بعد أن فات الأوان لكثرة ما جرب القوم عليه من الكذب والظلم والحقد، فكذلك رأينا حسني مبارك يطل بعد صمت مريب أو انتظار لأسياده حتى يسمحوا له بالكلام فيتشدق بكلام مكرر لا طائل تحته، مدعيا أنه صانع الديمقراطية والحرية وأنه لولاها لما استطاع المتظاهرون أن يقفوا في الساحة محتجين عند كل مدينة بدءاً بالقاهرة وهنا نعود مع شيخنا السباعي لنؤكد أن هؤلاء الطغاة لا يخرجون عن طبيعتهم في كل وطن وزمن لأنهم حين يدعون ينسون أو يتناسون مظالمهم للناس وكبت أنفاسهم ومنعهم حتى من التواصل فيما بينهم بتاتا وتسليط أوحش القوات القمعية لقتلهم وجرحهم يقول رحمه الله: إن من أكبر الخرافات التي يروجها الزعماء في عصرنا أن يسموا الديكتاتورية ديمقراطية وينادوا بالحرية من أجل أن يئدوها، وقد سبق أن أشرنا من قبل كيف أكد المفكر جان جاك روسو أن الديمقراطية السلبية هي التي يقتل الحكام خصومهم باسمها ويؤكد السباعي أن الديكتاتورية هي أبشع أنواع الردة في عصر الذرة هذا إلى عصر الاسترقاق الجماعي في العصر الحجري وهكذا فالشعارات الكاذبة إنما هي مطية الطغاة من الحكام، وهي لافتات أحزابهم الضيقة الرخيصة التي تدني وتقرب التحوت الأسافل اللئام وتنظر إلى الأشراف والأحرار من الجماهير نظرها إلى الأنعام. إن مثل هؤلاء المستبدين لهم علامة من جملة علامات الساعة كما جاء في الحديث الشريف "لا تقوم الساعة حتى يرتفع التحوت على الوعول قيل يا رسول الله من التحوت؟ قال: أسافل الناس، قيل فمن الوعول؟ قال: كرام الناس". إن أولئك الطغاة هم أسواق النفاق في كل عصر ومصر وإنهم مهما اعتمدوا على قوتهم الظاهرية فإنهم مغلوبون ومهما اعتمدوا على جاههم فإنهم مخلوعون لا محالة لأن ناموس الكون لابد أن يطولهم وإن المظلومين الذين قهروا من قبلهم لهم أهم جزء في هذا الناموس، إن الظلمة أساس نكبة هذه الأمة وهم أعدى أعدائها الحقيقيين لأنه كما قال السباعي: لا يبلغ الأعداء من أمة ما يبلغ منها استغلال ساستها لمثلها العليا، وليس ذلك غريبا فمن لم تملأ قلبه مشاعر الإيمان بالله ومراقبته كيف يؤمن على وطنه وشعبه ولا خير في سلطان لا يشعر بسلطان الله عليه ويمعن في الحقد على خيار الرعية مع أن المقنع الكندي ينصح في شعره: وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا بل عنترة بن شداد إذ يقول:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
ولا ينال العلا من طبعه الغضب
إن مثل هؤلاء الفراعنة يشعرون بأنهم يشيرون ولا يستشيرون ويستغلون العواطف البريئة لأغراض غير بريئة ويسبحون في بحور الظلمات كالسمك الكبير الذي يأكل السمك الصغير، انهم يدمرون البلاد والعباد تدميرا ويكفي أن يذلوا الأمة ويعزوا أعداءها بعد ذلك، ولكننا مع ذلك نقول: إن وجودهم وتماديهم هو السبب الحقيقي لبزوغ النور من بين الظلام ولولا الطغاة لما عرف أدعياء الحرية من شهدائها كما قال السباعي: إن هذا اليوم في مصر لهو يوم الفصل لا الهزل، يوم الانتفاض على الظلم والظالمين، يوم التضحية بأزكى الدماء التي بأياديها المضرجة تدق أبواب الحرية يوم الشروق الباسم بلا حدود فقد قال الشعب كلمته ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر ومن ينظر اليوم إلى هذه الجموع المحتشدة بأكثر من 150 ألفا في ساحة التحرير في القاهرة وهم يصلون المغرب ساجدين لله وحده عبيداً له لا لسواه يجأرون بالدعاء أن يحفظ الله مصر العروبة والإسلام مترحمين على الشهداء الأبرار صارخين وحناجر عشرات الآلاف في جميع ربوع أرض الكنانة تشاركهم وداعا للقهر والاستعباد والطغيان والفساد، ورفضا للرأس اللامبارك وزبانيته من الأشرار وللسياسة الحمقاء الخرقاء التي دمرت البلاد دينيا وأخلاقيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعلى جميع الأصعدة، إضافة إلى كل من آزرهم ويؤازرهم من مصريين ومتضامنين في أرجاء العالم أمام السفارات أو في الساحات والمراكز والمواقع إنه يوم الفرحة التي نرجو من الله أن يتمها على الأمة ويحفظها من أي انتكاسة ويصون الثورة من السراق واللصوص الداخليين والخارجيين، إذ المجرمون دوما يتربصون بنا الدوائر ولكن الحق معنا ما دمنا معه ومن أوضح هذا الحق ألا يسمح لذيول النظام إن ذهب رأسه بالبقاء وأن يجتهد الأحرار للعمل على إلغاء قانون الطوارئ والمطالبة بحل مجلس الشعب والشورى وإنقاذ البلاد بحكومة وطنية صادقة فعالة، إذ أن تغير الأشخاص مع بقاء سياسة الفساد يضر أكثر فأكثر وإن شأن الطاغية المفسد مهما زعم وادعى ووعد بالإصلاح فإنه يفسد أكثر مما يصلح كما كان قال البشير الإبراهيمي رحمه الله، إن ذلك مع الدعوة لانتخابات نزيهة وشفافة بعد المرحلة الانتقالية لكفيل بإذن الله أن يخلص البلاد من هذه الأزمة الظلماء وذلك بعد أن يرحل الرئيس لأن ذلك هو المدخل الأساسي لحل هذه المعضلة ويكفيه حكم 30 عاماً كما قال العلامة الشيخ القرضاوي فإن كانت هذه السنون غرما فحسبه ذلك وإن كانت غنما فما غنمه خلالها يفيض ويفيض، إن إسقاط النظام لابد منه وأن الجماهير لقادرة أن تفعل المستحيل بعون الله مهما طغى المتجبرون سيما أنهم غير مقبولين لا في الدنيا ولا الآخرة.
وإنه كما قال السباعي: يجب ألا نغتر بامتداد سلطان المفسدين فإن من حكمة الله ألا يأخذهم إلا بعد أن لا يوجد من يقول عنهم رحمهم الله، وإن لله سيوفا تقطع رقابهم ومنها أخطاؤهم وحماقاتهم، حيث إنهم كم آذوا الصادقين والدعاة والأحرار والوطنيين المخلصين فأمهلهم الله سنين لكن هذا يوم القصاص إذ انكشف أمرهم أكثر وأكثر فلا غرو أن يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فيا شباب مصر والعرب جميعاً لا تيأسوا فلابد لليالي أن تتمخض عن أملكم المنشود وعلى الباغي تدور الدوائر، فمتى يفهم الطغاة؟
khaled_hindawi@hotmail.com
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب مجرد خيبة رياضية عابرة، بل كانت صدمة حقيقية لجماهير كانت تنتظر ظهوراً مشرفاً يليق ببطل آسيا وبمنتخب يلعب على أرضه وبين جماهيره. ولكن ما حدث في دور المجموعات كان مؤشراً واضحاً على أزمة فنية حقيقية، أزمة بدأت مع اختيارات المدرب لوبيتيغي قبل أن تبدأ البطولة أصلاً، وتفاقمت مع كل دقيقة لعبها المنتخب بلا هوية وبلا روح وبلا حلول! من غير المفهوم إطلاقاً كيف يتجاهل مدرب العنابي أسماء خبرة صنعت حضور المنتخب في أكبر المناسبات! أين خوخي بوعلام و بيدرو؟ أين كريم بوضياف وحسن الهيدوس؟ أين بسام الراوي وأحمد سهيل؟ كيف يمكن الاستغناء عن أكثر اللاعبين قدرة على ضبط إيقاع الفريق وقراءة المباريات؟ هل يعقل أن تُستبعد هذه الركائز دفعة واحدة دون أي تفسير منطقي؟! الأغرب أن المنتخب لعب البطولة وكأنه فريق يُجرَّب لأول مرة، لا يعرف كيف يبني الهجمة، ولا يعرف كيف يدافع، ولا يعرف كيف يخرج بالكرة من مناطقه. ثلاث مباريات فقط كانت كفيلة بكشف حجم الفوضى: خمسة أهداف استقبلتها الشباك مقابل هدف يتيم سجله العنابي! هل هذا أداء منتخب يلعب على أرضه في بطولة يُفترض أن تكون مناسبة لتعزيز الثقة وإعادة بناء الهيبة؟! المؤلم أن المشكلة لم تكن في اللاعبين الشباب أنفسهم، بل في كيفية إدارتهم داخل الملعب. لوبيتيغي ظهر وكأنه غير قادر على استثمار طاقات عناصره، ولا يعرف متى يغيّر، وكيف يقرأ المباراة، ومتى يضغط، ومتى يدافع. أين أفكاره؟ أين أسلوبه؟ أين بصمته التي قيل إنها ستقود المنتخب إلى مرحلة جديدة؟! لم نرَ سوى ارتباك مستمر، وخيارات غريبة، وتبديلات بلا معنى، وخطوط مفككة لا يجمعها أي رابط فني. المنتخب بدا بلا تنظيم دفاعي على الإطلاق. تمريرات سهلة تخترق العمق، وأطراف تُترك بلا رقابة، وتمركز غائب عند كل هجمة. أما الهجوم، فقد كان حاضراً بالاسم فقط؛ لا حلول، لا جرأة، لا انتقال سريع، ولا لاعب قادر على صناعة الفارق. كيف يمكن لفريق بهذا الأداء أن ينافس؟ وكيف يمكن لجماهيره أن تثق بأنه يسير في الطريق الصحيح؟! الخروج من دور المجموعات ليس مجرد نتيجة سيئة، بل مؤشر مخيف! فهل يدرك الجهاز الفني حجم ما حدث؟ هل يستوعب لوبيتيغي أنه أضاع هوية منتخب بطل آسيا؟ وهل يتعلم من أخطاء اختياراته وإدارته؟ أم أننا سننتظر صدمة جديدة في استحقاقات أكبر؟! كلمة أخيرة: الأسئلة كثيرة، والإجابات حتى الآن غائبة، لكن من المؤكّد أن العنابي بحاجة إلى مراجعة عاجلة وحقيقية قبل أن تتكرر الخيبة مرة أخرى.
2322
| 10 ديسمبر 2025
عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا لا يعني بالضرورة أنه الأفضل والأذكى والأكثر كفاءة، بل قد تكون الظروف والفرص قد أسهمت في وصوله. وهذه ليست انتقاصًا منه، بل فرصة يجب أن تُستثمر بحكمة. ومن الطبيعي أن يواجه القائد الشاب تحفظات أو مقاومة ضمنية من أصحاب الخبرة والكفاءات. وهنا يظهر أول اختبار له: هل يستفيد من هذه الخبرات أم يتجاهلها ؟ وكلما استطاع القائد الشاب احتواء الخبرات والاستفادة منها، ازداد نضجه القيادي، وتراجع أثر الفجوة العمرية، وتحوّل الفريق إلى قوة مشتركة بدل أن يكون ساحة تنافس خفي. ومن الضروري أن يدرك القائد الشاب أن أي مؤسسة يتسلّمها تمتلك تاريخًا مؤسسيًا وإرثًا طويلًا، وأن ما هو قائم اليوم هو حصيلة جهود وسياسات وقرارات صاغتها أجيال متعاقبة عملت تحت ظروف وتحديات قد لا يدرك تفاصيلها. لذلك، لا ينبغي أن يبدأ بهدم ما مضى أو السعي لإلغائه؛ فالتطوير والبناء على ما تحقق سابقًا هو النهج الأكثر نضجًا واستقرارًا وأقل كلفة. وهو وحده ما يضمن استمرارية العمل ويُجنّب المؤسسة خسائر الهدم وإعادة البناء. وإذا أراد القائد الشاب أن يرد الجميل لمن منحه الثقة، فعليه أن يعي أن خبرته العملية لا يمكن أن تضاهي خبرات من سبقه، وهذا ليس نقصًا بل فرصة للتعلّم وتجنّب الوقوع في وهم الغرور أو الاكتفاء بالذات. ومن هنا تأتي أهمية إحاطة نفسه بدائرة من أصحاب الخبرة والكفاءة والمشورة الصادقة، والابتعاد عن المتسلقين والمجاملين. فهؤلاء الخبراء هم البوصلة التي تمنعه من اتخاذ قرارات متسرّعة قد تكلّف المؤسسة الكثير، وهم في الوقت ذاته إحدى ركائز نجاحه الحقيقي ونضجه القيادي. وأي خطأ إداري ناتج عن حماس أو عناد قد يربك المسار الاستراتيجي للمؤسسة. لذلك، ينبغي أن يوازن بين الحماس ورشادة القرار، وأن يتجنب الارتجال والتسرع. ومن واجبات القائد اختيار فريقه من أصحاب الكفاءة (Competency) والخبرة (Experience)، فنجاحه لا يتحقق دون فريق قوي ومتجانس من حوله. أما الاجتماعات والسفرات، فالأصل أن تُعقَد معظم الاجتماعات داخل المؤسسة (On-Site Meetings) ليبقى القائد قريبًا من فريقه وواقع عمله. كما يجب الحدّ من رحلات العمل (Business Travel) إلا للضرورة؛ لأن التواجد المستمر يعزّز الانضباط، ويمنح القائد فهمًا أعمق للتحديات اليومية، ويُشعر الفريق بأن قائده معهم وليس منعزلًا عن بيئة عملهم. ويمكن للقائد الشاب قياس نجاحه من خلال مؤشرات أداء (KPIs) أهمها هل بدأت الكفاءات تفكر في المغادرة؟ هل ارتفع معدل دوران الموظفين (Turnover Rate)؟ تُمثل خسارة الكفاءات أخطر تهديد لاستمرارية المؤسسة، فهي أشد وطأة من خسارة المناقصات أو المشاريع أو أي فرصة تجارية عابرة. وكتطبيق عملي لتعزيز التناغم ونقل المعرفة بين الأجيال، يُعدّ تشكيل لجنة استشارية مشتركة بين أصحاب الخبرة الراسخة والقيادات الصاعدة آلية ذات جدوى مضاعفة. فإلى جانب ضمانها اتخاذ قرارات متوازنة ومدروسة ومنع الاندفاع أو التفرد بالرأي، فإن وجود هذه اللجنة يُغني المؤسسة عن اللجوء المتكرر للاستشارات العالمية المكلفة في كثير من الخطط والأهداف التي يمكن بلورتها داخليًا بفضل الخبرات المتراكمة. وفي النهاية، تبقى القيادة الشابة مسؤولية قبل أن تكون امتيازًا، واختبارًا قبل أن تكون لقبًا. فالنجاح لا يأتي لأن الظروف منحت القائد منصبًا مبكرًا، بل لأنه عرف كيف يحوّل تلك الظروف والفرص إلى قيمة مضافة، وكيف يبني على خبرات من سبقه، ويستثمر طاقات من حوله.
1206
| 09 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل بالتحزّبات والصراعات والاصطفافات، اختارت قطر أن تقدّم درسًا غير معلن للعالم: أن الرياضة يمكن أن تكون مرآة السياسة حين تكون السياسة نظيفة، عادلة، ومحلّ قبول الجميع واحترام عند الجميع. نجاح قطر في استضافة كأس العرب لم يكن مجرد تنظيم لبطولة رياضية، بل كان حدثًا فلسفيًا عميقًا، ونقلاً حياً ومباشراً عن واقعنا الراهن، وإعلانًا جديدًا عن شكلٍ مختلف من القوة. قوة لا تفرض نفسها بالصوت العالي، ولا تتفاخر بالانحياز، ولا تقتات على تفتيت الشعوب، بل على القبول وقبول الأطراف كلها بكل تناقضاتها، هكذا تكون عندما تصبح مساحة آمنة، وسطٌ حضاري، لا يميل، لا يخاصم، ولا يساوم على الحق. لطالما وُصفت الدوحة بأنها (وسيط سياسي ناجح ) بينما الحقيقة أكبر من ذلك بكثير. الوسيط يمكن أن يُستَخدم، يُستدعى، أو يُستغنى عنه. أما المركز فيصنع الثقل، ويعيد التوازن، ويصبح مرجعًا لا يمكن تجاوزه. ما فعلته قطر في كأس العرب كان إثباتاً لهذه الحقيقة: أن الدولة الصغيرة جغرافيًا، الكبيرة حضاريًا، تستطيع أن تجمع حولها من لا يجتمع. ولم يكن ذلك بسبب المال، ولا بسبب البنية التحتية الضخمة، بل بسبب رأس مال سياسي أخلاقي حضاري راكمته قطر عبر سنوات، رأس مال نادر في منطقتنا. لأن البطولة لم تكن مجرد ملاعب، فالملاعب يمكن لأي دولة أن تبنيها. فالروح التي ظهرت في كأس العرب روح الضيافة، الوحدة، الحياد، والانتماء لكل القضايا العادلة هي ما لا يمكن فعله وتقليده. قطر لم تنحز يومًا ضد شعب. لم تتخلّ عن قضية عادلة خوفًا أو طمعًا. لم تسمح للإعلام أو السياسة بأن يُقسّما ضميرها، لم تتورّط في الظلم لتكسب قوة، ولم تسكت عن الظلم لتكسب رضا أحد. لذلك حين قالت للعرب: حيهم إلى كأس العرب، جاؤوا لأنهم يأمنون، لأنهم يثقون، لأنهم يعلمون أن قطر لا تحمل أجندة خفية ضد أحد. في المدرجات، اختلطت اللهجات كما لم تختلط من قبل، بلا حدود عسكرية وبلا قيود أمنية، أصبح الشقيق مع الشقيق لأننا في الأصل والحقيقة أشقاء فرقتنا خيوط العنكبوت المرسومة بيننا، في الشوارع شعر العربي بأنه في بلده، فلا يخاف من رفع علم ولا راية أو شعار. نجحت قطر مرة أخرى ولكن ليس كوسيط سياسي، نجحت بأنها أعادت تعريف معنى «العروبة» و»الروح المشتركة» بطريقة لم تستطع أي دولة أخرى فعلها. لقد أثبتت أن الحياد العادل قوة. وأن القبول العام سياسة. وأن الاحترام المتبادل أكبر من أي خطاب صاخب. الرسالة كانت واضحة: الدول لا تُقاس بمساحتها، بل بقدرتها على جمع المختلفين. أن النفوذ الحقيقي لا يُشترى، بل يُبنى على ثقة الشعوب. أن الانحياز للحق لا يخلق أعداء، بل يصنع احترامًا. قطر لم تنظّم بطولة فقط، قطر قدّمت للعالم نموذج دولة تستطيع أن تكون جسرًا لا خندقًا، ومساحة لقاء لا ساحة صراع، وصوتًا جامعًا لا صوتًا تابعًا.
792
| 10 ديسمبر 2025