رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سعدية مفرح

كاتبة كويتية

مساحة إعلانية

مقالات

468

سعدية مفرح

الشهر الذي لا يتكرر

03 مارس 2025 , 02:00ص

نقول لبعضنا البعض في رمضان كل عام: «مبارك عليكم الشهر الفضيل»، كأننا نلتقي به لأول مرة، كأننا لم نعشه من قبل، ولم نحسب أيامه ونعدّ لياليه ونتلو أدعيته ونرتب أحلامنا بين ثناياه. ولكن، ماذا يعني “الشهر الفضيل” بالنسبة لشهر يعود عامًا بعد عام؟

كيف يكون الزمن متكررًا وهو في جوهره زائل؟ وهل رمضان هو رمضان نفسه في كل مرة، أم أن في كل عام منه رمضان مختلفًا لا يتكرر؟ هناك شيء غريب في هذا الشهر، كأنه لا يخضع لقوانين الوقت كما نعرفها. فهو يعود إلينا كل عام، لكنه لا يكون أبدًا كما كان. في كل مرة يأتي، نحن الذين نكون قد تغيّرنا، أرواحنا التي أنهكتها الحياة تتوق إليه بشغف مختلف، وأمانينا التي لم تتحقق في الأعوام الماضية تجد فيه موسمًا جديدًا للحلم والتضرع، وأوجاعنا التي حسبناها اندملت تعود لتطلب شفاءها من رحمته. فنحن الذين نختلف، وليس هو!.

نحن الذين ننظر إليه بعيون متغيرة، بأعمار متقدمة، بأحمال جديدة من الهموم والذكريات، بقلوب أنهكها الانتظار أو أرهقتها الأيام.

إنه شهر يأتي ليُذكّرنا، لا ليُعيد نفسه، يوقظ فينا أشياء كنّا قد نسيناها، يبعث في القلب حرارة الإيمان التي يبردها الزمن، ويعيدنا إلى تلك النسخة الطفولية البريئة من أرواحنا التي كانت تفرح بقدومه كما لو أنه العيد نفسه. لكننا حين نكبر، لا نكفّ عن البحث عن تلك النسخة الضائعة فينا، التي كانت ترى في رمضان أكثر من مجرد امتناع عن الطعام والشراب.

نحن نبحث عن تلك الرهبة القديمة في سماع صوت الأذان يُعلن أول أيامه، وعن بهجة رؤية الهلال كأنه يبتسم لنا بحنو، وعن لحظة الإفطار التي لم تكن مجرد انتهاء لصيام طويل، بل كانت لقاءً روحانيًا مع النفس، مع الذكريات، مع الدعوات الخفية التي لا نهمس بها إلا في ظلاله.

وكم يبدو غريبًا أن هذا الشهر، رغم ثبات موعده في التقويم الهجري، إلا أنه لا يستقر في فصولنا ولا في مزاج الطقس.

يأتي أحيانًا في ذروة الحر، فنصبر، ويعود في أيام البرد، فنتدثر، وقد يمر على أمم تعاني الجوع أصلاً، فتكون مشقته مضاعفة، ويمر على أخرى مترفة، فتكون فتنة موائده قاسية. لكنه في كل حالاته يظل هو هو، الاختبار الأجمل لصبر الإنسان، والنافذة التي تفتح على ما وراء المألوف.

رمضان ليس شهرًا في التقويم، بل هو مرآة، كلما عدنا إليها وجدنا فيها صورة جديدة لأنفسنا، نرى وجوهنا وقد كبرنا عامًا آخر، ونرى أرواحنا وهي تعبر محطات الحياة، ونشعر أن هناك فرصة أخرى للتصالح مع الذات، مع الله، مع الزمن الذي يركض بنا سريعًا. ربما لهذا السبب لا يكون رمضان كما هو في كل مرة، لأننا في كل مرة نستقبله بقلوب جديدة، بظروف مختلفة، بأوجاع جديدة، وأحلام لم نحققها بعد.

في ليلة من لياليه، قد نجد أنفسنا نرفع ذات الدعوة التي رفعناها في العام الماضي، بذات الرجاء، بذات الدموع، لكن بوعي أعمق لما تعنيه.

وفي صباح آخر، قد نكتشف أن ما تمنيناه العام الماضي تحقق بالفعل، لكننا كنا مشغولين عن ملاحظة ذلك. رمضان ليس فقط شهر العبادة، بل هو أيضاً شهر الإدراك، شهر أن ترى ما لم تكن تراه في نفسك، في حياتك، في الدنيا كلها.

ومهما قلنا، سيظل رمضانُ رمضانَ، وسنظل نحن الذين نتغير. لكنه سيبقى ذلك الشهر الذي لا يتكرر، حتى وإن عاد إلينا كل عام.

وربما هذا هو سرّه الأعظم؛ أنه لا يغادرنا حقًا، بل يظل فينا على هيئة درس لم نفهمه تمامًا بعد، على هيئة وعد بأننا سنحاول أن نبقى كما كنا فيه، أو على الأقل، ألا ننسى سريعًا ما جعلنا نشعر بأننا أكثر إنسانية، أكثر قربًا، أكثر صدقًا مع ذواتنا. لكنه، رغم كل ذلك، يعلم أننا سنعود لما كنّا عليه، وأننا سننتظره من جديد، وسنقول حين يأتي مرة أخرى، وكأنها المرة الأولى: «مبارك عليكم الشهر الفضيل».

مساحة إعلانية