رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
عقب انتهاء حرب أكتوبر 73، وضعت خطط إستراتيجية أمريكية وإسرائيلية، عنوانها تحقيق التسوية أو إحلال السلام، غير أنها لم تستهدف لا هذا ولا ذاك، بل تحقيق نصر استراتيجي حضاري شامل مستديم لعدة أجيال، لإسرائيل والغرب على العرب عبر أدوات التفاوض ووسائل القوة الناعمة، بإنهاء كل العوامل والمقدرات التي مكنت مصر وسوريا والقيادة الفلسطينية–على قاعدة القرار العربي- من الوصول إلى حد شن الحرب الهجومية بقدرة عقول وطنية وإرادة غير مسبوقة، ودحر أسطورة الجيش الذي لا يقهر. كان الجوهر في تلك الخطط هو كيف تفقد مصر وسوريا والعرب هذا الكادر السياسي والعسكري والعلمي والإعلامي والاستخباري الذي مكنها من وضع الخطط وإدارة الحرب على ذاك المستوى، وأن يفقد العرب قدرتهم على القرار المشترك في الحرب. هم يعلمون أن النصر لم يتحقق بالسلاح بل بالإرادة والتخطيط والإدارة والصمود والإيمان بالنصر، وهذا ما يخشونه وليس غيره.
في الطريق للاتفاقيات، جرى الفصل بين مصر وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية، كما فتحت معركة أخرى في الجناح الشرقي للأمة مع إيران وأصبح الشرق محورا للحروب بديلا لمحور دول الطوق ضد إسرائيل، فجرت عملية استنزاف للقوة والقدرة والقرار الموحد في اتجاه معركة أخرى، حتى جاء قرار غزو العراق للكويت ليبعثر ما بقي من النظام الرسمي العربي الذي أنتج أكتوبر. وحين جرى التوقيع على الاتفاقيات من كامب ديفيد إلى أوسلو إلى وادي عربه، كان الأهم لدى الأمريكان والصهاينة هو إنفاذ خطة القضاء على جيل أكتوبر، الذي كان اخطر ما تشكل في هذه المرحلة، فالكادر البشري هو العامل المحوري في تطور قدرات الأمم والشعوب وهو أهم ما تمتلك الأمم. هذا المخطط هو ذاته الذي رأيناه وتابعناه بعد الاحتلال الأمريكي للعراق. قتل العلماء والطيارين والكوادر العسكرية والسياسية لإخلاء العراق من عناصر القدرة على النهضة. وهو ذاته الذي تابعناه مع أعمال الاغتيال والتشويه التي جرت مع الكادر الفلسطيني خلال التحضير لأوسلو وبعدها.
نفس الأمر ووفق نفس الخطة، هو ما تابعناه منذ ثورة يناير وحتى الآن. البعض يغرق نفسه في حديث التسالي على طريقة البرامج الأمريكية المسماة بالتوك شو (أو استعراض الكلام -ربما) دون اطلاع الناس على جوهر ما يجري. لقد جرى استهداف تيارات سياسية، وهناك آلاف الأحداث، كل ذلك صحيح، لكن الأهم بالنسبة للولايات المتحدة والكيان الصهيوني، كان ولا يزال، هو القضاء على الكوادر التي شكلت وتمثل روح الثورة والنهوض والحرية والإيمان بقدرة الوطن على المنافسة والتقدم، باعتبارها نواة جيل جديد خطير على الغرب ومصالحه في الإقليم.
لقد جرت عملية مخططة لإعلان وتعيين آباء مزيفين للثورة، جرى نقلهم على عجل من المعامل الغربية إلى أرض الوطن، وكان قد جرى إعدادهم لمثل تلك المواجهة من قبل. وفي المقابل جرى إبعاد أو استبعاد من خاضوا نضالا سياسيا حقيقيا، جعل الناس يثقون بهم باعتبارهم الأقدر على بناء دولة جديدة ومجتمع جديد بحق، كما جرت أعمال مخططة لصناعة حركات بالعشرات لا دور سياسي ولا نضالي ولا تعرف شيئا لا عن السياسة ولا الثورة، فكانت نهبا لنشر ما يجرى إدخاله في أدمغتها، فهم مجرد ببغاوات. وجرى جلب شخصيات لم تحرق كليا خلال النظم القديمة، لا يتعدى فهمهم للسياسة والإعلام تطبيق آليات ومنطق البزنس وكسب المال. جرى ترميم أسمائهم وسمعتهم عبر الفضائيات. وفي المقابل جرى إبعاد وإزاحة وقتل وسجن العناصر صاحبة القدرة على الاستمرار وعلى القيادة وعلى الإبداع في مجالاتها. ولم ينسوا استخدام أسلحة التشويه والاغتيال المعنوي التي هي الأشد فتكا من السجن والقتل.
ما حدث هو ملاحقة وقتل وسجن كل هؤلاء الذين كان بإمكانهم تغيير وجه الأمة وصناعة خطط واستراتيجيات وإنتاج ابتكارات علمية وإشاعة ثقافة وفنون حقيقية لا مزيفة، لبناء مجتمع لا يمكن اقتلاع النهوض من داخله. ما حدث هو إنهاء وجود أصحاب الإرادة والرؤية والعقل والعلم والفهم الذين كان وصولهم للسلطة أو بقائهم يتحركون في داخل المجتمع، هو ما يمكن دول الربيع من تحقيق نهضة شاملة.
الحرب لإخلاء المجتمعات والدول من الكادر الإنساني الوطني الحقيقي المخلص، الذي هو أغلى ما تملكه الأوطان، هي الحرب الحقيقية من قبل الغرب. هي الحرب على صناعة المستقبل.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية



مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب مجرد خيبة رياضية عابرة، بل كانت صدمة حقيقية لجماهير كانت تنتظر ظهوراً مشرفاً يليق ببطل آسيا وبمنتخب يلعب على أرضه وبين جماهيره. ولكن ما حدث في دور المجموعات كان مؤشراً واضحاً على أزمة فنية حقيقية، أزمة بدأت مع اختيارات المدرب لوبيتيغي قبل أن تبدأ البطولة أصلاً، وتفاقمت مع كل دقيقة لعبها المنتخب بلا هوية وبلا روح وبلا حلول! من غير المفهوم إطلاقاً كيف يتجاهل مدرب العنابي أسماء خبرة صنعت حضور المنتخب في أكبر المناسبات! أين خوخي بوعلام و بيدرو؟ أين كريم بوضياف وحسن الهيدوس؟ أين بسام الراوي وأحمد سهيل؟ كيف يمكن الاستغناء عن أكثر اللاعبين قدرة على ضبط إيقاع الفريق وقراءة المباريات؟ هل يعقل أن تُستبعد هذه الركائز دفعة واحدة دون أي تفسير منطقي؟! الأغرب أن المنتخب لعب البطولة وكأنه فريق يُجرَّب لأول مرة، لا يعرف كيف يبني الهجمة، ولا يعرف كيف يدافع، ولا يعرف كيف يخرج بالكرة من مناطقه. ثلاث مباريات فقط كانت كفيلة بكشف حجم الفوضى: خمسة أهداف استقبلتها الشباك مقابل هدف يتيم سجله العنابي! هل هذا أداء منتخب يلعب على أرضه في بطولة يُفترض أن تكون مناسبة لتعزيز الثقة وإعادة بناء الهيبة؟! المؤلم أن المشكلة لم تكن في اللاعبين الشباب أنفسهم، بل في كيفية إدارتهم داخل الملعب. لوبيتيغي ظهر وكأنه غير قادر على استثمار طاقات عناصره، ولا يعرف متى يغيّر، وكيف يقرأ المباراة، ومتى يضغط، ومتى يدافع. أين أفكاره؟ أين أسلوبه؟ أين بصمته التي قيل إنها ستقود المنتخب إلى مرحلة جديدة؟! لم نرَ سوى ارتباك مستمر، وخيارات غريبة، وتبديلات بلا معنى، وخطوط مفككة لا يجمعها أي رابط فني. المنتخب بدا بلا تنظيم دفاعي على الإطلاق. تمريرات سهلة تخترق العمق، وأطراف تُترك بلا رقابة، وتمركز غائب عند كل هجمة. أما الهجوم، فقد كان حاضراً بالاسم فقط؛ لا حلول، لا جرأة، لا انتقال سريع، ولا لاعب قادر على صناعة الفارق. كيف يمكن لفريق بهذا الأداء أن ينافس؟ وكيف يمكن لجماهيره أن تثق بأنه يسير في الطريق الصحيح؟! الخروج من دور المجموعات ليس مجرد نتيجة سيئة، بل مؤشر مخيف! فهل يدرك الجهاز الفني حجم ما حدث؟ هل يستوعب لوبيتيغي أنه أضاع هوية منتخب بطل آسيا؟ وهل يتعلم من أخطاء اختياراته وإدارته؟ أم أننا سننتظر صدمة جديدة في استحقاقات أكبر؟! كلمة أخيرة: الأسئلة كثيرة، والإجابات حتى الآن غائبة، لكن من المؤكّد أن العنابي بحاجة إلى مراجعة عاجلة وحقيقية قبل أن تتكرر الخيبة مرة أخرى.
2328
| 10 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل بالتحزّبات والصراعات والاصطفافات، اختارت قطر أن تقدّم درسًا غير معلن للعالم: أن الرياضة يمكن أن تكون مرآة السياسة حين تكون السياسة نظيفة، عادلة، ومحلّ قبول الجميع واحترام عند الجميع. نجاح قطر في استضافة كأس العرب لم يكن مجرد تنظيم لبطولة رياضية، بل كان حدثًا فلسفيًا عميقًا، ونقلاً حياً ومباشراً عن واقعنا الراهن، وإعلانًا جديدًا عن شكلٍ مختلف من القوة. قوة لا تفرض نفسها بالصوت العالي، ولا تتفاخر بالانحياز، ولا تقتات على تفتيت الشعوب، بل على القبول وقبول الأطراف كلها بكل تناقضاتها، هكذا تكون عندما تصبح مساحة آمنة، وسطٌ حضاري، لا يميل، لا يخاصم، ولا يساوم على الحق. لطالما وُصفت الدوحة بأنها (وسيط سياسي ناجح ) بينما الحقيقة أكبر من ذلك بكثير. الوسيط يمكن أن يُستَخدم، يُستدعى، أو يُستغنى عنه. أما المركز فيصنع الثقل، ويعيد التوازن، ويصبح مرجعًا لا يمكن تجاوزه. ما فعلته قطر في كأس العرب كان إثباتاً لهذه الحقيقة: أن الدولة الصغيرة جغرافيًا، الكبيرة حضاريًا، تستطيع أن تجمع حولها من لا يجتمع. ولم يكن ذلك بسبب المال، ولا بسبب البنية التحتية الضخمة، بل بسبب رأس مال سياسي أخلاقي حضاري راكمته قطر عبر سنوات، رأس مال نادر في منطقتنا. لأن البطولة لم تكن مجرد ملاعب، فالملاعب يمكن لأي دولة أن تبنيها. فالروح التي ظهرت في كأس العرب روح الضيافة، الوحدة، الحياد، والانتماء لكل القضايا العادلة هي ما لا يمكن فعله وتقليده. قطر لم تنحز يومًا ضد شعب. لم تتخلّ عن قضية عادلة خوفًا أو طمعًا. لم تسمح للإعلام أو السياسة بأن يُقسّما ضميرها، لم تتورّط في الظلم لتكسب قوة، ولم تسكت عن الظلم لتكسب رضا أحد. لذلك حين قالت للعرب: حيهم إلى كأس العرب، جاؤوا لأنهم يأمنون، لأنهم يثقون، لأنهم يعلمون أن قطر لا تحمل أجندة خفية ضد أحد. في المدرجات، اختلطت اللهجات كما لم تختلط من قبل، بلا حدود عسكرية وبلا قيود أمنية، أصبح الشقيق مع الشقيق لأننا في الأصل والحقيقة أشقاء فرقتنا خيوط العنكبوت المرسومة بيننا، في الشوارع شعر العربي بأنه في بلده، فلا يخاف من رفع علم ولا راية أو شعار. نجحت قطر مرة أخرى ولكن ليس كوسيط سياسي، نجحت بأنها أعادت تعريف معنى «العروبة» و»الروح المشتركة» بطريقة لم تستطع أي دولة أخرى فعلها. لقد أثبتت أن الحياد العادل قوة. وأن القبول العام سياسة. وأن الاحترام المتبادل أكبر من أي خطاب صاخب. الرسالة كانت واضحة: الدول لا تُقاس بمساحتها، بل بقدرتها على جمع المختلفين. أن النفوذ الحقيقي لا يُشترى، بل يُبنى على ثقة الشعوب. أن الانحياز للحق لا يخلق أعداء، بل يصنع احترامًا. قطر لم تنظّم بطولة فقط، قطر قدّمت للعالم نموذج دولة تستطيع أن تكون جسرًا لا خندقًا، ومساحة لقاء لا ساحة صراع، وصوتًا جامعًا لا صوتًا تابعًا.
807
| 10 ديسمبر 2025
هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل التطوير مجرد عنوان جميل يتكرر على الورق، لكنه لا يعيش على الأرض (غياب النضج المهني) لدى القيادات. وهذا الغياب لا يبقى وحيدًا؛ بل ينمو ويتحوّل تدريجيًا إلى ما يمكن وصفه بالتحوّذ المؤسسي، حالة تبتلع القرار، وتحدّ من المشاركة، وتقصي العقول التي يُفترض أن تقود التطوير. تبدأ القصة من نقطة صغيرة: مدير يطلب المقترحات، يجمع الآراء، يفتح الباب للنقاش… ثم يُغلقه فجأة. يُسلَّم له كل شيء، لكنه لا يعيد شيئًا، مقترحات لا يُرد عليها، أفكار لا تُناقش، وملاحظات تُسجَّل فقط لتكملة المشهد، لا لتطبيقها. هذا السلوك ليس مجرد إهمال، بل علامة واضحة على غياب النضج المهني في إدارة الحوار والمسؤولية. ومع الوقت، يصبح هذا النمط قاعدة: يُطلب من المختصين أن يقدموا رؤاهم، لكن دون أن يكونوا جزءًا من القرار. يُستدعون في مرحلة السماع، ويُستبعدون في مرحلة الفعل. ثم تتساءل القيادات لاحقًا: لماذا لا يتغير شيء؟ الجواب بسيط: التطوير لا يتحقق بقرارات تُصاغ في غرف مغلقة، بل بمنظومة تشاركية حقيقية. أحد أكثر المظاهر خطورة هو إصدار أنظمة تطوير بلا آلية تنفيذ، تظهر اللوائح كأحلام مشرقة، لكنها تُترك دون أدوات تطبيق، ودون تدريب، ودون خط سير واضح. تُلزم بها الجهات، لكن لا أحد يعرف “كيف”، ولا “من”، ولا “متى”. وهنا، يتحول النظام إلى حِمل إضافي بدل أن يكون حلاً تنظيميًا. في كثير من الحالات، تُنشر أنظمة جديدة، ثم يُترك فريق العمل ليخمن طريقة تطبيقها، وعندما يتعثر التطبيق، يُحمَّل المنفذون المسؤولية وتصاغ خطابات الإنذار. هذا المشهد لا يدل فقط على غياب النضج المهني، بل على عدم فهم عميق لطبيعة التطوير المؤسسي الحقيقي. ثم يأتي الوجه الأوضح للخلل: المركزية المفرطة، مركزية لا تُعلن، لكنها تُمارس بصمت. كل خطوة تحتاج موافقة عليا، كل فكرة يجب أن تُصفّى، وكل مقترح يمر عبر «فلترة» شخصية، لا منهجية. في هذا المناخ، يفقد الناس الرغبة في المبادرة، لأن المبادرة تصبح مخاطرة، لا قيمة. وهنا تتحول المركزية تدريجيًا إلى تحوّذ مؤسسي كامل. القرار محتكر. المبادرات محجوزة. المعرفة مقيّدة. والنظام الإداري يُدار بعقلية الاستحواذ، لا بعقلية التمكين. التحوّذ المؤسسي هو الفخ الذي تقع فيه الإدارات حين يغيب عنها النضج. يبدأ من عقلية مدير، ثم ينتقل إلى أسلوب إدارة، ثم يتحول إلى ثقافة صامتة في المؤسسة. والنتيجة؟ - تجميد للأفكار. - هروب للعقول. - فقدان للروح المهنية. - تطوير شكلي لا يترك أثرًا. أخطر ما في التحوّذ أنه يرتدي ثياب التنظيم والجودة واللوائح، بينما هو في جوهره خوف مؤسسي من المشاركة، ومن نجاح الآخرين، ومن توزيع الصلاحيات. القيادة غير الناضجة ترى الأفكار تهديدًا، وترى الكفاءات منافسة، وترى التغيير خطرًا، لذلك تفضّل أن تُبقي كل شيء في يدها حتى لو تعطلت المؤسسة بأكملها. القيادة الناضجة لا تعمل بهذه الطريقة. القيادة الناضجة تستنير بالعقول، لا تستبعدها. تسأل لتبني، لا لتجمّل المشهد. تُصدر القرار بعد فهم كامل لآلية تطبيقه. وتعرف أن التطوير المؤسسي الحقيقي لا يقوم على السيطرة، بل على الثقة، والتفويض، والوضوح، وبناء أنظمة تعيش بعد القائد لا معه فقط. ويبقى السؤال الذي يجب أن يُطرح بصراحة لا تخلو من الجرأة: هل ما نراه هو تطوير مؤسسي حقيقي… أم تحوّذ إداري مغطّى بشعارات التطوير؟ المؤسسات التي تريد أن ترتقي عليها أن تراجع النضج المهني لقياداتها قبل أن تراجع خططها، لأن الخطط يمكن تعديلها… لكن العقليات هي التي تُبقي المؤسسات في مكانها أو تنهض بها.
702
| 11 ديسمبر 2025