رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أن نتعرف على الآخرين ممن يختلفون عنا في اللغة والدين والثقافة والعادات، فهذا يعني أن نهجر أوطاننا – ولو بصورة مؤقتة – لكي نرحل إلى حيث يقيم هؤلاء الآخرون المختلفون. بهذا المعنى تصبح الرحلة محاولة لاكتشاف الناس الذين لا نعرفهم والتعرف على طبيعة أوطانهم التي قد تتشابه أو تختلف عما ألفناه وعرفناه في أوطاننا، وقد لا يكون للرحلة من هدف إلا المتعة التي تنبثق من فرحة الاكتشاف، وقد تكون وراءها دوافع أخرى، من بينها التفكير في احتلال أوطان ليست لنا واستنزاف ثروات تلك الأوطان التي يفترض – عقليا وإنسانيا – أنها ثروات لأبنائها المنتمين إليها.
في كتابه الصغير والجميل الرحلات، يتحدث العلامة الدكتور شوقي ضيف عن الرحلات الجغرافية التي قام بها العرب، وبصفة خاصة منذ عصر المأمون ابن هارون الرشيد، ويقول: إن الجغرافيين العرب قد اتبعوا طريقة ممتعة في وصف عالمهم والعوالم المحيطة بهم، إذ عنوا بالحديث عن عادات الأمم والشعوب وطباعها وما بديارها من آثار وعجائب، وقصوا ما عندها من أساطير وخرافات، وبذلك أصبحت كتبهم الجغرافية كتبا أدبية، تعتمد على المشاهدة وحكاية ما رآه الجغرافي تحت عينه وسمعه بأذنه، وهي من هذه الناحية أقرب إلى أن تكون كتب رحلات منها إلى أن تكون كتبا جغرافية بالمعنى الذي نفهمه اليوم.
وينطلق الدكتور شوقي ضيف ليحدثنا – بصورة سريعة لكنها دقيقة – عن كتاب المسالك والممالك لابن حوقل، وكتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي، وكتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق لأبي عبد الله محمد الإدريسي أكبر جغرافيي بلاد المغرب والأندلس، وهكذا نواصل معه إلى أن نصل إلى الرحلات البحرية، ومن بينها عجائب الهند.. بره وبحره وجزائره لبزرك بن شهريار الناخداه، ومن رحلات البحر وما فيها من متاعب ومغامرات إلى رحلات في الأمم والبلدان نمضي مع العلامة الكبير، حيث يحدثنا عن أبي حامد الأندلسي في شرقي أوروبا، وأسامة بن منقذ بين الصليبيين، ثم يفرد فصلا كاملا لرحلة ابن جبير الأندلسي ثم لرحلة ابن بطوطة وجولاته من الأناضول إلى بلاد المغول، وفي الهند، ومن قندهار إلى الصين.
يكتسب كل إنسان منا – بدرجة متفاوتة – خبراته الإنسانية من مصدرين، أولهما التجربة المعاشة والشخصية، وثانيهما التجربة المكتسبة من آخرين، بما فيها الشغف بالقراءة بغية التعرف الذي قد يقود إلى الاكتشاف، أو بالمصدرين معا، وهذا هو الأعمق والأكثر فائدة ومتعة، ومن أشهر الرحلات التي امتزج فيها المصدران، التجربة المعاشة والتجربة المكتسبة، رحلة الرائد العظيم رفاعة رافع الطهطاوي إلى بلاد الفرنسيس، والتي سجلها في كتابه الشهير تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ومن الطريف أن هذا الكتاب قد ترجم إلى اللغة الفرنسية ولاقى رواجا بين الفرنسيين والفرنسيات، لأنهم أحبوا أن يروا صورتهم هم من خلال عيني إنسان مصري – عربي – شرقي.
بعد رفاعة رافع الطهطاوي، انطلق آخرون من العمالقة والمرموقين المشاهير إلى فرنسا وسواها من الدول الأوروبية الغربية، وإلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومن هؤلاء الذين انطلقوا إلى الغرب من أبناء الشرق الشيخ محمد عبده وجورجي زيدان وميخائيل نعيمة وطه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقي إلى أن نصل – على سبيل المثال – إلى الطيب صالح ورائعته الروائية موسم الهجرة إلى الشمال، وقد اهتم دارسون وباحثون أكاديميون من العرب والغربيين على حد سواء بدراسة تأثير الصدمة الحضارية التي وقع تحت وطأتها هؤلاء العمالقة والمرموقون المشاهير.
من الكتب الممتعة والجميلة التي لا تصور رحلة واقعية، بل رحلة متخيلة تلك الكتب التي اصطلح على تسميتها أدب الخيال العلمي، ومنها كتاب عشرون ألف فرسخ تحت سطح الماء لجول فيرن، وكتاب مزرعة الحيوانات لجورج أورويل، أما الكتاب الممتع الذي قرأته منذ صباي، فهو كتاب يتحدث عن رحلة خيالية، وقد اشترك في كتابته طه حسين وتوفيق الحكيم، وهو كتاب القصر المسحور، الذي تقع فيه حوادث عجيبة ووقائع غريبة، من بينها عملية اختطاف توفيق الحكيم نفسه على أيدي أعوان شهر زاد، حيث تم اتهامه بأنه رجل عدو للمرأة ويريد أن ينتقص من مكانتها في المجتمع وفي الحياة، ولكي يتم الإفراج عن توفيق الحكيم كان لابد له أن يتحايل وأن يتجمل وأن يقنع شهر زاد بأنه ليس من طراز شهريار القاسي القلب والذي كان يقتل فتاة عذراء كل ليلة، منتقما من خيانة زوجته له، وذلك قبل أن تروضه شهر زاد بحكاياتها التي استسلم لها وكأنها مخدر سحري ينيمه هادئ الأعصاب ومرتاح البال!
مقابل هؤلاء العمالقة والمرموقين الذين انطلقوا من أرضنا العربية إلى دول أوروبا وإلى الولايات المتحدة الأمريكية، نجد أن كثيرين من العمالقة والمرموقين الغربيين والأمريكيين قد انطلقوا إلى أرضنا العربية، أما ما يجمع بين هؤلاء وأولئك فيتمثل في الرغبة في الاستكشاف والتعرف على الآخرين، رغم اختلاف دوافع كل منهم، فكأن هؤلاء جميعا يحبون الانطلاق، لكي يستمتعوا بنزهة المشتاق في اختراق الآفاق، وأظن أن هذه النزهة لها جدواها، لأن لها مزاياها من جميع زواياها!
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
هناك لحظات في تاريخ الدول لا تمرّ مرور الكرام… لحظات تُعلن فيها مؤسسات الدولة أنها انتقلت من مرحلة “تسيير الأمور” إلى مرحلة صناعة التغيير ونقل الجيل من مرحلة كان إلى مرحلة يكون. وهذا بالضبط ما فعلته وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي في السنوات الأخيرة. الأسرة أولاً… بُعدٌ لا يفهمه إلا من يعي أهمية المجتمع ومكوناته، مجتمعٌ يدرس فيه أكثر من 300 ألف طالب وطالبة ويسند هذه المنظومة أكثر من 28 ألف معلم ومعلمة في المدارس الحكومية والخاصة، إلى جانب آلاف الإداريين والمتخصصين العاملين في الوزارة ومؤسساتها المختلفة. لذلك حين قررت الوزارة أن تضع الأسرة في قلب العملية التعليمية هي فعلاً وضعت قلب الوطن ونبضه بين يديها ونصب عينيها. فقد كان إعلانًا واضحًا أن المدرسة ليست مبنى، بل هي امتداد للبيت وبيت المستقبل القريب، وهذا ليس فقط في المدارس الحكومية، فالمدارس الخاصة أيضًا تسجل قفزات واضحة وتنافس وتقدم يداً بيد مع المدارس الحكومية. فمثلاً دور الحضانة داخل رياض الأطفال للمعلمات، خطوة جريئة وقفزة للأمام لم تقدّمها كثير من الأنظمة التعليمية في العالم والمنطقة. خطوة تقول للأم المعلمة: طفلك في حضن مدرستك… ومدرستك أمانة لديك فأنتِ المدرسة الحقيقية. إنها سياسة تُعيد تعريف “بيئة العمل” بمعناها الإنساني والحقيقي. المعلم… لم يعد جنديًا مُرهقًا بل عقلاً مُنطلقًا وفكرًا وقادًا وهكذا يجب أن يكون. لأول مرة منذ سنوات يشعر المُعلم أن هناك من يرفع عنه الحِمل بدل أن يضيف عليه. فالوزارة لم تُخفف الأعباء لمجرد التخفيف… بل لأنها تريد للمعلم أن يقوم بأهم وظيفة. المدرس المُرهق لا يصنع جيلاً، والوزارة أدركت ذلك، وأعادت تنظيم يومه المدرسي وساعاته ومهامه ليعود لجوهر رسالته. هو لا يُعلّم (أمة اقرأ) كيف تقرأ فقط، بل يعلمها كيف تحترم الكبير وتقدر المعلم وتعطي المكانة للمربي لأن التربية قبل العلم، فما حاجتنا لمتعلم بلا أدب؟ ومثقف بلا اخلاق؟ فنحن نحتاج القدوة ونحتاج الضمير ونحتاج الإخلاص، وكل هذه تأتي من القيم والتربية الدينية والأخلاق الحميدة. فحين يصدر في الدولة مرسوم أميري يؤكد على تعزيز حضور اللغة العربية، فهذا ليس قرارًا تعليميًا فحسب ولا قرارًا إلزاميًا وانتهى، وليس قانونًا تشريعيًا وكفى. لا، هذا قرار هوية. قرار دولة تعرف من أين وكيف تبدأ وإلى أين تتجه. فالبوصلة لديها واضحة معروفة لا غبار عليها ولا غشاوة. وبينما كانت المدارس تتهيأ للتنفيذ وترتب الصفوف لأننا في معركة فعلية مع الهوية والحفاظ عليها حتى لا تُسلب من لصوص الهوية والمستعمرين الجدد، ظهرت لنا ثمار هذا التوجه الوطني في مشاهد عظيمة مثل مسابقة “فصاحة” في نسختها الأولى التي تكشف لنا حرص إدارة المدارس الخاصة على التميز خمس وثلاثون مدرسة… جيش من المعلمين والمربين… أطفال في المرحلة المتوسطة يتحدثون بالعربية الفصحى أفضل منّا نحن الكبار. ومني أنا شخصيًا والله. وهذا نتيجة عمل بعد العمل لأن من يحمل هذا المشعل له غاية وعنده هدف، وهذا هو أصل التربية والتعليم، حين لا يعُدّ المربي والمعلم الدقيقة متى تبدأ ومتى ينصرف، هنا يُصنع الفرق. ولم تكتفِ المدارس الخاصة بهذا، فهي منذ سنوات تنظم مسابقة اقرأ وارتقِ ورتّل، ولحقت بها المدارس الحكومية مؤخراً وهذا دليل التسابق على الخير. من الروضات إلى المدارس الخاصة إلى التعليم الحكومي، كل خطوة تُدار من مختصين يعرفون ماذا يريدون، وإلى أين الوجهة وما هو الهدف. في النهاية… شكرًا لأنكم رأيتم المعلم إنسانًا، والطفل أمانة، والأسرة شريكًا، واللغة والقرآن هوية. وشكرًا لأنكم جعلتمونا: نفخر بكم… ونثق بكم… ونمضي معكم نحو تعليم يبني المستقبل.
13608
| 20 نوفمبر 2025
في قلب الإيمان، ينشأ صبر عميق يواجه به المؤمن أذى الناس، ليس كضعفٍ أو استسلام، بل كقوة روحية ولحمة أخلاقية. من منظور قرآني، الصبر على أذى الخلق هو تجلٍّ من مفهوم الصبر الأوسع (الصبر على الابتلاءات والطاعة)، لكنه هنا يختصّ بالصبر في مواجهة الناس — سواء بالكلام المؤذي أو المعاملة الجارحة. يحثّنا القرآن على هذا النوع من الصبر في آيات سامية؛ يقول الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ (المزمل: 10). هذا الهجر «الجميل» يعني الانسحاب بكرامة، دون جدال أو صراع، بل بهدوء وثقة. كما يذكر القرآن صفات من هم من أهل التقوى: ﴿… وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ … وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: 134). إن كظم الغيظ والعفو عن الناس ليس تهاونًا، بل خلق كريم يدل على الاتزان النفسي ومستوى رفيع من الإيمان. وقد أبرز العلماء أن هذا الصبر يُعدُّ من أرقى الفضائل. يقول البعض إن كظم الغيظ يعكس عظمة النفس، فالشخص الذي يمسك غضبه رغم القدرة على الردّ، يظهر عزمًا راسخًا وإخلاصًا في عبادته لله. كما أن العفو والكظم معًا يؤدّيان إلى بناء السلم الاجتماعي، ويطفئان نيران الخصام، ويمنحان ساحة العلاقات الإنسانية سلامًا. من السنة النبوية، ورد عن النبي ﷺ أن من كظم غيظه وهو قادر على الانتقام، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فكم هو عظيم جزاء من يضبط نفسه لصالح رضا الله. كما تبيّن المروءة الحقيقية في قوله ﷺ: ليس الشديد في الإسلام من يملك يده، بل من يملك نفسه وقت الغضب. أهمية هذا الصبر لم تذهب سدى في حياة المسلم. في مواجهة الأذى، يكون الصبر وسيلة للارتقاء الروحي، مظهراً لثقته بتقدير الله وعدله، ومعبّراً عن تطلع حقيقي للأجر العظيم عنده. ولكي ينمّي الإنسان هذا الخلق، يُنصح بأن يربّي نفسه على ضبط الغضب، أن يعرف الثواب العظيم للكاظمين الغيظ، وأن يدعو الله ليساعده على ذلك. خلاصة القول، الصبر على أذى الخلق ليس مجرد تحمل، بل هو خلق كرامة: كظم الغيظ، والعفو، والهجر الجميل حين لا فائدة من الجدال. ومن خلال ذلك، يرتقي المؤمن في نظر ربه، ويَحرز لذاته راحة وسموًا، ويحقّق ما وصفه الله من مكارم الأخلاق.
1797
| 21 نوفمبر 2025
في لحظة تاريخية، ارتقى شباب المغرب تحت 17 عاماً إلى أسمى آفاق الإنجاز، حين حجزوا مقعدهم بين عمالقة كرة القدم العالمية، متأهلين إلى ربع نهائي كأس العالم في قطر 2025. لم يكن هذا التأهل مجرد نتيجة، بل سيمفونية من الإرادة والانضباط والإبداع، أبدعها أسود الأطلس في كل حركة، وفي كل لمسة للكرة. المغرب قدم عرضاً كروياً يعكس التميز الفني الراقي والجاهزية الذهنية للاعبين الصغار، الذين جمعوا بين براعة الأداء وروح التحدي، ليحولوا الملعب إلى مسرح للإصرار والابتكار. كل هجمة كانت تحفة فنية تروي قصة عزيمتهم، وكل هدف كان شاهداً على موهبة نادرة وذكاء تكتيكي بالغ، مؤكدين أن الكرة المغربية لا تعرف حدوداً، وأن مستقبلها مزدهر بالنجوم الذين يشقون طريقهم نحو المجد بخطوات ثابتة وواثقة. هذا الإنجاز يعكس رؤية واضحة في تطوير الفئات العمرية، حيث استثمر الاتحاد المغربي لكرة القدم في صقل مهارات اللاعبين منذ الصغر، ليصبحوا اليوم قادرين على مواجهة أقوى المنتخبات العالمية ورفع اسم بلادهم عالياً في سماء البطولة. وليس الفوز وحده، بل القدرة على فرض أسلوب اللعب وإدارة اللحظات الحرجة والتحلي بالهدوء أمام الضغوط، ويجعل هذا التأهل لحظة فارقة تُخلّد في التاريخ الرياضي المغربي. أسود الأطلس الصغار اليوم ليسوا لاعبين فحسب، بل رموز لإصرار أمة وعزيمة شعب، حاملين معهم آمال ملايين المغاربة الذين تابعوا كل لحظة من مغامرتهم بفخر لا ينضب. واليوم، يبقى السؤال الأعمق: هل سيستطيع هؤلاء الأبطال أن يحولوا التحديات القادمة إلى ملحمة تاريخية تخلّد اسم الكرة المغربية؟ كل المؤشرات تقول نعم، فهم بالفعل قادرون على تحويل المستحيل إلى حقيقة، وإثبات أن كرة القدم المغربية قادرة على صناعة المعجزات. كلمة أخيرة: المغرب ليس مجرد منتخب، بل ظاهرة تتألق بالفخر والإبداع، وبرهان حي على أن الإرادة تصنع التاريخ، وأن أسود الأطلس يسيرون نحو المجد الذي يليق بعظمة إرادتهم ومهارتهم.
1173
| 20 نوفمبر 2025