رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. خالد وليد محمود

• متخصص بالسياسة السيبرانية

مساحة إعلانية

مقالات

177

د. خالد وليد محمود

الذكاء الاصطناعي.. من يقرر ملامح الحقيقة القادمة؟

02 نوفمبر 2025 , 03:38ص

لم يعد سؤال الهيمنة في عصر الذكاء الاصطناعي مجرّد منافسة تقنية على أدوات السيطرة، بل تحوّلًا بنيويًا في علاقة الإنسان بإنتاج المعرفة ومصادر السلطة. فالآلة لا تفرض حضورها لأنها أرقى حسابيًا فحسب، بل لأنها غدت الوسيط المركزي الذي يرشّح لنا العالم ويعيد تنظيمه. ما نراه على المنصات، وما تعلنه الخوارزميات، وما تسوّقه محركات البحث، لم يعد ثمرة قرار بشري واعٍ، بل نتيجة عمليات تعلّم تستمد مادتها من بياناتنا، ثم تعيد صياغة إدراكنا للعالم وفق منطقها الداخلي. وبذلك يتحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة نخضعها لإرادتنا إلى بيئة تُعاد عبرها صياغة وعينا وحدود معرفتنا؛ فضاء غير مرئي يُعيد ترتيب المعنى، ويمارس سلطة التوجيه قبل أن يولد الإدراك ذاته.

وفي عمق هذا التحوّل ينهض سؤال أكثر خطورة: من يمتلك حق تعريف «الموضوعية» و»الصواب» حين تصبح الحقيقة مُصنَّعة لا مكتشفة؟ لقد تحولت المعرفة من كونها بحثًا عن الواقع إلى عملية هندسة له، تُشفَّر فيها تحيّزات لغوية وثقافية واقتصادية داخل الكود، ثم تظهر في هيئة بيانات محايدة وإحصاءات دقيقة تبدو بلا هوى. وهكذا ينشأ نمط جديد من السلطة المعرفية يحتكر تعريف ما هو صحيح وما هو مضلّل؛ سلطة تتجاوز الكنيسة التي احتكرت تفسير الحقيقة الدينية في القرون الوسطى، والدولة التي احتكرت سرد السياسي والإعلامي في العصر الحديث، لتمنح الخوارزمية اليوم موقعًا يقترب من موقع من يرسم حدود الحقيقة ذاتها.لقد انتقلت آليات السيطرة في التاريخ من احتلال الجغرافيا إلى احتلال الإدراك. فالهيمنة لم تعد تمارس عبر القوة الصلبة، بل عبر إعادة تشكيل البنية الرمزية التي نُدرك بها الواقع. ولم تعد سلطة تعريف «الموضوعية» و»الصواب» حكرًا على الدولة أو النخب الأكاديمية والإعلامية، بل باتت موزعة على شبكةٍ من الفاعلين الجدد: الشركات التكنولوجية الكبرى، مطوّرو الخوارزميات، المستثمرون في رأس المال المعرفي، والمنصات التي تختار لك ما تراه وما تغفله. إنها هيمنة ناعمة لا تُفرض بالقهر بل تُزرع في التفضيلات الفردية ذاتها، في ما نظن أنه “اختيار حر”. وهكذا يُعاد تشكيل الإدراك الجمعي للعالم دون أن يشعر أحد بأنه خاضع أو مُوجَّه. وفي هذا الإطار، تذوب الحدود بين المعرفة والدعاية، بين التوجيه والمعلومات. فالخوارزمية لا تنقل الواقع كما هو، بل تعيد تركيبه وفق أنماطٍ إحصائية تستند إلى الماضي لتصنع الحاضر. إنها تقيس الحقيقة بمدى التكرار لا بالصدق، وتستنتج السلوك بناءً على الاحتمال لا على الإرادة. وهذا التحول يخلق نظامًا معرفيًا جديدًا يقوم على الاستباق بدل الفهم، وعلى التنبؤ بدل الحكم، وعلى التحليل الكمي بدل التجربة الإنسانية. وحين تصبح المعرفة منتجًا خوارزميًا، يفقد الإنسان أحد أقدم مصادر سلطته: قدرته على تعريف العالم بنفسه. وكما أعاد عصر التنوير صياغة العلاقة بين الفرد والدولة، يعيد عصر الذكاء الاصطناعي تعريف العلاقة بين الإنسان والآلة. غير أن الخطر هذه المرة يكمن في احتمال إعادة إنتاج مأساة الحداثة ذاتها: أن يتحول «عقل الآلة» من أداة للتحرّر إلى آلية للضبط والسيطرة. فحين تتراجع القيم أمام منطق الكفاءة، ويُستبدل الفهم بالسرعة، يتحوّل الإنسان من ذاتٍ فاعلة إلى وظيفة ضمن منظومة حسابية كبرى. تصبح الكفاءة معيارًا للحق، والدقة غايةً للمعنى، وينزاح السؤال الأخلاقي أمام منطق الجدوى. وهكذا يُعاد تعريف الإنسان من «غاية للتقنية» إلى «مدخل بيانات» ضمن اقتصادٍ أوسع للذكاء.

إن الحوكمة في هذا السياق ليست مجرد نقاش حول اللوائح والسياسات، بل سؤال فلسفي عن حدود الإنسان في منظومة خلق جديدة. فالهيمنة الحقيقية لم تعد فقط لمن يملك الخوارزمية، بل لمن يضع المعايير التي تُعرّف من خلالها مفاهيم «العدالة» و»الأمان» و»التحيّز». من يقرر حدود الخطر المقبول يملك سلطة تعريف الأمان، ومن يضع معايير الإنصاف يرسم بدقة حدود الممكن والممنوع. وهنا يتحول النقاش من المجال الأخلاقي إلى المجال الهندسي؛ تُترجم القيم إلى كود، ويُستبدل الضمير بالمواصفة التقنية. إنها بيروقراطية رقمية بلا بيروقراطيين، تحكم العالم من وراء شاشات ومراكز بيانات مغلقة.

هكذا يصبح الجدل حول حوكمة الذكاء الاصطناعي جدلًا حول معنى الإنسان ذاته: هل يبقى خالقًا يوجّه أدواته، أم يتحوّل إلى كائنٍ يُعاد تشكيله وفق منطقها؟ هل يظل فاعلًا في صياغة قيمه، أم يصبح موضوعًا لحساباتها؟ في النهاية، إن سؤال الهيمنة هو سؤال مزدوج عن السلطة والمعنى: من يمتلك السلطة على الآلة، ومن يمنح المعنى لما تفعله؟ وما لم ينجح العالم في إقامة توازنٍ جديد بين المعرفة والعدالة، وبين الكفاءة والكرامة، فإن المستقبل الرقمي سيُكتب بلغةٍ لا نملك مفرداتها، وتُصاغ قواعده في مختبراتٍ لا نشارك في حواراتها. وحين يحدث ذلك، لن تكون الهيمنة مجرّد سيطرة على التكنولوجيا، بل إعادة تشكيل للإنسان ذاته -لعلاقته بالحقيقة، ولحدود حريته، ولصوته في تعريف ما هو حقّ وما هو خطأ في عالمٍ باتت تحكمه الأكواد والخوارزميات.

مساحة إعلانية