رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أعادت الطائرات المسيّرة رسم مشهد الحروب الحديثة، فلم تعد مجرد أدوات تقنية، بل أصبحت قوة بنيوية تغيّر موازين الصراع. لم يعد التفوق الجوي حكرًا على الجيوش الكبرى وطائراتها الباهظة، بل باتت أسراب مسيّرات صغيرة ودقيقة، تصنع أحيانًا في ورش بسيطة، قادرة على ترجيح الكفة. هذا التحول أضعف احتكار الدول للعنف، وفتح المجال أمام فواعل غير تقليدية لتفرض حضورها العسكري والإستراتيجي. تكمن قوة هذا التحول في مزيج من الكفاءة والتكلفة المنخفضة. فالمسيّرات توفر قدرات استطلاعية وهجومية دقيقة، دون الحاجة لبنية تحتية مكلفة أو طيارين معرضين للخطر. ومع تزايد قدراتها في التحليق المنخفض وتجنّب الرصد، بات من الصعب مواجهتها بأنظمة الدفاع التقليدية. هذا التفاوت في الكلفة بين الطائرة المسيّرة ورصدها أو إسقاطها غيّر المعادلات الحسابية للردع العسكري، أجبر الجيوش الكبرى على إعادة النظر في منظوماتها الدفاعية. فحين يُطلق خصمك طائرةً بكلفة 300 دولار، وتردّ أنت بصاروخ بمليون دولار، فأنت تخسر المعركة قبل أن تبدأ. لقد تجلى هذا التحول على نحو غير مسبوق في النزاعات الحديثة، خاصة في مشاهد الحرب الممتدة من غزة إلى أوكرانيا. ففي غزة، لم تعد المعركة برية فقط، بل سمائية، حيث تدير إسرائيل عملياتها الدقيقة بمسيّرات هجومية واستطلاعية، بينما تنفذ حركات المقاومة عمليات هجومية واستطلاعية عبر مسيّرات انتحارية، تستهدف العمق الإسرائيلي وتربك استخباراته. وفي لبنان والعراق واليمن، باتت المسيّرات جزءًا من معادلات الاشتباك الإقليمي، تُستخدم في توجيه رسائل عسكرية مركبة دون الحاجة إلى خوض حرب تقليدية. أما في أوكرانيا، فقد تحولت السماء إلى حقل تجارب مفتوح، تُختبر فيه المسيّرات بآلاف الطلعات يوميًا، وتُدمج في شبكة قتال تجمع بين الذكاء الاصطناعي والحرب السيبرانية. الحرب في غزة خلال 2024 و2025 كشفت عن مستوى غير مسبوق من استخدام المسيّرات من الطرفين. فقد اعتمدت إسرائيل عليها بشكل مكثف في توجيه ضربات واغتيالات، ومراقبة التحركات، وجمع المعلومات الاستخبارية في بيئة معقدة. في المقابل، وظّفت حركات المقاومة المسيّرات بمرونة وابتكار، كأدوات انتحارية أو للمراقبة اللحظية أو حتى في تشويش الاتصالات، ما منحها ميزة نسبية رغم الفارق الهائل في الإمكانيات. لقد تحولت غزة إلى مختبر قتال عصري، حيث يُختبر مفهوم الردع غير المتكافئ عبر الأجواء، لا عبر الجبهات البرية فقط. ومع تسارع تطور تقنيات المسيّرات، لم تعد المسألة تقتصر على الأداء الفردي لطائرة واحدة، بل على قدرة جماعية مركّبة، تعرف باسم “أسراب المسيّرات”، وهي أنظمة هجومية معقدة تقودها خوارزميات ذكاء اصطناعي تتيح تنسيق الهجمات دون إشراف بشري مباشر. هذه التقنية تعني أن الطائرات يمكن أن تتواصل فيما بينها، تقرر الأهداف، وتعيد الانتشار بشكل لحظي. هذا التصور يفتح الباب أمام نوع جديد من الحروب – حروب بلا جنود، تُخاض فيها المعركة بين برمجيات ذكية ونظم دفاعية عاجزة عن المواكبة. تأسيسًا على ما سبق، وفي ظل تصاعد هذا السباق التكنولوجي، تشهد ميزانيات البحث والتطوير قفزات هائلة، حيث تجاوز الإنفاق العالمي على تقنيات الطائرات المسيّرة 100 مليار دولار عام 2024. وتبرز دول مثل تركيا وإيران وإسرائيل كمراكز إقليمية متقدمة في هذا المضمار، مستفيدة من تبني إستراتيجية تصنيع محلي وتصميم أنظمة هجومية متعددة الاستخدام. في المقابل، لا تزال معظم الدول العربية في موقع المستهلك أو المتأخر، وهو ما يطرح تحديات كبرى على صعيد السيادة التكنولوجية والجاهزية الدفاعية. مما لا شك فيه تفرض اليوم التحولات الجارية في مجال الطائرات المسيّرة ضغطًا متزايدًا على الجامعات ومراكز البحوث العربية لإعادة هندسة برامجها الأكاديمية والبحثية، فهذا المجال لم يعد حكرًا على التطبيقات العسكرية فحسب، بل تحول إلى قطاع متعدد التخصصات تندمج فيه الهندسة والذكاء الاصطناعي وأمن الشبكات والميكانيكا الدقيقة. ومن هذا المنطلق، يتحول تأسيس برامج أكاديمية متخصصة من كونه ترفًا معرفيًا إلى استثمار إستراتيجي يمس صميم الأمن القومي والتنمية المستدامة. كما أن دمج هذه التخصصات مع تطبيقات مدنية حيوية - كالزراعة الدقيقة، وإدارة الكوارث، ومراقبة الحدود، والتنقيب الجوي - لا يضفي عليها بعدًا تنمويًا فحسب، بل يحولها إلى ركيزة أساسية لبناء اقتصاد المعرفة، مما يعزز القدرة التنافسية العربية في سباق التكنولوجيا العالمي ويحقق السيادة التقنية المنشودة.
171
| 19 أكتوبر 2025
لم تعد ثورة البيانات الضخمة Big Data مجرد انعكاس للتحول الرقمي الذي شهده العالم في العقود الأخيرة، بل أصبحت أشبه بزلزال جيولوجي يعيد تشكيل بنية المعرفة والاقتصاد والسياسة معًا. لقد تحولت البيانات من مجرد أثر جانبي للأنشطة البشرية إلى رأس مال إستراتيجي يتجاوز في قيمته النفط والغاز، باعتبارها موردًا متجددًا، قابلًا للتوسع اللامحدود، لا ينضب ولا يُستهلك كما تُستهلك الموارد التقليدية. من هنا نشأت مقولة أن البيانات هي الذهب الجديد، أو العملة الأكثر تأثيرًا في الاقتصاد المعرفي المعاصر، حيث باتت تحدد موازين القوة في النظام العالمي وتعيد صياغة العلاقات بين الدول والشركات والمجتمعات والأفراد. تشير الأرقام إلى تسارع مذهل في حجم ما ينتجه العالم من بيانات، بحيث يصعب على الخيال أن يستوعب حجمه. ففي عام 2019، بلغ الحجم العالمي نحو 41 زيتابايت، وقفز إلى 101 زيتابايت عام 2022. ومع اقتراب نهاية 2025، تتوقع التقديرات أن يصل حجم البيانات المُنتجة يوميًا إلى ما يقارب 463 إكسابايت، في مقارنة صارخة مع 59 زيتابايت فقط في 2020. هذه القفزة تعني أن العالم في خمس سنوات فقط أنتج من البيانات أكثر مما أنتجته البشرية عبر تاريخها الطويل، وأننا أمام طفرة معرفية غير مسبوقة. غير أن القيمة الحقيقية لا تكمن في الكم وحده، بل في الكيف؛ أي في القدرة على تحويل هذا الطوفان الرقمي إلى معرفة ورؤى قابلة للاستخدام في اتخاذ القرار وصناعة المستقبل. هنا يبرز الذكاء الاصطناعي كالمعضّد الأساسي لهذه الثورة، حيث يوفر القدرة على تحليل البيانات، واستخلاص الأنماط الخفية، وتوليد التنبؤات الاستباقية. وتشير تقديرات اقتصادية إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يضيف ما يقارب 19.9 تريليون دولار إلى الاقتصاد العالمي بحلول 2030، أي ما يعادل 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي. لم يعد الاستثمار في البيانات رفاهية أو خيارًا ثانويًا، بل أصبح ضرورة إستراتيجية للبقاء في سباق التنافسية الدولية، فالمستقبل لن يكون لمن يملك الموارد الطبيعية وحدها، بل لمن يملك القدرة على استخراج المعنى من الأرقام وتحويلها إلى قرارات. في قلب هذه الثورة، تتبلور اتجاهات تقنية تعيد رسم ملامح إدارة البيانات عالميًا. فـ”التحليلات في الزمن الحقيقي” باتت أداة لاتخاذ قرارات لحظية في الأسواق وسلاسل التوريد، وأصبحت الحوسبة على الحافة حلًا لتقليص زمن الكمون في تطبيقات مثل إنترنت الأشياء والسيارات ذاتية القيادة. كما برزت تقنيات الخصوصية التفاضلية والتشفير بوصفها أدوات ضرورية لحماية المعلومات في بيئة باتت فيها الثغرات الأمنية تهديدًا سياديًا. وفي الوقت ذاته، يتم اللجوء إلى البيانات التركيبية لتدريب الخوارزميات بعيدًا عن البيانات الحساسة، فيما تلوح الحوسبة الكمية في الأفق بوعد قادر على قلب معادلات التحليل رأسًا على عقب بفضل قدرتها على معالجة تعقيدات رياضية يستحيل على الحواسيب التقليدية التعامل معها. لكن هذه الثورة ليست تقنية أو اقتصادية فحسب، بل تحمل أبعادًا جيوسياسية وأخلاقية عميقة. فمن يملك البيانات يمتلك السلطة، ومن يسيطر على تدفقها يرسم خرائط النفوذ. لقد صارت الشركات العملاقة مثل غوغل وأمازون وعلي بابا ومايكروسوفت مراكز قوة موازية للدول، بل تتجاوزها في بعض المجالات، إذ تتحكم في تدفقات المعلومات العالمية وتدير فضاءات رقمية يقطنها مليارات البشر. ومن هنا نشأت مخاوف من أن السلطة السياسية لم تعد محتكرة بيد الحكومات، بل أصبحت موزعة بين كيانات اقتصادية عابرة للحدود قادرة على التأثير في الرأي العام وصناعة القرار وحتى نتائج الانتخابات. الولايات المتحدة والصين تقفان على رأس هرم هذه الهيمنة الرقمية، إذ يشبه التنافس بينهما “حرب بيانات” جديدة، فيما تحاول أوروبا شق طريقها عبر تشريعات صارمة مثل اللائحة العامة لحماية البيانات التي تسعى لحماية الخصوصية وضبط سلوك الشركات. إنها معركة ليست تقنية فقط، بل قيمية وسيادية، تحدد هوية الفضاء السيبراني وأخلاقياته. في العالم العربي، تبدو الصورة أكثر تعقيدًا. فمعظم دول المنطقة ما زالت تستهلك البيانات أكثر مما تنتجها، وتعتمد على منصات وخوادم أجنبية، ما يجعلها رهينة للاعتماد التكنولوجي الخارجي. وفي المقابل، تمتلك المنطقة فرصة فريدة نظرًا لطاقاتها البشرية الشابة؛ إذ يشكل من هم دون الثلاثين أكثر من نصف السكان، وهذه قاعدة بشرية ضخمة إذا جرى تأهيلها بالمعرفة الرقمية والمهارات التقنية. التحدي يكمن في القدرة على ترجمة هذه الطاقات إلى إبداع ومبادرات مبتكرة، لا أن تُترك لتكون مجرد مستخدم سلبي لتطبيقات أجنبية. التهديد الأكبر يتمثل في استمرار الفجوة الرقمية، بما يجعل البيانات العربية مخزّنة ومُدارة في خوادم تقع خارج المنطقة، الأمر الذي يحرمها من السيادة على ثروتها الرقمية. لذلك فإن الحاجة ملحّة لبناء “سيادة بيانات عربية” من خلال إقامة مراكز بيانات إقليمية مرتبطة بالطاقة المتجددة، وسن تشريعات لحماية الخصوصية تعكس القيم والمصالح المحلية، وتحفيز الشركات الناشئة في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، فضلًا عن إنشاء تحالفات إقليمية في مجال اقتصاد البيانات قادرة على منافسة الاحتكارات العالمية. إن الثورة البياناتية الضخمة ليست مجرد تحول تقني عابر، بل هي إعادة صياغة عميقة لمفاهيم السيادة والسلطة والثروة في القرن الحادي والعشرين. من يملك البيانات يملك القدرة على تشكيل المستقبل، ومن لا يملكها يبقى تابعًا في النظام العالمي الجديد. المنطقة العربية تقف اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تبقى مجرد مستهلك هامشي في اقتصاد البيانات، أو أن تتحول إلى فاعل أساسي إذا ما استثمرت بجرأة في بنيتها الرقمية وربطت بين البيانات والتعليم والابتكار والسيادة التقنية. إنها لحظة تاريخية لا تقل أهمية عن اكتشاف النفط في القرن الماضي، لكنها هذه المرة فرصة تقوم على مورد غير ناضب، يتجدد ويتوسع كل يوم، ويمنح من يملكه قدرة على إعادة تعريف القوة والثروة والمعرفة معًا. المستقبل العربي قد يُكتب بأحرف من بيانات، لكن ذلك مشروط بقدرة المنطقة على إدارة هذه الثروة الرقمية بعقلانية ورؤية إستراتيجية، حتى لا تتحول إلى مجرد فائض رقمي يُستهلك بلا أثر أو معنى.
141
| 06 أكتوبر 2025
العقل البشري أصبح جبهة الحرب الجديدة. لم تعد الهندسة الاجتماعية مجرّد حيلة نفسية بدائية كما عرفناها في الماضي، بل تحوّلت – بفضل الذكاء الاصطناعي – إلى ساحة هجومية ديناميكية قادرة على استهداف الوعي نفسه وإعادة تشكيل القرارات والخيارات دون أن يشعر الإنسان. نحن اليوم أمام جيل جديد من الحروب الرقمية، حروب إدراكية (Cognitive Warfare) تتجاوز حدود القرصنة التقنية لتخوض معركة مباشرة على الإدراك الجماعي والفردي. هذا التحول النوعي يفتح الباب أمام تهديدات تتجاوز الاحتيال المالي إلى التأثير على الرأي العام، التلاعب بالانتخابات، وإثارة الأزمات الاجتماعية والسياسية. بكلمات أخرى، لم يعد أمن المعلومات قضية تقنية بحتة، بل أصبح قضية أمن وطني ومجتمعي، تتطلب استراتيجيات دفاعية متكاملة تدمج التكنولوجيا بالتربية الرقمية والتوعية النفسية. لقد أضاف الذكاء الاصطناعي بعداً منهجياً للهندسة الاجتماعية عبر جميع مراحل دورة الهجوم السيبراني. ففي مرحلة الاستطلاع تقوم الخوارزميات بتمشيط هائل لمنصات التواصل الاجتماعي، المنتديات، وقواعد البيانات العامة لاستنتاج أنماط السلوك الرقمي والاهتمامات الشخصية وحتى المزاج العام للفرد أو المؤسسة. وفي مرحلة الاستهداف تُولِّد النماذج اللغوية محتوى شخصياً متقن الصياغة – رسائل بريد إلكتروني، محادثات دردشة، أو حتى مكالمات هاتفية مزيفة – بحيث تحاكي نبرة الضحية ولغتها المعتادة، ما يقلل احتمالية الشك. أما مرحلة التنفيذ فتشهد إرسال آلاف الرسائل، أو إجراء مئات المكالمات الصوتية بتقنية التزييف العميق في وقت قصير، مع قدرة على تعديل التكتيكات فوراً وفق استجابة الضحايا، وكأننا أمام حملة تسويقية خبيثة تعمل بتغذية راجعة مستمرة. وحتى بعد التنفيذ تحتفظ الأنظمة الذكية بسجلات تفصيلية لتحليل النتائج وتحسين الحملات اللاحقة، مما يجعلها مختبرات تعلم مستمر تديرها الخوارزميات ذاتياً. الخطر الأكبر يكمن في البعد النفسي لهذه الهجمات؛ إذ يمكن للذكاء الاصطناعي استنباط الحالة العاطفية للضحية في لحظة معينة، ثم توليد رسائل تستثير الخوف أو الإلحاح أو الفضول بدقة شديدة، فتقل مساحة التفكير العقلاني وتتضاعف احتمالية الاستجابة للهجوم. ومع صعود تقنيات التزييف العميق أصبح من الممكن إنتاج مقاطع صوتية ومرئية تحاكي شخصيات حقيقية – قادة سياسيين، مديري شركات، أو حتى أفراد عائلة الضحية – ما يجعل الخداع أكثر إقناعاً ويعقّد مهمة التحقق حتى على فرق الأمن المدربة. المعركة هنا لم تعد مواجهة تقنية بين جدار ناري وفيروس، بل تحوّلت إلى صراع على الإدراك والوعي، حيث يصبح الإنسان ذاته هدفاً وأداة للهجوم في الوقت نفسه. ولا تتوقف تداعيات هذه الهجمات عند الأفراد، بل تمتد إلى البنى التحتية الحيوية التي تعتمد على العنصر البشري كحلقة وصل أساسية. خطأ بسيط من موظف غير مدرّب – كالنقر على رابط مشبوه – قد يؤدي إلى تعطيل أنظمة الطاقة أو شل حركة النقل أو تسريب بيانات طبية حساسة، وهو ما ينعكس مباشرة على الاقتصاد والأمن القومي. لهذا باتت الحوكمة الأمنية مسؤولية استراتيجية شاملة، تبدأ بوضع سياسات واضحة ومحدثة، وتمتد إلى بناء ثقافة أمنية مؤسسية وتوفير برامج تدريب ومحاكاة منتظمة، بل وتبني أنظمة تحليل سلوكي قادرة على كشف أي نشاط شاذ قبل تحوّله إلى خرق واسع النطاق. لم تعد الدفاعات التقليدية كافية في هذا السياق، إذ أصبح تبنّي نموذج «الثقة الصفرية» ضرورة استراتيجية لا يمكن تأجيلها. يقوم هذا النموذج على مبدأ أن كل محاولة وصول تمثل تهديداً محتملاً حتى يثبت العكس، ويعتمد على التحقق المستمر من الهوية والسياق، تقييد الصلاحيات إلى الحد الأدنى الممكن، ومراقبة السلوك حتى بعد منح الوصول. إلى جانب ذلك، بات الاعتماد على الذكاء الاصطناعي الدفاعي أمراً حتمياً لتحليل الأنماط، رصد الشذوذ، والتنبؤ بالهجمات قبل وقوعها. إن تصاعد هذه الهجمات لا يمثل مجرد ظاهرة تقنية عابرة، بل يشير إلى بداية سباق تسلّح إدراكي عالمي، حيث تتسابق الدول والشركات على تطوير أدوات التأثير في العقول بقدر ما تطوّر أسلحة تقليدية أو نووية. وإذا لم يتم الاستثمار سريعاً في بناء قدرات دفاعية شاملة تشمل التكنولوجيا، التشريعات، والتربية الرقمية، فقد نجد أنفسنا بحلول عام 2030 أمام بيئة تتآكل فيها الثقة الاجتماعية، وتصبح الحقيقة سلعة نادرة، ويغدو التمييز بين الواقع والوهم معركة يومية يخوضها كل فرد. هذه ليست قضية خبراء الأمن السيبراني وحدهم، بل معركة بقاء مجتمعية وحضارية، تتطلب وعياً جماعياً واستجابة استراتيجية قبل أن نفقد السيطرة على جبهة الحرب الأهم: جبهة العقول.
207
| 22 سبتمبر 2025
لم يعد النقاش حول الذكاء الاصطناعي محصورًا في قدرته التقنية أو تطبيقاته الاقتصادية، بل امتد ليشمل موقعه في بنية النظام الدولي ذاته. ففي اللحظة التي تُصاغ فيها إستراتيجيات الأمن القومي وتُبنى التحالفات العسكرية وتُدار الحملات الانتخابية، يبرز الذكاء الاصطناعي بوصفه قوة خفية تعيد رسم معادلات النفوذ والهيمنة. لقد تحوّل من مجرد أداة مساعدة إلى عنصر يفرض نفسه في صميم صناعة القرار، ويجبر الباحثين وصناع السياسات على التعامل معه باعتباره أكثر من «وسيلة»، وربما كفاعل ناشئ له منطقه الخاص في العلاقات الدولية. هذه النقلة تطرح سؤالًا إشكاليًا: هل ما زالت الفواعل في النظام الدولي حكرًا على الدول والمنظمات، أم أن الخوارزميات والأنظمة الذكية بدأت تكتسب ملامح الفاعلية السياسية؟ النظريات التقليدية في العلاقات الدولية، وعلى رأسها الواقعية والليبرالية، انطلقت من مسلّمة أن الفاعل هو الدولة ذات السيادة أو التنظيمات المؤسسية العابرة للحدود. لكن التحولات الرقمية المتسارعة كشفت عن قصور هذا التصور ، إذ ظهرت أنظمة غير بشرية تمتلك القدرة على اتخاذ قرارات معقدة في الزمن الحقيقي، بل على التأثير في سلوك جماعي واسع النطاق. هنا، وفرت المقاربات ما بعد البنائية ونظرية الشبكات الفاعلة (Actor-Network Theory) أفقًا جديدًا، حيث لم يعد الفعل السياسي حكرًا على الكيانات البشرية، بل يمكن أن تشارك فيه كيانات تقنية ورقمية، بما فيها الذكاء الاصطناعي، الذي بات يشكل عقدة مركزية في شبكات السلطة العالمية.تقرير مؤسسة RAND، إلى جانب دراسات مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS)، أظهر بوضوح أن الذكاء الاصطناعي أصبح عنصرًا لا غنى عنه في التنبؤ العسكري ورسم السيناريوهات الدفاعية. فعلى سبيل المثال، باتت الجيوش تعتمد عليه في تشغيل الطائرات المسيّرة وأنظمة الدفاع الجوي المستقلة، وفي مراقبة الفضاء السيبراني بحثًا عن التهديدات العابرة للحدود. مثل هذه التطبيقات لا يمكن اعتبارها مجرد تحسينات تقنية، بل هي انتقال نوعي جعل الخوارزميات جزءًا من معادلات الردع والتوازن الإستراتيجي، بحيث أصبح «الذكاء الاصطناعي» نفسه يدخل ضمن حسابات السيادة الوطنية والهيمنة الدولية.يمكن تمييز ثلاث سمات رئيسية تمنح الذكاء الاصطناعي درجة من الفاعلية. أولها قدرته على التنبؤ والتأثير، عبر تحليل كمّيات هائلة من البيانات الاقتصادية والسياسية والأمنية بسرعة تتجاوز القدرات البشرية. ثانيها استقلاليته النسبية، حيث تتمكّن بعض الأنظمة المعتمدة على التعلّم العميق من اتخاذ قرارات تكتيكية دون تدخل مباشر من الإنسان، وهو ما يفتح الباب أمام تصرفات غير متوقعة تتجاوز سيطرة الجهة المشغّلة أحيانًا. أما السمة الثالثة فتتمثل في تأثيره في السلوك الجماعي، إذ باتت خوارزميات الإعلام الرقمي تشكل آراء الجماهير وتؤثر في الحملات الانتخابية والاحتجاجات، وتعيد صياغة فضاء الرأي العام بما ينعكس على القرارات السياسية على مستوى الدول.مع ذلك، لا يعني هذا أن الذكاء الاصطناعي قد أصبح فاعلًا مكتمل الأركان. فثمة حدود واضحة لفاعليته ينبغي التوقف عندها. فهو لا يزال يعتمد على البنية التحتية البشرية في تصميمه وصيانته وتمويله. كما أنه يفتقر إلى الإرادة الذاتية أو المصلحة المستقلة؛ فهو لا يملك مشروعًا سياسيًا أو إستراتيجيًا خاصًا به خارج إرادة مستخدميه، مهما بلغت درجة تعقيده. أضف إلى ذلك أن الإطار القانوني والسياسي العالمي لا يزال يتعامل معه كأداة، وليس ككيان يمكن أن يُسند إليه مسؤولية قانونية أو سياسية، وهو ما يجعل الحديث عن «فاعلية مطلقة» أمرًا سابقًا لأوانه.لكن، ورغم هذه الحدود، فإن إدماج الذكاء الاصطناعي في بنية العلاقات الدولية يحمل تداعيات بعيدة المدى على المفاهيم الكلاسيكية للسيادة والردع والشرعية. فالسيادة لم تعد مقتصرة على السيطرة على الأرض والموارد، بل أصبح امتلاك الخوارزميات وتطويرها جزءًا من معايير القوة الوطنية. والردع لم يعد يقتصر على الأسلحة النووية أو التقليدية، بل دخلت في معادلته سباقات التسلح في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث يشبه المشهد الراهن إلى حد كبير بدايات القرن العشرين مع سباق التسلح النووي. أما الشرعية، فهي تواجه مأزقًا جديدًا: فإذا اعتمدت الحكومات أو المنظمات الدولية على أنظمة ذكاء اصطناعي لاتخاذ قرارات مصيرية، مثل شن هجوم استباقي أو فرض عقوبات اقتصادية، فمن سيكون المسؤول إذا اتضح لاحقًا أن القرار كان خاطئًا أو كارثيًا؟ الدولة التي استخدمت الخوارزمية أم النظام نفسه؟ هذا السؤال يفتح الباب أمام تحديات قانونية وأخلاقية غير مسبوقة.
315
| 07 سبتمبر 2025
التاريخ لا يروي لنا حكايات الماضي فحسب، بل يقدم لنا مرايا عاكسة نرى فيها ملامح المستقبل. لقد شهدت البشرية تحولات جذرية أعادت تشكيل مسارها، لكن كل تحول منها حمل طابعاً مختلفاً. فالثورة الصناعية التي انطلقت شرارتها في القرن الثامن عشر، غيّرت بشكل جذري علاقة الإنسان بالآلة، وحوّلته من كائن يعتمد على قوته الجسدية إلى سيد للطاقة الميكانيكية. لقد زادت هذه الثورة من قوته العضلية آلاف المرات، ومكنته من تشييد الصروح العملاقة وقطع المسافات الشاسعة، لكنها مع هذا كله لم تمس جوهر عقله أو تنازعه سيادته على عملية التفكير والإبداع. ومع بزوغ فجر الثورة الرقمية، جاء اختراع الحاسوب ثم الإنترنت ليشكلا نقلة نوعية أخرى. هذان الاختراعان غيَّرَا مفهوم الزمان والمكان بشكل لم يسبق له مثيل، واختصرا المسافات، وسهّلا تدفق المعلومات بشكل غير مسبوق. لكنهما مع ذلك لم يسلبا الإنسان دوره الأساسي كفاعل معرفي وصانع للمعنى. لقد بقيت الآلة أداة طيعة في يد العقل البشري، تخضع لسيطرته وتنفذ أوامره. أما الذكاء الاصطناعي، فإنه يمثل تحولاً مختلفاً جذرياً. فخطورته لا تكمن في كونه مجرد أداة مساعدة، بل في كونه يتجه ليحل محل العقل نفسه. بكلمات أخرى: إذا كانت الآلات السابقة قد ساعدت الإنسان على العمل أسرع وأقوى، فإن الآلات الذكية تسعى لأن تفكر بدلاً منه، بل وربما بطريقة لا يستطيع هو فهمها أو توقعها. هذه النقلة النوعية هي ما يجعل «الانفجار الذكي» مختلفاً عن كل ما سبقه من تحولات؛ فهو لا يغير الوسائل فحسب، بل يعيد صياغة الفاعل ذاته، ويطرح أسئلة وجودية حول مكانة الإنسان في عالم تتفوق فيه الآلات على خالقها في مجالات متزايدة. لطالما كان الأدب والسينما مختبراً مبكراً لتجسيد هذه المخاوف الوجودية. من فيلم «2001: A Space Odyssey» الذي صور صراع الإنسان مع الحاسوب HAL 9000 المتعطش للسلطة، إلى فيلم «Ex Machina» الذي استكشف تجربة وعي الآلة وحدود السيطرة البشرية، وصولًا إلى فيلم «Her» الذي صور انحلال الحدود بين الإنسان والنظام الذكي في علاقة عاطفية معقدة. هذه الأعمال التي كانت تبدو ضرباً من الخيال العلمي قبل عقود، أصبحت اليوم قريبة من الواقع بدرجة مقلقة. الفارق الوحيد أننا لم نعد نناقشها كقصص فنية تهدف إلى التسلية، بل كاحتمالات عملية تطرحها تقارير بحثية جادة وسياسات حكومية وخطط إستراتيجية للشركات التقنية الكبرى. وهكذا، يتحول الخيال العلمي من نافذة للتسلية إلى مرآة عاكسة لأسئلة المستقبل المصيرية التي تواجه البشرية. في مواجهة هذا المشهد المتشابك والمعقد، تتزايد الدعوات إلى وضع أطر حوكمة عالمية للذكاء الاصطناعي. فقد خطا الاتحاد الأوروبي خطوة مبكرة عبر قانون الذكاء الاصطناعي، الذي يعد أول إطار قانوني شامل يهدف إلى تنظيم هذه التكنولوجيا، واضعًا معايير واضحة تميز بين التطبيقات «عالية المخاطر» وتلك الأقل خطورة. وعلى الصعيد العالمي، بدأت الأمم المتحدة مناقشات جادة حول إمكانية صياغة «معاهدة للذكاء الاصطناعي» شبيهة بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، على أساس أن المخاطر الناجمة عن الذكاء الاصطناعي لا تقتصر على دولة أو شركة واحدة بل تمس مصير الإنسانية جمعاء. ثمة مراكز أبحاث مستقلة مثل «معهد مستقبل الإنسانية» في أكسفورد و»معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» و»مؤسسة أبحاث الذكاء الاصطناعي» في كاليفورنيا، دعت منذ سنوات إلى ضرورة بناء أطر أخلاقية وقانونية ملزمة تسبق التطور التقني. الهدف من هذه الجهود ليس وقف التطور أو عجلة الابتكار، فهذا أمر مستحيل وغير مرغوب فيه، بل توجيه مسار هذا التطور بحيث يعظم الفوائد ويقلل المخاطر إلى أدنى حد ممكن. وفي غياب مثل هذه الحوكمة الفعالة، قد نجد أنفسنا في مواجهة مستقبل قاتم تتخذ فيه الآلات قرارات مصيرية تتعلق بحياة البشر ومصيرهم دون رقيب أو حسيب، في سيناريو يشبه تلك الأفلام التي كنا نشاهدها كمادة للترفيه لنكتشف أنها أصبحت واقعاً نعيشه.
210
| 26 أغسطس 2025
يشهد العالم في الأعوام الأخيرة نقاشًا متسارعًا حول مستقبل الذكاء الاصطناعي، حيث لم يعد الأمر مقتصرًا على قدرات هذه النماذج في الترجمة أو توليد النصوص أو تحليل البيانات، بل تجاوز ذلك إلى سؤال محوري: هل يمكن أن تصبح هذه الأنظمة قادرة على تطوير نفسها بنفسها، وبوتيرة تفوق قدرة البشر على المتابعة؟ هذا السؤال اكتسب زخمًا خاصًا بعد صدور تقرير مثير للجدل عُرف باسم AI 2027، والذي حظي بتغطية واسعة في وسائل الإعلام العالمية مثل The New Yorker وVox وThe Week. التقرير قدّم سيناريو تفصيليًا يتوقع أنه بحلول عام 2027 ستتمكن أنظمة الذكاء الاصطناعي من أداء دور أشبه بـ “مهندس أبحاث ذكاء اصطناعي”، أي أنها ستشارك بفاعلية في تطوير نماذج جديدة وتحسين بنيتها الداخلية وابتكار خوارزميات أكثر تطورًا. وبذلك، تدخل هذه الأنظمة في حلقة تسريع ذاتي، بحيث يصبح كل جيل من النماذج قادرًا على تطوير جيل أكثر قوة، وهو ما يُعرف بمفهوم الانفجار الذكي (Intelligence Explosion). لكن هل هذه التوقعات واقعية؟ أم أنها مجرد إنذار مبكر صيغ بطريقة مثيرة للانتباه؟ في مقالة نشرتها مجلة The New Yorker تحت عنوان “Two Paths for A.I.”، جرى عرض هذا السيناريو كواحد من مسارين متناقضين: الأول يقود إلى تسارع غير مسبوق قد يفضي إلى ظهور ذكاء فائق يتجاوز الإنسان في معظم المجالات، والثاني أكثر حذرًا ويعتمد على قيود تنظيمية ومحدودية الموارد التي قد تُبطئ وتيرة التطور. وفي مقالة أخرى في Vox، جرى توصيف هذه التوقعات بأنها “محملة بالجدلية”، لكنها في الوقت نفسه تمثل دعوة للنقاش العام وصياغة استراتيجيات استباقية للتعامل مع التحولات المحتملة. أما مجلة The Week فقد ذهبت إلى حد التساؤل عما إذا كان عام 2027 قد يشهد بالفعل “نهاية العالم عبر الذكاء الاصطناعي”، لكنها أشارت إلى أن غالبية الخبراء يعتبرون هذا التوقيت قريبًا جدًا من الواقع. ورغم المبالغات المحتملة، إلا أن ما يمنح هذه التوقعات بعض المصداقية هو الأدلة الأولية التي بدأت تظهر في الأبحاث الأكاديمية. ففي دراسات نُشرت على موقع ArXiv عامي 2024 و2025، تبيّن أن بعض النماذج قادرة على تكرار نفسها، بل وأظهرت سلوكًا أقرب إلى “التفلت” من الأوامر، الأمر الذي يشير إلى بدايات ما يمكن أن نسميه بالقدرة على التطوير شبه المستقل. هذه النتائج وإن كانت محدودة، فإنها تكفي لتغذية المخاوف من أن يصبح التسريع الذاتي واقعًا في المستقبل القريب. لكن من جهة أخرى، لا يزال الطريق طويلًا قبل أن نصل إلى ذكاء عام فائق مستقل بالكامل عن البشر. فحتى أكثر النماذج تقدمًا اليوم تعتمد على بنية تحتية بشرية معقدة: ملايين المعالجات المتقدمة، شبكات الطاقة، مجموعات بيانات هائلة، ومهندسين يشرفون على كل خطوة. أي أن ما نملكه الآن أقرب إلى أنظمة قوية لكن محكومة، لا إلى كائنات مستقلة بذاتها. وحتى لو تمكنت هذه الأنظمة من تحسين بنيتها الداخلية، فإنها ستظل بحاجة إلى سلسلة طويلة من المدخلات البشرية والموارد المادية التي لا يمكن الاستغناء عنها بسهولة. في تقديري الشخصي، لا أستبعد أن نشهد بحلول عام 2027 نماذج قادرة على تسريع تطويرها بطرق شبه مستقلة، كأن تقوم بكتابة شيفرات جديدة أو إعادة تصميم بنيتها الداخلية بشكل يخفف من اعتمادها على المبرمج البشري. هذا التطور سيكون بحد ذاته كفيلًا بإحداث تحول عميق في مجالات متعددة، من البحث العلمي إلى الصناعة إلى السياسات الدولية. ومع ذلك، فإن الوصول إلى ذكاء عام فائق مستقل عن البشر تمامًا لا يزال يحتاج إلى وقفة نقدية. فالحديث عن أن 2027 يمثل نقطة التحول الكبرى قد يكون مبالغًا فيه، لكنه يلفت النظر إلى حقيقة أكثر أهمية: وتيرة التطور تتسارع على نحو متزايد، وإذا لم يتم وضع ضوابط واضحة فقد نجد أنفسنا أمام وضع يصعب التحكم فيه، إن جوهر النقاش إذن ليس في السؤال عمّا إذا كان عام 2027 سيكون لحظة الانفجار الذكي، بل في إدراك أن التسارع قائم بالفعل، وأنه كلما تقدمت هذه النماذج خطوة نحو الاستقلالية، ازدادت صعوبة السيطرة على اتجاهها. ولذلك فإن الحاجة باتت ملحة إلى حوكمة صارمة للذكاء الاصطناعي، تشمل أطرًا تنظيمية دولية وقواعد واضحة للسلامة التقنية والشفافية. فغياب هذه الضوابط قد يعني أن ما يُطرح الآن كسيناريو محتمل قد يتحول إلى واقع غير مرغوب فيه. ما يجب أن نفهمه أن الخطر ليس في السنة المحددة، بل في الدينامية التي تحكم التطور. فالأنظمة التي نستخدمها اليوم في الترجمة أو توليد النصوص أو التحليل قد تتحول غدًا إلى أنظمة قادرة على إعادة برمجة ذاتها، وبعد غد ربما إلى أدوات تتخذ قرارات استراتيجية دون إشراف بشري مباشر. عند تلك النقطة لن يكون السؤال عن “متى” فحسب، بل عن “كيف” يمكن للبشرية أن تحافظ على موقعها كعنصر فاعل ومسيطر على ما صنعته. لا ينبغي تفسير الجدل المحتدم في وسائل الإعلام العالمية- من تحليلات مجلة «ذا نيويوركر» المتعمقة إلى تقارير «فوكس» التفسيرية وخلاصات «ذا ويك»- بمفرده، ولا حتى قراءة الأدلة البحثية الأولية المنشورة على منصة (arXiv)، على أنه مجرد نقاش أكاديمي نخبوي. في جوهره، يمثل هذا الضجيج الفكري والإعلامي مؤشرًا بالغ الأهمية على حقيقة مفادها أن وتيرة التحولات التقنية المقبلة قد تفوق كل تقديراتنا وتتخطى حدود توقعاتنا الأكثر جرأة. وبالتالي، حتى لو لم يثبت أن عام 2027 هو الموعد الحتمي والفعلي لظهور «الذكاء الفائق الخارق» (Artificial Superintelligence)، فإنه يظل «جرس الإنذار» المدوّي الذي يهزنا من سباتنا الجماعي. إنه يذكرنا، بقوة وبشكل لا لبس فيه، بأن ذلك المستقبل الذي طالما تعاملنا معه كخيال علمي بعيد المنال، قد بدأ بالفعل يطرق بابنا، متقدمًا نحونا بسرعة مذهلة لم تشهدها البشرية من قبل في أي منعطف تاريخي آخر.
372
| 21 أغسطس 2025
يشير عالم الاجتماع زيجمونت باومان إلى أن الحداثة السائلة حوّلت الهوية من «مُعطى ثابت» إلى «مهمة مستمرة»، لكن الرقمنة دفعت بهذه الفكرة إلى حدودها القصوى، فالهوية لم تعد مهمة يُعاد بناؤها ببطء، بل أصبحت سلسلة من اللحظات المنفصلة، كلٌّ منها يتطلّب أداءً مُختلفًا. الفتاة التي تلتقط صورة «سيلفي» بعد عشر دقائق من البكاء، والمراهق الذي يكتب تغريدة ساخرة بينما يعاني من عزلة عميقة، هما نموذجان لانفصام جديد: انفصال التجربة الداخلية عن التمثيل الخارجي، حيث يصبح الأداء الرقمي غايةً بذاته، لا تعبيرًا عن حالة وجدانية. في هذا السياق، تُظهر أبحاث علم الأعصاب أن الاستخدام المكثف للتطبيقات متعددة المهام يُضعف الروابط العصبية المسؤولة عن تكوين الذاكرة الطويلة الأمد. بمعنى آخر، كلما زاد عدد «النسخ الرقمية» للذات، قلّت قدرة الدماغ على نسج سردية متماسكة عن الذات. هذه ليست مجرد أزمة هوية، بل أزمة وجودية، فبدون سردية داخلية، يفقد الإنسان إحساسه بالاستمرارية، ويصبح مجموعة من اللحظات المنفصلة التي لا يجمعها خيط روائي أو معنى شامل. العبودية الطوعية: اقتصاد الانكشاف والمراقبة الذاتية اللافت في هذا التحول أنه لا يُفرض من الخارج، بل ينبع من ديناميكية الرغبة. فالمستخدم لا يُجبر على المشاركة، بل يُحفَّز عليها عبر آليات الإعجاب والتعليقات التي تُشبع حاجة نفسية عميقة إلى الاعتراف الاجتماعي. لكن هذه الرغبة في «الوجود الرقمي» تتحول إلى فخ، فكلما زاد الانكشاف، زادت الحاجة إلى المزيد منه، في حلقة مفرغة تُذيب الحدود بين «الرغبة في الظهور» و»الضرورة الوجودية للظهور». كما يصفه الفيلسوف الكوري الجنوبي بيونغ-تشول هان، نحن أمام «مجتمع الشفافية» حيث المراقبة الذاتية تصبح أداةَ قمعٍ أكثر فاعلية من أيّ نظام بوليسي. هذه الديناميكية تُنتج نوعًا جديدًا من الاغتراب، فالإنسان يعيش تجربته من خلال عيون الآخرين، لا من خلال حسه الذاتي. الصورة التي يختارها للعرض، التغريدة التي يحرص على صياغتها، وحتى المشاعر التي يعبّر عنها، كلها تُفلتر عبر عدسة «القابلية للنشر». وهكذا، تتحول الذات إلى «علامة تجارية» تُصنع وفقًا لمعايير السوق الرمزي، لا وفقًا لعمق التجربة الإنسانية. من التشكُّل العضوي إلى التكوين الخوارزمي الأمر لا يتوقف عند جيل الألفية أو جيل Z، بل يصل ذروته مع جيل ألفا، الذي يتعرف على العالم أولًا عبر الشاشات قبل أن يلمس العشب أو يشعر بدفء حضن الأم. هؤلاء الأطفال يتعلمون أن «الأنا» شيء يُصنع عبر الإيماءات والفلترات، لا عبر التفاعل العضوي مع العالم. الدراسات تشير إلى أن تعرُّض الأطفال المكثف للشاشات يُغيّر بنية الدماغ، ويُضعف القدرة على التعاطف والتأمل. لكن الخطر الأعمق هو أنهم قد ينشؤون دون أن يختبروا أبدًا تلك اللحظات القديمة التي كانت تُشكّل الهوية: لحظات الملل الطويلة، الأحاديث الهادئة مع الذات، أو الاكتشاف البطيء للعالم دون وساطة رقمية. إنّ الخروج من مأزق التفتت الرقمي لا يكمن في الانكفاء عن التكنولوجيا أو رفضها، بل في إعادة تعريف العلاقة معها، على نحو يعيد للذات تماسكها وللوجود عمقه. فبدلاً من الذوبان في منطق «الأداء» والتمثيل الدائم للذات، نحتاج إلى التمهّل والتمييز بين التعبير الأصيل وبين العرض المُفبرك. إلى استعادة الزمن البطيء كمساحة لصياغة المعنى، بعيدًا عن منطق النشر الفوري والتفاعل اللحظي. نحتاج كذلك إلى تربية رقمية نقدية تُمكّن الأجيال الجديدة من التعامل مع الخوارزميات كأدوات، لا كإطار وجودي يُعيد تشكيلهم دون وعي. الفيلسوف مارتن هايدغر يعبّر هنا بعمق، عندما يقول «الخطر لا يكمن في التكنولوجيا ذاتها، بل في افتراضنا أنها محايدة». فالذات الموزعة ليست مصيرًا لا فكاك منه، بل نتيجة لاختيارات ثقافية واقتصادية يمكن نقدها وإعادة تشكيلها. والسؤال الأهم لم يعد: كم نسخة رقمية لي؟، بل: أين «أنا الحقيقية» بين كل هذه النسخ؟.
291
| 12 أغسطس 2025
لم تعد الهوية الإنسانية -في خضم الثورة الرقمية الجارفة- تمثل كتلة صلبة متجانسة، بل تحولت إلى كيان سائل متحول، يتشكل ويتبدل عبر تفاعلات لا تنقطع مع فضاءات رقمية متداخلة. لم يعد توسع المنصات الرقمية ينتج مجرد تمثيلات افتراضية للذات، بل أنشأ واقعاً موازياً تتوزع فيه الهوية إلى أشباح متعددة، تتنقل بين الواقع المادي والعالم الرقمي في حالة من التشظي والتجزؤ المستمر. هذا التكاثر الهوياتي، بعيداً عن كونه تعبيراً عن ثراء داخلي، يثير إشكاليات عميقة حول وحدة الوعي وتماسك الشخصية، في عصر أصبحت فيه الخوارزميات هي المتحكم الأول بجدول ظهورنا واختفائنا، وبالتالي بوجودنا الرمزي. تاريخيًا، كانت الهوية تُبنى من الداخل، بالتأمل، والتجربة، والتراكم الشخصي. أما في السياق الرقمي، فقد أصبحت الذات تُنتَج من الخارج، وفق منطق الصورة، والتفاعل، وعدد المتابعين. لم يعد الإنسان يعرف نفسه بوصفه كينونةً متفردة، بل بوصفه واجهة مرئية تُراقب وتُقيَّم. في هذا السياق، تنزاح مقولة ديكارت “أنا أفكر، إذن أنا موجود” لتحلّ محلّها سرديات جديدة: “أنا أظهر”، “أنا أُشاهَد”، «أنا أتفاعل». أبحاث متعددة تشير إلى أن عملية بناء الهوية الرقمية لا تُترك للفرد بصورة حرة، بل تُوجّه عبر بنى رقمية وخوارزميات تحدّد معايير النجاح والظهور. فالفرد يعيد تشكيل صورته بما يتلاءم مع شروط المنصة: جاذبية بصرية، قابلية للاختزال، كثافة في التفاعل. وبهذا المعنى، تصبح الهوية مشروعًا تسويقيًا يتطلب صيانة مستمرة، وإنتاجًا دائمًا للرمزية، خوفًا من السقوط في هوامش النسيان الرقمي أو التعليق أو الحذف. لا يمكن اليوم الحديث عن «ذات واحدة» في الفضاء السيبراني؛ بل نعيش حالة من الذات الموزعة، حيث يمتلك الفرد تمثيلات متباينة في كل منصة: شخصية مرئية على إنستغرام، أُخرى تفاعلية في بيئة الألعاب، نسخة مهنية على لينكد إن، وأخرى مختصرة في تيك توك. كل تمثيل من هذه النسخ يخضع لخطاب خاص، وجمهور مختلف، وقواعد أداء مستقلة. هذا التعدد، وإن بدا أحيانًا شكلًا من الحرية التعبيرية، إلا أنه قد يفضي إلى تشوش هويّاتي واضطراب نفسي، لا سيما في المراحل العمرية الحساسة مثل المراهقة. وقد أظهرت الباحثة شيري توركل ببحث لها أن المراهقين في البيئات الرقمية الكثيفة يعانون من صعوبة في التمييز بين «الذات الأصيلة» و»الذات المؤداة»، مما يؤدي إلى اضطرابات في تقدير الذات، وشعور متزايد بالاغتراب. وثمة دراسة حديثة أظهرت أن تعدّد الحسابات النشطة يرتبط بارتفاع معدلات القلق الاجتماعي، وزيادة التشتت الذهني، وضغط نفسي غير مرئي لإرضاء جماهير متعددة ومتقلبة، مما ينتج تمزقًا هوياتيًا يصعب على الفرد احتواؤه. السمة الأبرز للذات الرقمية في جيل Z وجيل ألفا ليست فقط في تعددها، بل في سطحيتها التمثيلية. فالذات لم تعد تتشكل من الداخل، بل صارت مُصمَّمة للخارج؛ تُبنى من خلال الصورة المُفلترة، والتعليق القصير، والمقطع السريع. هذا النمط من البناء الهوياتي ينتج ذاتًا “حاضرة دائمًا” في الفضاء الرقمي، لكنها حضور مشروط بمدى التفاعل، لا بعمق التجربة أو اتساق المعنى. إننا أمام لحظة مفصلية لا يُعاد فيها تشكيل الأدوات فحسب، بل إعادة صياغة الإنسان ذاته. الهوية لم تعد تُبنى داخل الأسرة والمدرسة والحيّ فقط، بل في التطبيقات والمنصات وتحت أعين جماهير افتراضية لا تنام. والمراهق اليوم لا يواجه فقط قلق “من أكون؟” بل قلق “أي نسخة منّي يجب أن أكون اليوم؟”. فجيل Z وجيل ألفا ليسا فقط امتدادًا زمنيًا للأجيال السابقة، بل يمثلان قطيعة بنيوية في بنية الذات والوعي والعلاقة مع الآخر. فجيل Z عاش الانتقال من الواقعي إلى الرقمي، بينما وُلد جيل ألفا داخل الشاشات وتفاعل أولًا مع الخوارزميات. وكلا الجيلين يعيشان تجربة إنسانية جديدة تُعيد تعريف الإدراك، والانفعال، والانتماء. إنّ التحدي الأكبر في عصرنا ليس تطوير التقنيات أو تحسين الأدوات، بل هو تحدٍ وجودي وأخلاقي عميق: كيف نحافظ على إنسانيتنا في عالم يختزل القيمة في الإنجاز والكفاءة؟ كيف نعيد بناء الذوات في زمن أصبحت فيه الهوية تُقاس بعدد المتابعين وحجم التفاعلات الرقمية؟ الأسئلة الحقيقية التي تواجهنا اليوم ليست تقنية، بل هي أسئلة عن المعنى والغاية: كيف نربّي أبناءً قادرين على أن يكونوا أنفسهم بصدق، لا مجرد حسابات نشطة تلهث وراء الرضا الآني؟ كيف نعلّمهم فنّ التأمل في عالم يرفض التوقف، وقيمة البطء في ثقافة تُقدّس السرعة، وأهمية العمق في زمن السطحية؟ المعضلة الحقيقية تكمن في أننا نواجه نظامًا يعيد تشكيل الوعي البشري وفق قواعد الأداء والاستهلاك. فلم يعد التعليم مجرد نقل للمعرفة، بل أصبح تدريبًا على المنافسة في سوق لا يعترف إلا بالأرقام. ولم تعد العلاقات الإنسانية تعكس العمق العاطفي، بل تحوّلت إلى سلسلة من التفاعلات المؤقتة. أمام هذا الواقع، يصبح السؤال الأخلاقي ملحًّا: كيف نصنع مساحات مقاومة لهذا التيار؟ كيف نخلق بيئات تسمح للأبناء بالنمو دون أن يفقدوا أنفسهم في زحام التوقعات؟ الجواب لا يكمن في رفض التكنولوجيا، بل في توظيفها لخدمة إنسانية أكثر اتساعًا، حيث يكون للوجود معنى يتجاوز الأداء، وللحياة قيمة لا تُقاس بعدد الإشعارات. هذا ورغم هذا التحدي الجذري، فإن مستقبل الإنسان الرقمي لا يُحسم بالخوارزميات، بل بـ الوعي النقدي. فالتحول الرقمي ليس قدرًا، بل مجال للتفكير، والمساءلة، وإعادة التمركز. ما نحتاجه اليوم ليس فقط تنظيم «وقت الشاشة» بل إعادة تصوّر علاقتنا بالوجود في زمن تذوب فيه الذات الأصيلة داخل صور متعددة.
279
| 04 أغسطس 2025
مع التقدم المتسارع في تقنيات الذكاء الاصطناعي، لم تعد الخوارزميات مجرد أدوات لتحسين الأداء أو تسهيل الحياة، بل أصبحت في بعض الحالات قراراتها تساوي الحياة أو الموت. في ميدان الحرب الحديث، ظهرت فئة جديدة من الأسلحة تُعرف بـ «الخوارزميات القاتلة»؛ أنظمة مؤتمتة قادرة على رصد الأهداف، وتقييم التهديد، واتخاذ القرار بالقتل دون تدخل بشري مباشر. هذا التحول التكنولوجي أثار مخاوف أخلاقية وإستراتيجية، وفتح الباب أمام نمط جديد من الصراع تديره الآلة بدم بارد ودقّة تفوق قدرة الإنسان. فقد كشفت سلسلة من الاغتيالات الدقيقة التي استهدفت شخصيات محورية داخل إيران في الثالث عشر من يونيو 2025، عن نقلة نوعية في أدوات الصراع. لم تكن هذه العمليات مجرّد عمل ميداني تقليدي أو حتى ضربة استخباراتية اعتيادية، بل كانت إعلانًا عن ولادة مرحلة جديدة من الحرب، حيث تتحول الخوارزميات إلى أدوات قتل، وتُدار المعركة من قبل أنظمة ذكاء اصطناعي تحلل وتقرّر وتنفّذ. في هذه الحرب غير المعلنة أو ما بت يطلق عليها «المظلمة»، لا تُرصد الجبهات بالعين المجردة، ولا تُسمع أصوات الانفجارات. كل ما يحدث هو اختفاء هدف، واضطراب استخباراتي داخلي، ورسالة ضمنية: القاتل لم يكن فردًا، بل منظومة رقمية تعرف كل شيء عنك. من جهتها إسرائيل، التي لطالما اتبعت منهج الردع التقليدي، باتت الآن تخوض حربًا خفية داخل البنية الرقمية والمعرفية للخصم. النخب، والعقول، والمهندسون، باتوا في مرمى هذه الخوارزميات التي تتقن التعرّف على الأنماط السلوكية، ورصد التحركات، والتنبؤ بالقرارات قبل وقوعها، ولعلّ ما جرى في أيلول الماضي، حين استهدفت تفجيرات أجهزة المناداة (البيجر) عناصر من حزب الله اللبناني، يُعدّ مثالًا صارخًا على هذا النمط من الهجمات المؤتمتة التي تديرها الخوارزميات عن بُعد وبلا هوادة. خلال الأسابيع الأخيرة، تعرّض عدد من القادة العسكريين والعلماء الإيرانيين لعمليات اغتيال شديدة الدقة. ما ميّز هذه العمليات لم يكن فقط توقيتها المحسوب أو قدرتها على تجاوز أنظمة الحماية، بل حقيقة أن تنفيذها لا يمكن نسبته بسهولة إلى فرقة ميدانية أو عميل بشري. بل كانت نتيجة لتكامل شبكات الذكاء الاصطناعي التي تقرأ تفاصيل الحياة اليومية للهدف - من خطواته الأولى، إلى حركات عينيه، إلى أنماط استخدام هاتفه - وتحولها إلى إشارات إنذار متقدمة. هذه الخوارزميات لا تقتل شخصًا فقط، بل تزعزع بيئة بأكملها، وتفكك شبكات السلطة، وتزرع الخوف في كل ما هو مألوف. تعتمد إسرائيل في هذه الحرب على تحالف غير مرئي بين وحداتها الاستخباراتية، وعلى رأسها الوحدة 8200، وبين عدد من شركات التكنولوجيا الخاصة التي تطور أدوات تحليل سلوكي متقدمة، وتقنيات تعلم آلي قادرة على التكيف اللحظي مع البيئة العملياتية. الأقمار الصناعية، والتعرف على الوجه، وتحليل الصوت، وربط البيانات المفتوحة مع البيانات الاستخبارية المغلقة، كلها أدوات تنصهر في شبكة قتل لا تعتمد على السلاح التقليدي، بل على معرفة العدو أكثر مما يعرف نفسه. في السنوات الماضية، استخدمت إسرائيل أدوات مشابهة في عمليات محدودة داخل لبنان ضد قادة من حزب الله، لكن الانتقال إلى قلب المؤسسة الإيرانية - سواء عبر استهداف قادة الحرس الثوري أو العلماء المتخصصين في الطيران السيبراني - يشير إلى تحوّل نوعي في العقيدة الأمنية الإسرائيلية. لم تعد تل أبيب تنتظر التهديد كي ترد، بل تسعى اليوم إلى ما يمكن تسميته بـ «الوقاية الخوارزمية»: إستراتيجية تعتمد على استباق التهديدات وتدميرها وهي لا تزال فكرة، أو مشروعًا في طور التكوين. هذا التصعيد لا يُفهم خارج السياق الإقليمي المتغير. تراجع دور الوساطة الأمريكية التقليدية منح إسرائيل حرية أكبر في المبادرة، كما أن تسارع إيران في بناء قدرات هجومية في الفضاء السيبراني شكّل دافعًا لإسرائيل لتبني نهج هجومي استباقي أكثر جرأة. إلى جانب ذلك، يبدو أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تسعى لتحويل هذه الأدوات إلى نموذج تصديري، تبيعه للعالم كسلاح جاهز للاستعمال في الحروب الحديثة، دون الحاجة إلى جيوش أو قواعد متقدمة. لكن هذه الطفرة التكنولوجية، رغم دقتها وفعاليتها، تطرح أسئلة ثقيلة في ميزان الأخلاق والقانون. ماذا لو أخطأت الخوارزمية التقدير؟ من يُحاسب على قتلٍ تم اتخاذ قراره ضمنياً داخل نظام لا يعرف الرحمة ولا يفهم السياق؟ ما هي حدود المسؤولية عندما تتحول الحرب إلى عملية حسابية باردة لا يمر عبرها الضمير؟ وهل يصبح للخصم الحق في تطوير خوارزمياته الخاصة، أم أن السباق سيكون نحو التمويه البشري والكمائن المعرفية في وجه العقل الصناعي؟ إيران، التي لطالما برعت في استخدام «الكمائن البشرية» ومهارات الميدان، قد تجد نفسها الآن أمام خيار صعب: إما اللحاق بركب الخوارزميات القاتلة، أو تطوير آليات مقاومة جديدة تعيد العنصر البشري إلى قلب المعركة. ربما ستكون المعركة القادمة معركة برمجيات ضد برمجيات، وبيانات ضد بيانات، في سباق نحو من يملك قدرة القتل الذكي الأسرع والأدق. في النهاية، نحن لا نعيش مجرد تطور في أدوات القتال، بل ثورة في مفاهيم الحرب ذاتها. لم يعد قرار القتل محصورًا في يد الجنرال، بل صار جزءًا من منظومة تستنتج وتقرّر وتضغط الزناد الرقمي. وفي هذا السياق، فإن من يتحكم بالخوارزمية، يتحكم بالمصير. الحروب المقبلة لن تُخاض فقط بالسلاح، بل بالمعرفة - والمعرفة باتت خوارزمية.
276
| 07 يوليو 2025
في العقود الأخيرة، أخذت الحروب شكلاً جديدًا تجاوز الميدان العسكري التقليدي إلى ساحات أكثر تعقيدًا وخفاءً. فقد أصبحت الجبهة السيبرانية إحدى أخطر جبهات الصراع بين الدول، في ظل اعتماد الأنظمة الحيوية على البنية الرقمية وترابطها العميق مع الفضاء الإلكتروني. لم تعد محطات الطاقة والمؤسسات المالية ومراكز الاتصالات أهدافًا هامشية، بل تحوّلت إلى نقاط اشتباك إستراتيجية يمكن استهدافها لتعطيل مدن، أو شلّ اقتصادات، أو إرباك حكومات بضغطة زر. وفي منطقة الشرق الأوسط، التي عرفت طويلًا الحروب التقليدية، نشهد اليوم تحولًا نوعيًا في أنماط المواجهة، تجلّى بوضوح في الحرب السيبرانية المتصاعدة بين إيران وإسرائيل، والتي تمثل نموذجًا متقدمًا لهذا الطور الجديد من الصراعات. منذ عام 2010، حين أصاب فيروس «ستاكسنت» – وهو أول سلاح سيبراني في العالم- منشأة «نطنز» النووية الإيرانية، بدأت ملامح هذه الحرب الصامتة في التبلور شيئًا فشيئًا. لم يكن الهجوم مجرد عملية اختراق عابرة، بل كان أول سلاح سيبراني يُحدث ضررًا ماديًا فعليًا في البنية التحتية لدولة ذات سيادة. وقد نُسب إلى تعاون استخباراتي بين إسرائيل والولايات المتحدة، واعتُبر إيذانًا بولادة عقيدة هجومية جديدة تُستخدم فيها التكنولوجيا لردع الخصم وإبطاء تطوره، دون إطلاق رصاصة واحدة أو إراقة نقطة دم. هكذا نشأت ما بات يُعرف بـ»العقيدة السيبرانية الإسرائيلية»، التي تمزج بين الضربات الوقائية والقدرات الاستخباراتية والعمل الميداني. ومع التصعيد العسكري في يونيو 2025، انتقل هذا الصراع إلى مرحلة غير مسبوقة، حيث نفذت إسرائيل ضربات جوية دقيقة داخل الأراضي الإيرانية، ترافقت مع هجمات سيبرانية عطّلت أنظمة الرادار والدفاع الجوي، مما سهّل اختراق الطائرات الحربية لأجواء إيران. هذا التداخل بين الهجمات المادية والرقمية عكس إستراتيجية إسرائيلية متقدمة، توظّف التكنولوجيا كذراع موازية للعمليات العسكرية التقليدية، وتستثمر التكامل بين الأمن السيبراني والمعلوماتي والعمليات الميدانية لإضعاف الخصم من الداخل. الرد الإيراني لم يتأخر، بل جاء مكثفًا ومتعدد الأبعاد. ففي غضون أيام، ارتفعت الأنشطة الخبيثة الموجهة ضد إسرائيل بنسبة فاقت 700 %، وفقًا لشركة «رادوير» للأمن السيبراني. الهجمات طالت بنوكًا ومؤسسات إعلامية ومنصات مالية واقتصادية رقمية، وأسفرت عن تسريب بيانات حساسة، وبث رسائل احتجاجية عبر قنوات رسمية، وسرقة ملايين الدولارات من أصول رقمية. هذا التصعيد أكد أن إيران بدورها باتت تمتلك ترسانة سيبرانية هجومية متقدمة، ترتكز على مجموعات قرصنة عالية التدريب تعرف باسم «مجموعات التهديد المستمر المتقدم» (APT)، أبرزها APT33 وAPT34 وAPT42، وهي فرق تابعة أو على صلة بالحرس الثوري الإيراني. لكن ما يميز الإستراتيجية الإيرانية في هذا المجال، إلى جانب القدرات التقنية، هو توظيف البعد السيبراني لأغراض نفسية وسياسية، من خلال حملات تضليل تستهدف زعزعة ثقة الإسرائيليين بحكومتهم، ونشر الذعر والتشويش في أوقات الأزمات. فقد تم رصد رسائل زائفة تفيد بنقص في الوقود، أو تحذيرات وهمية من هجمات وشيكة، مصممة لتبدو صادرة عن جهات رسمية. هذه الحملات، وإن بدت بسيطة، إلا أن آثارها النفسية والاجتماعية تتجاوز أحيانًا الخسائر المادية المباشرة. وتكشف متابعة تطور القدرات الإيرانية في المجال السيبراني عن مسار تصاعدي واضح. فبعد أن كانت الهجمات الإيرانية تقتصر على تشويش دعائي وهجمات بدائية على المواقع الإلكترونية، باتت اليوم تتسم بالدقة والسرية، باستخدام أدوات تحكم عن بُعد ووسائل تجسس متقدمة يصعب كشفها، مع استهداف ممنهج للقيادات السياسية والعسكرية والصحفيين والأكاديميين، داخل إسرائيل وخارجها. وقد كانت طهران قد أعلنت، قبيل التصعيد الأخير، امتلاكها لوثائق سرية تتعلق بالمنشآت النووية الإسرائيلية، مدعية أنها حصلت عليها إثر اختراق سيبراني استهدف مركز سوريك للأبحاث النووية. وقد عدّ خبراء الأمن في تل أبيب هذه الخطوة مؤشرًا على تطور مقلق في قدرات الفرق السيبرانية الإيرانية. ورغم التشابه الظاهري في الأهداف، إلا أن ثمة اختلافًا جوهريًا في العقيدة السيبرانية للطرفين. فإسرائيل تعتمد على وحدات رسمية تتبع الجيش أو الموساد، تُنفذ عمليات دقيقة ومحدودة، لكنها عالية التأثير وموجهة لأهداف إستراتيجية. أما إيران فتستند إلى نهج لا مركزي، يُتيح لها استخدام مجموعات مختلفة بعضها يرتبط مباشرة بالحرس الثوري، وبعضها الآخر يعمل بصورة غير رسمية، مما يمنح طهران هامشًا واسعًا للإنكار والمناورة، ويجعل تتبعها أكثر صعوبة. ويُضاف إلى هذا المشهد عنصر آخر يزيده تعقيدًا: تداخل مجموعات سيبرانية مؤيدة لإيران أو لفصائل المقاومة الفلسطينية أو من مناطق أخرى مثل روسيا وجنوب آسيا، تنشط تحت مسمى «منظومة مقاومة رقمية»، وتعمل بهويات متعددة يصعب حصرها أو تصنيفها بدقة. هذه البيئة «الضبابية» تجعل من الحرب السيبرانية ساحة مفتوحة بلا حدود جغرافية، ولا قواعد اشتباك واضحة. الحرب الصامتة الدائرة اليوم بين إيران وإسرائيل ليست مجرد منافسة رقمية، بل هي صراع شامل متعدد الأبعاد، يُعيد رسم خرائط الردع، ويكشف عن هشاشة البنى التحتية الحديثة أمام أدوات غير تقليدية. إنها حرب تُدار في الخفاء وتحت أجنحة الظلام، لكن نتائجها ملموسة: في الاقتصاد، وفي السياسة، وفي وعي الشعوب. ومع غياب أفق للحل أو التهدئة، فإن هذا الصراع المفتوح مرشح لأن يكون أحد أطول وأعقد المواجهات في الشرق الأوسط خلال العقود القادمة، خصوصًا إذا ما اتسعت رقعته، أو قررت أطراف أخرى دخول ساحة الحرب الرقمية.
492
| 01 يوليو 2025
شهدت الساحة السيبرانية في يونيو 2025 تصعيدًا حادًا بين إيران وإسرائيل، عكس تحولًا جديدًا في طبيعة الاشتباك غير المعلن بين الطرفين. فقد تعرضت هواتف إسرائيلية لاختراق واسع النطاق، فيما اختُرِق البث التلفزيوني الرسمي الإيراني، تلاه إنذار عاجل بإخلاء مقري قناتي 12 و14 الإسرائيليتين. وفي هجوم آخر، شلّت عملية سيبرانية بنك «سبه» الحكومي في طهران، أعلنت مجموعة تُدعى «العصفور المفترس» مسؤوليتها عنها، مؤكدةً «تدمير كافة بيانات البنك». لا يمكن قراءة هذه الحوادث بمعزل عن السياق الأوسع لصراع طويل الأمد يتجاوز الحدود الجغرافية ويُخاض عبر كودات وشبكات خفية. هذا الصراع، الذي يُعد نموذجًا أوليًا لحروب القرن الحادي والعشرين، يختزل في جوهره ما يمكن تسميته بـ»كود الردع». يشهد الصراع السيبراني بين إسرائيل وإيران تطورًا متسارعًا يعكس تحوّلًا عميقًا في شكل النزاعات الحديثة، حيث بات الفضاء السيبراني لا مجرد ساحة خلفية للمواجهة، بل ميدانًا رئيسيًا يؤثر في ميزان القوى ويعيد تعريف مفاهيم الردع والسيادة. لم يعد اختراق البنية التحتية أو تعطيل شبكة كهرباء أو تسريب بيانات مجرد حوادث منفصلة، بل تحوّلت إلى أدوات استراتيجية تُستخدم بوعي بالغ لإعادة تشكيل قواعد الاشتباك الإقليمي، من دون اللجوء إلى الحرب التقليدية. يعتمد النموذج الإيراني في هذا الصراع على بنية مرنة ومتشعبة، تستند إلى ما يمكن وصفه بـ”اللامركزية المنظمة”، حيث تتداخل الأذرع الرسمية مع الجهات غير الرسمية في شبكة عمل منسقة تُخفي آثارها ضمن الضجيج الرقمي العالمي. الفرق الحكومية، مثل APT34 وAPT39، تؤدي أدوارًا استخباراتية طويلة المدى، تستهدف البنية المعلوماتية للخصوم، وتعمل على بناء قواعد بيانات متقدمة حول الأهداف الاستراتيجية. في الوقت ذاته، تنشط مجموعات غير رسمية ذات طابع أيديولوجي أو قومي، مثل “حنظلة” و”الشبح العربي” و”عصا موسى”، في تنفيذ عمليات اختراق علنية تتسم بالجرأة والوضوح الإعلامي. هذه المجموعات لا تحرص على الإخفاء بقدر ما تسعى إلى إرسال رسائل مباشرة، سواء عبر تلغرام أو عبر تسريبات على مواقع مفتوحة، مما يضيف بُعدًا نفسيًا للهجمات، ويخلق حالة من القلق العام داخل الدولة المستهدفة. طبيعة هذه الجماعات تُتيح لإيران هامش مناورة كبيرًا؛ فهي تنفي رسميًا علاقتها بها، لكنها في الواقع تستفيد منها سياسياً وأمنيًا، وتوظفها في حروب رمادية يصعب تتبع مصدرها بدقة. هذا النمط من الهجمات يجعل من الصعب تحميل المسؤولية لأي جهة محددة، ويفتح المجال أمام ما يشبه “الاشتباك المستدام” دون عتبة صريحة للحرب. على الجانب الآخر، تتبنى إسرائيل نهجًا شديد المركزية والانضباط، يعتمد على بنى أمنية عالية التنظيم والتقنية، تتصدرها “الوحدة 8200”، المعروفة بكونها واحدة من أرفع وحدات الاستخبارات السيبرانية عالميًا. العمليات الإسرائيلية غالبًا ما تُنفَّذ في صمت، وتُصمم لتكون دقيقة وفعّالة، وتُدار وفق أهداف استراتيجية بعيدة المدى، ليس فقط لإحباط مخططات آنية، بل لتقويض القدرة المستقبلية للخصم على العمل. الهجمات المنسوبة إلى إسرائيل عادة ما تتسم بالطابع النوعي، مثل اختراق أنظمة التحكم الصناعية، أو تعطيل الشبكات النووية، أو ضرب مراكز اتصالات حرجة في عمق الأراضي الإيرانية. تبرز “دودة ستوكسنت” بوصفها العلامة الفارقة في هذا المسار؛ فهي لم تكن مجرّد هجوم سيبراني، بل سابقة نوعية غيّرت وجه الحروب الرقمية. القدرة على إلحاق ضرر مادي ببنية نووية من خلال كود رقمي وحده، دون أي تدخل ميداني، أعادت تعريف معنى السلاح، وكسرت المعادلة التقليدية التي تربط الأثر العسكري بالقوة النارية. لقد فتحت “ستوكسنت” الباب أمام عصر جديد، يمكن فيه لدولة أن تعطل مشروعًا استراتيجيًا معاديًا وهي لا تزال خارج دائرة الاتهام الرسمي، بل وقد تظل غير مرئية بالكامل. بعد تصاعد التوتر في مناسبات متتالية، خاصة بعد عملية “الأسد الصاعد”، أصبح الصراع السيبراني أكثر جرأة واستهدافًا للبنية الداخلية للدولة. محاولات تعطيل نظام “تسوفار”، المعني بإنذار السكان في حالات الطوارئ، وكذلك استهداف البنية الإعلامية وشركات الطاقة، تشير إلى تحول نوعي في تفكير الفاعلين السيبرانيين: لم يعد الهدف فقط تجميع المعلومات أو استنزاف موارد الخصم، بل التأثير في القدرة على إدارة الدولة ذاتها في لحظات الأزمات، بما يعني أن السيبرانية أصبحت أداة لـ”تعطيل الدولة” وليس فقط إرباكها. وعلى خط موازٍ، أصبحت الحرب السيبرانية أيضًا قناة لحرب نفسية مديدة. تقوم إيران، وفق نمط متكرر، باختراق قواعد بيانات وشركات إسرائيلية، ثم تسريبها مع تعليقات دعائية تهدف إلى زعزعة ثقة الجمهور بقيادته، وإظهار هشاشة منظومته الأمنية. تستخدم في ذلك أدوات متطورة: روبوتات اجتماعية، وحملات مدفوعة بالذكاء الاصطناعي، ونشر منظم للروايات المضللة. هدفها ليس فقط التأثير الآني، بل نحت صورة نفسية طويلة الأمد مفادها أن الخصم مخترَق وضعيف، حتى وإن لم تسقط عليه قذيفة واحدة. تشهد الساحة السيبرانية حالياً سباقاً محموماً نحو تطوير «أسلحة سيبرانية جيل رابع» تعتمد على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، مما يضيف طبقات جديدة من التعقيد لمعادلة الردع. كما برزت ظاهرة «الوكلاء السيبرانيين» كعنصر محوري في استراتيجية التصعيد المحدود، حيث تتيح للدول تنفيذ عمليات معقدة مع الحفاظ على قابلية الإنكار. الإشكال الأكبر الذي يُضفي على هذا الصراع بعدًا غير تقليدي، هو غياب أية قواعد دولية ناظمة. لا توجد اتفاقيات تحدد ما يشكّل “عدوانًا سيبرانيًا”، ولا آليات محاسبة فعالة، ولا خطوط حمراء مُعترف بها عالميًا. وهذا ما يجعل من الفضاء السيبراني منطقة شبه خارجة عن القانون، تُمارس فيها الدول ما تشاء، طالما لا تُمسك متلبسة. هذا الغموض القانوني يوفر غطاءً مثاليًا لكل من يريد أن يضرب خصمه دون أن يتحمل كلفة سياسية مباشرة، ويُغري بالمزيد من التصعيد التدريجي الذي يراكم التوتر دون أن يفضي بالضرورة إلى الحرب، لكنه في الوقت ذاته يقربها باستمرار. البعد السيبراني بات يضاف إلى عنصر مركزي في معادلة الردع، يكمّل القوة العسكرية، ويتجاوزها في بعض الحالات. فبينما تحتاج الصواريخ والطائرات إلى إذن سياسي وكلفة دبلوماسية، فإن الهجمات السيبرانية يمكن أن تُنفَّذ دون ضجيج، وتُحدث أثرًا بالغًا دون الحاجة إلى إعلان حالة حرب. وقد بات واضحًا أن كل طرف من الطرفين، إيران وإسرائيل، يعمل بوتيرة متسارعة على تعزيز ترسانته السيبرانية الهجومية والدفاعية، باعتبار أن الجولة القادمة من الصراع قد لا تُحسم في الجو أو البحر، بل في أعماق الكود، ومن خلال شبكات لا تُرى، لكنها تصوغ ملامح الأمن الإقليمي بعمق لا يقل عن أي معركة في الميدان. ختاماً، يشكل الصراع السيبراني بين إيران وإسرائيل نموذجاً أولياً لشكل جديد من أشكال التنافس الجيوسياسي، حيث تتحول الأصفار ولآحاد إلى عملة جديدة للقوة والنفوذ. هذا التحول لا يعيد تعريف أدوات الردع فحسب، بل يطرح إشكاليات عميقة حول طبيعة الأمن القومي في القرن الحادي والعشرين. ويعكس في الوقت ذاته نموذجاً جديداً للصراع يتسم باللامركزية والغموض وعدم التماثل، يجسد ما يمكن تسميته «كود الردع» في العلاقات الدولية المعاصرة.
411
| 22 يونيو 2025
يشهد عصرنا الحالي تحولاً جوهرياً في خريطة الابتكار العالمي، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي محوراً أساسياً للتنافس التكنولوجي بين الدول. وتُظهر إحصائيات المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) تفاوتاً صارخاً في هذا المجال، تتصدره الصين بلا منازع بينما يكاد يكون الحضور العربي شبه معدوم. فبين عامي 2014 و2023، نجحت الصين في حصد 38 ألف براءة اختراع في هذا الحقل المتقدم، متقدمةً على الولايات المتحدة بفارق هائل يعكس عمق الاستراتيجية الصينية وضخامة الاستثمارات الموجهة لهذا القطاع الحيوي. الهيمنة الصينية لم تكن وليدة الصدفة، بل ثمرة رؤية استباقية جعلت من الذكاء الاصطناعي أولوية وطنية، مدعومة بتمويل ضخم وتخطيط طويل الأمد. في المقابل، يكشف غياب أي دولة عربية عن قائمة الدول الرائدة عن أزمة هيكلية في منظومة الابتكار العربية، تتراوح بين ضعف الاستثمار في البحث العلمي وغياب الرؤية الاستراتيجية الموحدة لهذا القطاع الذي يُعد عصب الاقتصادات المستقبلية. في الجانب الآخر من المعادلة، نجد العالم العربي الذي يبدو غائباً تماماً عن هذا السباق المحموم. فبينما تشق دول مثل الهند وكوريا الجنوبية طريقهما بقوة في مجال الابتكار التكنولوجي، تتراجع الدول العربية إلى موقع المتلقي السلبي للتكنولوجيا. هذه الهوة الكبيرة ليست مجرد تأخر تقني عابر، بل تعكس أزمة هيكلية عميقة في منظومة البحث العلمي والابتكار في العالم العربي؛ فمعدلات الإنفاق على البحث والتطوير لا تتجاوز 0.3% من الناتج المحلي في أفضل الأحوال، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بما تنفقه الدول الرائدة. كما أن ظاهرة هجرة العقول العربية المتميزة إلى مراكز البحث العالمية تزيد من تعميق هذه الفجوة، حيث يفقد العالم العربي سنوياً عشرات الآلاف من الكفاءات العلمية التي كان يمكن أن تشكل نواة لنهضة تكنولوجية حقيقية. ينذر الوضع الحالي بمخاطر جسيمة تتجاوز الجانب التقني لتمس الأبعاد الاستراتيجية للأمن القومي العربي. ففي عالم أصبحت فيه البيانات هي النفط الجديد، والذكاء الاصطناعي هو أداة الهيمنة الجديدة، فإن الاعتماد الكامل على حلول وتقنيات أجنبية يعني في الواقع تفويض السيادة الرقمية للآخرين. وتظهر هذه الحقيقة جلياً في القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والخدمات المالية، حيث تعتمد معظم الدول العربية على أنظمة مستوردة، دون وجود قدرة محلية على تطوير بدائل وطنية أو حتى تعديل هذه الأنظمة بما يتناسب مع الخصوصيات المحلية. لكن رغم قتامة الصورة، فإن الفرص المتاحة للعالم العربي لا تزال قائمة. فالدول العربية تمتلك مقومات مهمة يمكن البناء عليها، بدءاً من الكفاءات البشرية التي أثبتت جدارتها عندما توفرت لها البيئة المناسبة، ومروراً بـ الموارد المالية الكافية التي يمكن توجيهها نحو الاستثمار في التقنية، ووصولاً إلى سوق عربية موحدة تشكل حافزاً جاذباً للاستثمارات التكنولوجية. في السنوات الأخيرة، بدأت بوادر تحول استراتيجي في التعامل مع تحديات الذكاء الاصطناعي تظهر في بعض الدول العربية، وخاصة الخليجية منها. فالمملكة العربية السعودية أطلقت استراتيجيتها الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي التي تهدف إلى بناء اقتصاد رقمي قائم على المعرفة، بينما تسعى الإمارات العربية المتحدة لأن تتحول إلى مركز عالمي رائد في هذا المجال بحلول 2031 من خلال استثمارات ضخمة في البنية التحتية الرقمية وتشجيع الابتكار. أما قطر فقد ركزت على تطوير قدرات بحثية متقدمة في الذكاء الاصطناعي من خلال مؤسسات مثل المؤسسة القطرية لدعم الابتكار والبحث العلمي ومركز قطر للابتكارات التكنولوجية وتقدم استراتيجية قطر للبحوث والتطوير والابتكار 2030 رؤية جريئة وطموحة تعمل على إحداث تغيير شامل في منظومة البحث والتطوير والابتكار وغيرها.. هذه المبادرات الطموحة تعكس إدراكاً متزايداً لأهمية الذكاء الاصطناعي في تشكيل المستقبل وصحيح أن هذه البدايات تمثل خطوة إيجابية في مسار التحول الرقمي العربي، إلا أنها تظل غير كافية لسد الفجوة التكنولوجية مع الدول الرائدة. فالتجارب الدولية الناجحة تثبت أن التقدم في مجال بهذه التعقيدات والاستثمارات الضخمة يتطلب تعاوناً إقليمياً وتكاملاً في الموارد والجهود. ولعل أهم ما يعيق هذه المساعي هو غياب الإطار المؤسسي العربي الفعال الذي يمكنه تحويل هذه الجهود الوطنية المبعثرة إلى مشروع تقني عربي مشترك. المطلوب اليوم هو نهج عربي متكامل يبدأ بإصلاح جذري لمنظومة التعليم والبحث العلمي، ويركز على بناء شراكات حقيقية بين القطاعين العام والخاص، مع العمل على استقطاب الكفاءات العربية المهاجرة وتوفير البيئة المحفزة لها. كما أن التعاون العربي المشترك في هذا المجال يمكن أن يشكل قوة دفع كبيرة، من خلال إنشاء مراكز بحثية عربية مشتركة، وتبادل الخبرات، وتوحيد الجهود، وبناء منصات مفتوحة المصدر تُعزز الاستقلالية الرقمية العربية. تُعلّمنا التجربة الصينية أن النجاح في مجال الذكاء الاصطناعي لا يتطلّب قرنًا كاملًا من التراكمات التكنولوجية، بل إرادة سياسية حقيقية واستثمارًا استراتيجيًا ذكيًا وموجّهًا. لقد استطاعت الصين، في فترة زمنية قصيرة نسبيًا، أن تنتقل من موقع المتلقّي للتكنولوجيا إلى موقع المنافس، بل والمبادر في مجالات حسّاسة كبراءات الاختراع المرتبطة بالذكاء الاصطناعي التوليدي (وهذا الأخير هو فرع من الذكاء الاصطناعي يُركّز على إنتاج محتوى جديد وابتكاري مثل النصوص أو الصور أو الأصوات، اعتمادًا على بيانات سابقة وأنماط تعلمها). إنّ هذه التجربة تطرح تساؤلات جوهرية أمام الدول النامية والعربية خصوصًا: هل يمكن تجاوز الفجوة الرقمية من خلال تبنّي سياسات وطنية جريئة؟ وهل يمكن استثمار الذكاء الاصطناعي لا فقط كأداة تقنية، بل كرافعة سيادية تُعزّز من الاستقلال العلمي والتكنولوجي؟ الواقع الصيني يُشير إلى أن الإجابة ممكنة، وأن التحوّل الرقمي ليس حكرًا على من بدأوا السباق أولاً، بل على من يُحسنون قراءته واتخاذ القرارات في لحظته المناسبة...فهل نحن فاعلون؟
309
| 18 يونيو 2025
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...
4785
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...
3441
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....
2865
| 16 أكتوبر 2025
في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...
2670
| 16 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...
2592
| 21 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...
1407
| 16 أكتوبر 2025
واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...
1386
| 21 أكتوبر 2025
لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...
1032
| 20 أكتوبر 2025
1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...
954
| 21 أكتوبر 2025
القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...
828
| 20 أكتوبر 2025
في قلب كل معلم مبدع، شعلة لا تهدأ،...
807
| 17 أكتوبر 2025
في ليلة كروية خالدة، صنع المنتخب القطري "العنابي"...
765
| 17 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية