رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليست “حفلة الطلاق” زينة تعلق في صالات الفرح، ولا مجرد انفعال فردي عابر، وليست “احتفالا شخصيا” كما تروج له بعض الأصوات؛ بل هي علامة فارقة على تحول مؤلم في الثقافة الأسرية والمجتمعية.
إنها زلزال صامت يهز أعماق القيم، ويشق صفوف البيوت، ويكشف عن فجوة هائلة بين مقاصد الشريعة في الميثاق الغليظ، وبين فهم معاصر اختزل الزواج في صور، والطلاق في انتصار!
فما كان الطلاق يوما زينة، ولا الانفصال مسرحا، ولا الميثاق الغليظ خاتمة تزف بالأغاني والضحكات؛ بل كان في الشريعة ضرورة تكره، ودواء مرا يلجأ إليه بعد استفراغ الجهد في الإصلاح.
لكن حين يسلب الزواج قدسيته، وتفرغ العلاقة من معانيها، وتبتر النصوص من سياقها، وتزين الفوضى بألوان الفرح…
يكون هذا هو المشهد:
ضحكات فوق ركام البيوت، وتصفيق فوق جراح الأطفال، و”حرية” مزعومة تشترى بثمن الندم المؤجل، وثقافة مشوهة تبارك الفكاك أكثر مما تبارك الثبات.
فما الذي أوصلنا إلى هذا؟ وما الأسباب التي فجرت هذه الظاهرة؟
فلنبدأ من الجذور…
الأسباب العميقة لظاهرة حفلات الطلاق:
1. فهم ساذج للزواج
الزواج عند كثيرين لم يعد مشروعا للسكينة والبناء، بل تحول إلى “تجربة” ذات طابع عاطفي سطحي.
بعض النساء ترى الزواج “رواية حب خالدة” لا تعب فيها ولا مسؤوليات، وبعض الرجال يراه ساحة للهيمنة، دون اعتبار لمفهوم المشاركة أو مراعاة الطبائع.
وحين تصطدم هذه التوقعات الحالمة بصخرة الواقع، تصاب العلاقة بالانهيار؛ لا لأن الطرفين أشرار، بل لأن الفهم كان ساذجا، والمقدمات هشة.
قال رسول الله ﷺ: «الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة» [رواه مسلم].
فالمتاع لا يعني الترف المؤقت، بل الشراكة الهادفة التي تتطلب صبرا وفهما.
2. فهم مشوه للطلاق
الطلاق دواء شرعه الله حين تتعذر الحياة، لا حين تتعكر فقط.
لكن في التصور المعاصر، صار الطلاق “تحررا”، و”بداية جديدة”، و”فرصة لإعادة اكتشاف الذات”، كما يروج في القصص المستوردة والمقاطع المؤثرة.
وقد حذر النبي ﷺ من الطلاق بلا سبب، فقال:
«أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة».
والأسوأ من الطلاق: أن يحول إلى عرض احتفالي، وصرخة نشوة، بدلا من أن يكون لحظة تأمل ومسؤولية.
3. القوامة والتمرد
حين تغتال القوامة على يد رجل ظالم، أو ترفض على يد امرأة متمردة، تنهار معاني السكن والرحمة.
فالقوامة ليست تسلطا، ولا الطاعة إذلالا، بل توازن شرعي دقيق.
قال تعالى: ﴿الرجال قوامون على النساء﴾
لكن حين يفهم النص بمعزل عن روح الشراكة، ترى الرجل يتجبر، وتسمع المرأة تقول: “لن أقاد”، وتتحول العلاقة إلى مواجهة لا مودة.
4. غياب الدفء والحوار
البيوت لا تنهار فجأة، إنها تبرد أولا.
تبرد حين يسكت الطرفان عن التعبير، ويغيب الحديث الحميم، وتستبدل الكلمات الدافئة بالصمت أو الصراخ.
إن من أعظم أسباب الألفة: دوام المراسلة والحديث؛ فإن النفوس مجبولة على من يأنس بها ويحادثها.
فالحوار ليس ترفا؛ بل صمام أمان.
وإذا جف الحوار، ماتت العلاقة وإن بقيت تحت سقف واحد.
5. شعارات زائفة
بين امرأة تقول: “أنا قوية”، “مستقلة”، ورجل يقول: “ما أحتاج أحدا”، و”كلمتي لا تناقش”،
تنتشر شعارات غير متزنة تملأ الفضاء، وتشحن بها العقول، لكنها تهدم بيوتا، وتفتت أسرا.
ففي كل علاقة ناجحة، قدر من الضعف، وقبول بالاحتياج، وتنازل للود.
أما الكبرياء الدائم، فهو طريق مسدود.
6. فوضى الحقوق والواجبات
استيراد مفاهيم مشوهة من بيئات متفككة، وتغليفها بثوب “الوعي”، أفسد توازن العلاقة.
المرأة تطالب بمساواة لا حدود لها، والرجل يتشبث بالقوامة مع إهمال المسؤوليات.
والحل أن نعود إلى أصل الشريعة:
﴿ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة﴾
درجة تكليف وعدل، لا قهر واستعلاء.
7. غياب الناصح الأمين
حين يغيب العلماء، ويستبدلون بمؤثرين ومشاهير، تصبح الكلمة الفاصلة في قرار الطلاق تغريدة، أو مقطعا دراميا، لا فتوى ولا نصيحة حكيمة.
قال تعالى: ﴿فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها﴾
فأين هؤلاء “الحكماء” اليوم؟
بل أين من يصغي إليهم أصلا؟
8. المادية القاتلة
حين تصبح العلاقة حسابا ماليا، تتساقط فيها معاني المودة،
وتتحول النفقة إلى من، والهدايا إلى استثمار، والبيت إلى صفقة!
وتغيب المودة التي هي أصل الزواج:
﴿وجعل بينكم مودة ورحمة﴾
ما قال: “صفقة ومقابلا”.
المودة لا تشترى، بل تبنى يوما بعد يوم.
9. ضغط الإعلام والمنصات
الإعلام المعاصر يصنع من كل طلاق “قصة نجاح”، ويعرضه على أنه تحرر من القيود، وتحقق للذات؛ فيختزل الألم، وتخفى الدموع، ويعرض الوجه اللامع فقط.
والخطر حين تصبح هذه الروايات مصدر إلهام، فتتخذها الشابة قدوة، ويتخذها الشاب مخرجا وهميا من مشكلاته.
نعم، قد يكون الطلاق مغنما.
لكنه استثناء، لا قاعدة.
10. اجتزاء النصوص الشرعية
من أكثر ما يستخدم في تبرير الطلاق الآية:
﴿وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته﴾
لكنها ليست رخصة للتمرد، بل وعد بعد عناء.
قال ابن عاشور: “الغنى المذكور في الآية ليس دعوة للفراق، بل تسلية لمن اضطر إليه بعد استنفاد الوسائل”.
فمن يستدل بها على طلاقه المتهور، يسيء فهم الوحي، ويستخدم النور ليبرر به الهروب.
خاتمة:
إن حفلات الطلاق ليست سوى العرض الخارجي لمرض داخلي عميق؛ تشوهت فيه المفاهيم، واهتزت القيم، وتقدم الزيف على الصدق، والفرح المصطنع على التأمل العميق.
ليس كل طلاق خطأ، وليس كل زواج نعيما.
لكن الهروب من الألم لا يكون بالتزييف، ولا يعالج الفشل بالضجيج.
الأسرة ميثاق، لا مناسبة، والفكاك حين يقع، ينبغي أن يلف بالحكمة، لا أن يزف بالأهازيج.
فلنعد النظر في مفاهيمنا قبل أن نشيع مزيدا من البيوت، ونبني من بقاياها مسارح عبث لا ينتهي.
حدود العنكبوت
حينَ شقَّ الاستعمار جسدَ الأمة بخطوطٍ من حديد وحدودٍ من نار، انقطعت شرايين الأخوة التي كانت تسقي القلوب... اقرأ المزيد
2061
| 04 نوفمبر 2025
إذا رغبت الحياة.. فاهجر ضفافك!
ثمّة نداءات خفية خافتة عن الأسماع، ظاهرة على الأفئدة، تُستشعر حين تضيق على النفس الأرض بما رحبت، وتنقبض... اقرأ المزيد
318
| 04 نوفمبر 2025
نظم في قطر
انطلقت أمس مباريات بطولة كأس العالم للناشئين في ملاعب أسباير لتعيد إلى الأذهان ذكرى مونديال 2022 للكبار، الذي... اقرأ المزيد
321
| 04 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2856
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق بالحياة، تملؤه الأصوات وتشتعل فيه الأرواح حماسةً وانتماء. اليوم، صار صامتًا كمدينةٍ هجرتها أحلامها، لا صدى لهتاف، ولا ظلّ لفرح. المقاعد الباردة تروي بصمتها حكاية شغفٍ انطفأ، والهواء يحمل سؤالًا موجعًا: كيف يُمكن لمكانٍ كان يفيض بالحب أن يتحول إلى ذاكرةٍ تنتظر من يوقظها من سباتها؟ صحيح أن تراجع المستوى الفني لفرق الأندية الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تلك الظاهرة، إلا أن المسؤول الأول هو السياسات القاصرة للأندية في تحفيز الجماهير واستقطاب الناشئة والشباب وإحياء الملاعب بحضورهم. ولنتحدث بوضوح عن روابط المشجعين في أنديتنا، فهي تقوم على أساس تجاري بدائي يعتمد مبدأ المُقايضة، حين يتم دفع مبلغ من المال لشخص أو مجموعة أشخاص يقومون بجمع أفراد من هنا وهناك، ويأتون بهم إلى الملعب ليصفقوا ويُغنّوا بلا روح ولا حماسة، انتظاراً لانتهاء المباراة والحصول على الأجرة التي حُدّدت لهم. على الأندية تحديث رؤاها الخاصة بروابط المشجعين، فلا يجوز أن يكون المسؤولون عنها أفراداً بلا ثقافة ولا قدرة على التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كفاءة في إقناع الناشئة والشباب بهم. بل يجب أن يتم اختيارهم بعيداً عن التوفير المالي الذي تحرص عليه إدارات الأندية، والذي يدل على قصور في فهم الدور العظيم لتلك الروابط. إن اختيار أشخاص ذوي ثقافة وطلاقة في الحديث، تُناط بهم مسؤولية الروابط، سيكون المُقدمة للانطلاق إلى البيئة المحلية التي تتواجد فيها الأندية، ليتم التواصل مع المدارس والتنسيق مع إداراتها لعقد لقاءات مع الطلاب ومحاولة اجتذابهم إلى الملاعب من خلال أنشطة يتم خلالها تواجد اللاعبين المعروفين في النادي، وتقديم حوافز عينية. إننا نتحدث عن تكوين جيل من المشجعين يرتبط نفسياً بالأندية، هو جيل الناشئة والشباب الذي لم يزل غضاً، ويمتلك بحكم السن الحماسة والاندفاع اللازمين لعودة الروح إلى ملاعبنا. وأيضاً نلوم إعلامنا الرياضي، وهو إعلام متميز بإمكاناته البشرية والمادية، وبمستواه الاحترافي والمهني الرفيع. فقد لعب دوراً سلبياً في وجود الظاهرة، من خلال تركيزه على التحليل الفني المُجرّد، ومخاطبة المختصين أو الأجيال التي تخطت سن الشباب ولم يعد ممكناً جذبها إلى الملاعب بسهولة، وتناسى إعلامنا جيل الناشئة والشباب ولم يستطع، حتى يومنا، بلورة خطاب إعلامي يلفت انتباههم ويُرسّخ في عقولهم ونفوسهم مفاهيم حضارية تتعلق بالرياضة كروح جماهيرية تدفع بهم إلى ملاعبنا. كلمة أخيرة: نطالب بمبادرة رياضية تعيد الجماهير للمدرجات، تشعل شغف المنافسة، وتحوّل كل مباراة إلى تجربة مليئة بالحماس والانتماء الحقيقي.
2487
| 30 أكتوبر 2025
حينَ شقَّ الاستعمار جسدَ الأمة بخطوطٍ من حديد وحدودٍ من نار، انقطعت شرايين الأخوة التي كانت تسقي القلوب قبل أن تربط الأوطان. تمزّقت الخريطة، وتبعثرت القلوب، حتى غدا المسلم يسأل ببرودٍ مريب: ما شأني بفلسطين؟! أو بالسودان ؟! أو بالصين ؟! ونَسِيَ أنَّ تعاطُفَه عبادةٌ لا عادة، وإيمانٌ لا انفعال، وأنّ مَن لم يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم. لقد رسم الاستعمار حدودهُ لا على الورق فحسب، بل في العقول والضمائر، فزرعَ بين الإخوة أسوارا من وهم، وأوقد في الصدورِ نارَ الأحقادِ والأطماع. قسّم الأرضَ فأضعفَ الروح، وأحيا العصبيةَ فقتلَ الإنسانية. باتَ المسلمُ غريبًا في أرضه، باردًا أمام جراح أمّته، يشاهدُ المجازرَ في الفاشر وغزّة وفي الإيغور وكأنها لقطات من كوكب زحل. ألا يعلم أنَّ فقدَ الأرضِ يسهلُ تعويضُه، أمّا فقد الأخِ فهلاكٌ للأمّة؟! لقد أصبح الدينُ عند كثيرين بطاقة تعريفٍ ثانوية بعدَ المذهبِ والقبيلةِ والوطن، إنّ العلاجَ يبدأُ من إعادةِ بناءِ الوعي، من تعليمِ الجيلِ أنّ الإسلام لا يعرف حدودًا ولا يسكنُ خرائطَ صمّاء، وأنّ نُصرةَ المظلومِ واجبٌ شرعيٌّ، لا خِيارٌا مزاجيّا. قال النبي صلى الله عليه وسلم (مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم «وتعاطُفِهم» كمثلِ الجسدِ الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحمّى). التعاطف عبادة، التعاطف مطلب، التعاطف غاية، التعاطف هدف، التعاطف إنسانية وفطرة طبيعية، لذلك فلننهضْ بإعلامٍ صادقٍ يذكّرُ الأمةَ أنّها جسدٌ واحدٌ لا أطرافا متناحرة، وبعمل جماعي يترجمُ الأخوّةَ إلى عطاءٍ، والتكافلَ إلى فعلٍ لا شعار. حين يعودُ قلبُ المسلم يخفقُ في المغربِ فيسقي عروقَه في المشرق، وتنبضُ روحهُ في الشمالِ فتلهم الجنوبَ، حينئذٍ تُهدَمُ حدودُ الوهم، وتُبعثُ روحُ الأمةِ من رمادِ الغفلة، وتستعيدُ مجدَها الذي هو خير لها وللناس جميعاً قال تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). عندها لن تبقى للأمّة خرائط تُفرّقها،. وتغدو حدود وخطوط أعدائنا التي علينا سرابًا تذروه الرياح، وتتقطع خيوطُ العنكبوتِ التي سحروا أعيننا بوهم قيودها التي لا تنفك. فإذا استيقظَ الوجدان تعانقَ المشرقُ والمغربُ في جسدٍ واحد يهتفُ بصوتٍ واحد فداك أخي.
2061
| 04 نوفمبر 2025