رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. أحمد المحمدي

مساحة إعلانية

مقالات

198

د. أحمد المحمدي

ومن يخبر الثور إني عنتر

02 ديسمبر 2025 , 12:00ص

في التراث الشعبي قصة مفادها: أن ثورا هائجا اقتحم مضارب عبس، فهدم من الخيام ما هدم، وبدّد من السكينة ما بدّد، وترك في النفوس ما يتركه كلُّ خطرٍ يأتي بلا مقدّمات، وملأ المكان هلعًا واضطرابًا!

فزع الناس من فورهم وراحوا يفتّشون عن عنترة، ينتظرون منه أن يقف في وجه العاصفة كما اعتادوا أن يفعل! 

لكنّ الدهشة استبدّت بهم حين رأوه مختبئا في ناحية يتجنّب تلك الهجمة!

قالوا له في عتابٍ ظاهر:

تفرّ من الثور وأنت عنتر؟

فأجابهم بعبارة صارت مثلًا:

ومن يُخبر الثور إنّي عنتر؟

لم يكن جوابا من رجل هارب، بل من إنسان يعرف أنّ الشجاعة ليست أن نقتحم الخطر لأنّ الناس تتوقّع منّا ذلك! بل أن ندرك ما يصلح أن نواجهه وما لا معنى لمواجهته. 

فالثور لا يفهم الأسماء، ولا تردّه ذكريات المفاخر، ولا يهاب سيرة الفرسان؛ بل هو غضب أعمى لا ينفع معه صهيل البطولة.

هكذا انتهت الحكاية لكنها تركت بابًا مشرعا للتأمّل في معنى الشجاعة، وفي الحدود الدقيقة التي تفصلها عن التهوّر.

الشجاعة ليست اندفاعًا يسبق التفكير، ولا صوتًا يعلو حين يخفت صوت العقل؛ بل هي بصيرة قبل أن تكون قوة، وإدراك قبل أن تكون اندفاعًا.

ولذلك جاء الخطاب الإلهي موجها للإنسان أن يحفظ نفسه من حماسة تجرّه إلى مداخل الهلاك فقال:﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾.

أي كن سيد نفسك لا أسير رغبة في الانتصار على شيء لا يفهم معنى انتصارك!

فالثور لا يفهم أنك عنتر.

والغضب لا يفهم أنك حكيم.

واللحظة لا تفهم أنك شجاع!

وفي ميزان النبوّة تعلو الحكمة على مجرد السطوة، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم:

«لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ».

فالشدّة ليست الحدّة، وليست الاندفاع، وليست الغلبة على الآخر.

إنها الغلبة على الذات.

إدارة الداخل قبل الخارج.

امتلاك العاصفة التي تثور في القلب قبل امتلاك السيوف التي تتحرّك في الأيدي.

حين نفهم ذلك، ندرك أن الشجاعة ليست فضيلة عضليّة، بل فضيلة عقلية، وليست مهارة ميدانية، بل موقف وجودي.

الشجاعة —بمعناها العميق— هي قدرة الإنسان على أن يختار.

أما التهوّر، فهو أن تُنتزع منه القدرة على الاختيار، فيتحرّك بدافع اللحظة، بدافع العيون التي تنتظر منه أن يكون شيئًا وفقط حتى وإن هلك بلا ثمن!

إن صفحات التاريخ مليئة بالرجال الذين أدركوا أنّ الحرب رأيٌ قبل أن تكون سيفًا، وأن النصر يُصنع بالتدبير كما يُصنع بالشجاعة. 

وهذا ليست هربا منها، بل عن وعي بأن مواجهة الخطر لا قيمة لها إذا خلت من غاية، وأن الإقدام بلا بصيرة صورة أخرى للخسران. 

فليس كل اندفاع بطولة، ولا كل تراجع جبنًا؛ إنما البطولة أن يعرف الإنسان موضع خطاه، وأن يميّز بين معركة تستحق السعي إليها وأخرى لا تزيده إلا نزفًا بلا معنى.

والخلاصة أن في حياة كل إنسان منا ثورا هائجا بشكل ما: غضب يفاجئ العقل، إهانة تستفز النفس، موقف يطالب فيه الناس صاحبه بأن يبرهن على قوته!

وفي كل مرة تُرفع أمامه راية التحدّي، يقف عند الحدّ الفاصل بين الطريقين: طريق التهوّر الذي يغريه بالاندفاع، وطريق الشجاعة الحقيقية التي تبدأ بالعقل وتستقرّ بالحكمة.

ولعلّ أجمل ما في تلك الحكاية أنّها تُعيد ترتيب الميزان في القلب:

ليس المهم أن يعرف الآخرون أنّك عنتر، بل أن تعرف أنت متى تكون عنتر، ومتى تكون أحكم من عنتر.

فالبطولة ليست إثباتًا للذات، بل حفظٌ لها.

وليست صليل سيوف، بل بصيرةٌ تضع القوة في موضعها.

هكذا يصبح الإنسان شجاعًا لا متهوّرًا، ثابتًا لا مندفعًا، قويًّا بحكمته قبل قوّة ساعده. 

وهكذا يتبيّن أنّ العقل هو القائد الحقيقيّ للقلب، وأن كل خطوة بلا وعي إنما هي (ثور) جديد يقتحم مضارب الحياة.

اقرأ المزيد

alsharq الفدائي يشعل البطولة

لم يدخل المنتخب الفلسطيني الميدان كفريق عابر، بل كراية مرفوعة تتقدم بثبات لا يعرف الانحناء. خطا اللاعبون إلى... اقرأ المزيد

1320

| 06 ديسمبر 2025

alsharq كيف ساهم علم النفس في تطبيع السلوكيات المؤذية؟

في خضم التطور الكبير الذي شهده علم النفس في العصر الحديث، ظهرت مصطلحات جديدة أخذت مكانها في الأذهان،... اقرأ المزيد

84

| 05 ديسمبر 2025

alsharq الحقيقة والسراب ونمو المجتمعات

الثراء الحقيقي هو ثراء النفس والذهن والروح والثراء لا ينبع بدون حقيقة مادية ملموسة وهذه الحقيقة تتكون من... اقرأ المزيد

111

| 05 ديسمبر 2025

مساحة إعلانية