رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. جاسم الجزاع

* باحث وأكاديمي كويتي
Jassimaljezza@hotmail.com

مساحة إعلانية

مقالات

630

د. جاسم الجزاع

القادة الصامتون.. أبطال التغيير بلا ضجيج

04 ديسمبر 2024 , 02:00ص

عندما صعد الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - المنبر لأول مرة بعد مبايعته، ارتج عليه الكلام ولم يستطع الحديث، لكنه واجه الموقف بحكمة وقال عبارته الخالدة: «إنكم إلى خليفة فعول أحوج منكم إلى خليفة قؤول». بهذه الكلمات البسيطة، لخص عثمان بن عفان فلسفة القيادة الحقيقية التي تقوم على الفعل قبل القول، والعمل قبل الخطابة. فهذه العبارة تمثل جوهر القيادة الصامتة، حيث لا تُقاس الإنجازات فيها وفي ممارساتها بكثرة الحديث والتصريح الاعلامي، بل بقوة الأفعال وتأثيرها المستدام.

وفي عالم القيادة والادبيات الإدارية العلمية، كثيرًا ما يُعتقد أن النجاح مرتبط بمهارات الخطابة وقوة التأثير بالكلمات، لكن التاريخ أثبت أن هناك قادة عظماء لم يعتمدوا على الخطابة، بل على العمل الصامت المدروس والممارسة الفعلية، وتركوا أفعالهم تصنع التغيير والحدث. من هؤلاء القادة على سبيل المثال الخليفة العربي الاموي عمر بن عبد العزيز، وزعيم الاستقلال الهندي المهاتما غاندي.

فقد كان عمر بن عبد العزيز قائدًا صامتًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، وبمجرد توليه الخلافة والسلطة السياسية في دمشق، شرع في تنفيذ إصلاحات جذرية بصمت وهدوء، دون الحاجة إلى إثارة الجماهير أو إطلاق الوعود والاستعراض الإعلامي على المنابر. فقد أعاد الحقوق إلى أصحابها، وألغى الضرائب الظالمة التي أثقلت كاهل العامة، وحرص على نشر العدل بين المسلمين وغير المسلمين. فأصبحت قوته الحقيقية لم تكن في كلماته، بل في أفعاله التي عكست حكمته وتواضعه. كان صمته أداة للتفكير العميق واتخاذ قرارات مدروسة جعلت منه رمزًا للقيادة العادلة والفعالة. وحتى إن عصره شهد ازدهارًا اجتماعيًا واقتصاديًا بفضل إصلاحاته، ما جعله نموذجًا يُحتذى به في التاريخ السياسي الإسلامي.

أما غاندي، فقد قاد الهند إلى الاستقلال بأسلوب فريد يرتكز على فلسفة «اللاعنف»، فلم يكن غاندي خطيبًا صاخبًا، لكنه استطاع تحفيز الملايين بأفعاله الرمزية والبسيطة. فخلال «مسيرة الملح»، ترك غاندي أفعاله تتحدث عنه، حيث قاد الشعب الهندي بخطوات صامتة لكنها مفعمة بالقوة، وصمته لم يكن غيابًا للكلام، بل كان أداة للتأمل والتخطيط، مما جعله نموذجًا عالميًا للتغيير السلمي.

فالصمت في القيادة ليس غيابًا عن التأثير، بل هي وسيلة فعالة للتأمل والتخطيط المدروس. فعثمان بن عفان، وعمر بن عبد العزيز، وغاندي وغيرهم أثبتوا أن القيادة الحقيقية تُبنى على الأفعال لا الأقوال، فهؤلاء القادة ألهموا الأجيال دون حاجة إلى صخب، وأظهروا أن الصمت قوة تُترجم إلى إنجازات ملموسة تغير مسار التاريخ.

مساحة إعلانية