رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

حين تضعف منظومة الحكم الرشيد

لم يعد مشهد الاحتجاجات والحراك الشبابي مفاجئًا لنا وللمراقبين في عالمٍ يتغير بسرعة مذهلة، وحيث تتقاطع الأزمات الاقتصادية كالتضخم والبطالة وسوء توزيع الثروة، مع التحولات الثقافية والتكنولوجية المعقدة، وتتعاظم فجوة الثقة بين الشعوب والإدارات الحكومية، فحين نسمع عن مظاهرات في مدينة عربية ما أو حتى غربية، فلا ينبغي أن نندهش، لأن الاحتجاج لم يعد حدثًا استثنائيًا عجباً، بل صار مؤشرًا على خللٍ في العلاقة بين الإدارة التي تحكم وبين المحكوم، وعلى ضعف منظومة الحكم الرشيد التي تمنح الشعوب شعورًا بالكرامة والمشاركة. فالثورات لا تولد من فراغ، ولا تشتعل بسبب رغيف الخبز وحده، بل حين يشعر المواطن أن صوته لا يُسمع، ومستوى المعيشة لا يلبي الطموح ومعدلات الفقر بازدياد، وأن الفساد الإداري أقوى من العدالة، وأن وعود التنمية صارت شعاراتٍ جوفاء. فالدولة أو النظام الذي يفتقد إلى الحكم الرشيد، يتراكم الغضب ببطء، كما يتراكم الغبار على نوافذ الإهمال، حتى تأتي شرارة صغيرة لتكشف حجم الخلل الداخلي. فالدولة الرشيدة تمتلك ما يمكن أن نسمّيه «المناعة السياسية»، أي القدرة على امتصاص الصدمات، ومعالجة الأخطاء قبل أن تتحوّل إلى أزمات حادة، ولا تقمع الاختلاف بل تُنظّمه، ولا تخاف من النقد بل تعتبره تغذيةً راجعة، ولا تكتفي بالشعارات بل تُحاسب وتُصلح وتُشرك المجتمع في صناعة القرار. وتشهد على ذلك تجارب عديدة على أن هذه المناعة ليست نظرية مثالية، بل هي واقعية ملموسة، فـماليزيا مثلًا واجهت أزمات اقتصادية وسياسية كبرى في تسعينيات القرن الماضي، لكنها تجاوزتها بالحوار الوطني، وإصلاح المؤسسات، ومحاربة الفساد ضمن رؤية تنموية متكاملة، فاستعادت ثقة المواطن وواصلت النمو. وفي قطر أسهمت الحوكمة الرشيدة في بناء علاقة متينة بين القيادة القطرية والمجتمع القطري، قائمة على الشفافية، والتخطيط طويل المدى، وتوزيع الثروة بعدالة، مما جعلها من أكثر دول المنطقة استقرارًا وجذباً للعديد من الملفات السياسية والاقتصادية والرياضية. أما النرويج وفنلندا في أوروبا، فقد حولتا عائدات مواردهما الطبيعية إلى صناديق سيادية شفافة تخدم الأجيال، فصارت العدالة والرضا المجتمعي أقوى جدار ضد أي تمرد أو اضطراب. وعلى العكس من ذلك، حين تغيب قواعد الحكم الرشيد، تتحول الدولة إلى ساحة توترٍ دائم، فقد رأينا كيف أدى الفساد وغياب العدالة وانسداد الأفق السياسي في سوريا الأسد، ولبنان والسودان إلى احتجاجات متكررة أسقطت الحكومات، وكيف جرّ عدم الرشد في القرارات إلى انهيار مؤسسات بعض الدول واندلاع حروبٍ داخلية مدمّرة في دول أخرى. وهكذا يتبيّن أن استقرار الدول لا تصنعه الأموال ولا الجيوش، بل يصنعه نضج الإدارة الحكومية وعدالة المنظومة الأخلاقية للحكم، فالحكم الرشيد الراشد ليس نموذجًا مثالياً خيالياً، بل ممارسة واقعية تقوم على العدل والشفافية والمساءلة وتوفير معيشة كريمة للمواطنين، ولتحصين النظام العربي من الاضطرابات، يجب أن تُبنى الثقة بين الإدارة الحكومية والمواطن، ويُفتح باب الحوار والمشاركة، وتُفعّل آليات الرقابة ومكافحة الفساد، وتتجه الجهود لتحسين المعيشة للمواطن البسيط العربي، ويُربّى الجيل الجديد على أن النقد المسؤول المحترم جزء من البناء لا من الهدم، فحين تُصغي الدولة إلى شعبها بصدق، تُغلق أبواب الثورة والاحتجاجات قبل أن تُفتح.

315

| 22 أكتوبر 2025

أسطول الصمود: كيف تحوّل البحر إلى فضاء للقوة الناعمة؟

جاء أسطول الصمود العالمي الذي أبحر عبر المتوسط نحو غزة في محاولة جديدة لكسر الحصار، حاملاً معه قوة ناعمة تتجاوز المساعدات إلى التأثير الرمزي، فهو يُحرج الاحتلال أمام العالم ويستدعي الضمير الإنساني، ففي هذا الزمن التي تتعاظم فيه أدوات الصراع الرمزي والصوري وتتداخل فيه الأبعاد الإنسانية مع الحسابات السياسية، يظهر الأسطول الإنساني الذي اتجه إلى ساحل غزة ليس بوصفه مجرد وسيلة لنقل الإغاثة، بل كأداة ضغط معنوي على الرأي العالمي عالية التأثير، وهذا النوع من المبادرات يحوّل ذلك البحر من مسرح للقوة الصلبة والصدام إلى فضاء للقوة الناعمة، فحمولة تلك السفن ليست البشر والمؤونة بل المعاني والقيم، ومن هنا يبرز البُعد المهم للقوة الناعمة، فالأسطول لا يقاتل ولا يفرض العقوبات، لكنه يستدعي الضمير العالمي، ويحرج الأنظمة التي تحاصر الشعوب، ويضعها أمام امتحان إنساني وأخلاقي، فكل صورة أو خبر عن الأسطول يصبح رسالة رمزية، وكل محاولة لاعتراضه تتحول إلى مادة جديدة تزيد من زخم الضغط المعنوي، حقاً إنها سياسة تأثير بلا جيوش، بل إن أثرها قد يوازي أثر الجيوش حين يتعلّق الأمر بتغيير الرأي العام الدولي أو تحريك موقف سياسي متردد. وتُظهر هذه الظاهرة أن القوة الناعمة لم تعد مقتصرة على الدول كفاعل رئيسي، بل صارت أيضًا أداة بيد حركات المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية العابرة للحدود بل وحتى الأناس البسطاء، فالأسطول الإنساني ليس مجرد مشروع لوجستي، وإنما حملة فكرية بصرية تحمل خطابًا أخلاقيًا قويًا، وبقدر ما تُعرّض هذه الحملات نفسها للاعتراض أو المنع أو الأسر أو القتل، بقدر ما تكسب تعاطفًا أوسع واهتمامًا إعلاميًا مضاعفًا، ليصبح الحدث ذاته عملية إعادة إنتاج للرمزية البطولية والدلالة النضالية، وهنا تتحوّل كل نقطة تفتيش وكل سفينة اعتراض إلى مرآة تعكس ازدواجية الخطاب الرسمي للدول التي ترفع شعار حقوق الإنسان ثم تغض الطرف عن حصار الشعوب. وهذه المبادرات الإنسانية تخلق ساحة ضغط ناعمة متراكمة لا يمكن للدول الكبرى تجاهلها، فالأثر لا يُقاس فقط بالمساعدات التي تصل أو لا تصل، بل بالقدرة على صياغة رواية جديدة للصراع فتحرّك الضمير العالمي الميت، وحين تُبث الصور والرسائل عبر وسائل الإعلام العالمية ومنصات التواصل الاجتماعي، يتحول الأسطول إلى «حدث عالمي» يفرض نفسه على جدول أعمال السياسيين، ويضعهم أمام أسئلة صعبة من الرأي العام الداخلي والخارجي: لماذا يُمنع الطعام والدواء عن أهل غزة؟ ولماذا يُستهدف من يسعى لإغاثتهم؟ هذا النوع من الأسئلة لا يفرضه تقرير رسمي أو بيان أممي، بل يخلقه ضغط رمزي تراكمي تصنعه صور ومشاهد ذات حمولة أخلاقية عالية. وإذا تأملنا في تاريخ المنطقة، ندرك أن الحصار ليس استثناءً بل هو القاعدة!، إنه أداة متجذّرة في هندسة السيطرة على الشعوب، فحصار غزة ليس حدثًا طارئًا، بل هو حالة مستمرة مكررة وممتدة منذ عقود، وهي التي شكلت البيئة والحياة اليومية للفلسطينيين في غزة وخارجها، وإن هذا الحصار، كما تشير وقائع التاريخ، ليس صنيع قوة واحدة، بل هو ثمرة تحالف متشابك لأنظمة متعددة مع القوى العظمى، وفيه تتداخل فيها السياسات الكبرى والفيتوهات المرفوعة في نيويورك مع صمت طويل للأغلبية العالمية، فيدفع ثمن الصمت الأطفال والنساء والرجال في رفح وجباليا وغزة وسائر المخيمات. لذلك كان الأسطول وسيلة المعدوم في زمن الخذلان لتتحوّل القوة الناعمة من كونها مجرد صورة إلى كونها « كشفًا وتعرية» للنظام العالمي، فهي حقاً لا تكتفي باستمالة التعاطف، بل تفضح التواطؤ، وتُخرج التناقضات إلى العلن، وتعيد ترتيب السرديات التي تحكم الصراع في زماننا، ومن هنا تكمن قيمة الأسطول الإنساني في هذا الزمن.

384

| 08 أكتوبر 2025

استدعاء إرث العدالة في زمن المؤسسات الحديثة

في رحاب معهد الدراسات الجنائية التابع للنيابة العامة في دولة قطر، خضتُ تجربة جميلة وجديرة بالتوثيق، إذ قدّمت، بدعوة كريمة من النيابة العامة القطرية ممثَّلةً بمعهد الدراسات الجنائية، ندوةً حول موضوع «العدالة»، وبوجه خاص «العدالة الجنائية»، بوصفها قيمة مؤسسية تتجاوز كونها مجرد نصوص قانونية إلى أن تكون سلوكًا وثقافة متجذرة في بيئات العمل، فانطلقتُ في حديثي من قناعة راسخة بأن المؤسسات ذات الطبيعة الخاصة مثل الأجهزة القضائية والنيابية والأمنية، حين تضع منظومة البناء الثقافي في قلب سياساتها التدريبية، فإنها تُنشئ جيلاً من المنتسبين إليها من ذوي الوعي المرتفع، وقادرين على التطور الذاتي، ومؤهلين للانخراط في صناعة مستقبل أكثر عدالة ومسؤولية. وأوضحتُ للحضور النخبوي من وكلاء النيابة العامة، أن بناء المعرفة داخل المؤسسات لم يعد اليوم شأنًا نظريًا أو من طرف واحد، بل هو عملية حوارية قائمة على النقاشات المباشرة مع النخب والخبراء والممارسين، وهذا التحول من نمط “الحديث من طرف واحد للجمهور” إلى “نمط الحوار المفتوح والمساءلة المتبادلة” يعكس روح العصر في تعامله مع الطرح العلمي، حيث تصبح الأسئلة العميقة والمناقشات النقدية أداةً لصياغة سياسات ومنهجيات أكثر واقعية ورسوخًا في عقول المتدربين، وتمريناً أكثر تأثيرًا واستدامة، ومن هنا شددتُ على أن الوعي المؤسسي لا يُبنى بالمحاضرات الأحادية بقدر ما يُبنى بفتح ساحات التفاعل والتمرينات الذهنية التي تربط بين النص والواقع. وأكدتُ بلهجة أشد وضوحًا أن القضاء العادل لا يمكن أن ينمو إلا في ظل سياسة عادلة، فالقانون مهما بلغ من الدقة يظل إطارًا فارغًا ما لم يسنده نظام حكم يضع العدالة غايةً لا وسيلة، وهنا استحضرتُ تجربة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز بوصفها علامة فارقة في التاريخ الإسلامي، إذ لم يكتفِ برفع المظالم عن الرعية وإحكام الرقابة على ولاته، بل كان سباقًا إلى تأسيس منظومة متكاملة للإنصاف العملي عبر إرساء محكمة المظالم، تلك المحكمة التي شكّلت في جوهرها أول إطار مؤسسي لقوانين حماية العدالة الجنائية بمعناها الواسع في عصرنا الحديث، حيث فُتح الباب لمساءلة كبار المسؤولين، وتقريب العدالة من عامة الناس، وتحويل الإنصاف من شعار وعظي إلى آلية يومية فاعلة، لقد قدّم عمر بن عبدالعزيز بهذا السبق نموذجًا خالدًا في التاريخ لكيفية انتقال القيم إلى مؤسسات، والنصوص إلى سياسات، والسياسات إلى إجراءات تحمي حقوق الناس وتصونهم من الاستبداد والفساد. وتوقفتُ عند تطور مفهوم «الحِسبة» بوصفها آلية رقابة مجتمعية وأداة لصون الأخلاق والأسواق، وكيف أصبحت مؤسسة قائمة بذاتها ذات صلاحيات إدارية وقضائية، بل وحتى في مملكة القدس الصليبية، التي نشأت في قلب المشرق بعد الحملات الصليبية، قامت باستنساخ فكرة الحسبة في هيكلها الإداري لتنظيم الأسواق وضبط المعاملات، وهو ما يعكس عالمية الفكرة وأهميتها في تحقيق التوازن بين القانون والمجتمع. فعلاً، إن ما لمسته من دقة التنظيم وتنوع الكوادر والتفاعل العميق في هذا الإطار المؤسسي في قطر، عزز يقيني بأن العدالة ليست مجرد شعار يُرفع في أروقة المحاكم، بل هي روح يجب أن تتخلّل تفاصيل حياتنا الوظيفية والاجتماعية والسياسية على السواء، ومن هنا فإن تبنّي هذا النموذج القائم على الثقافة المؤسسية والمعرفة القانونية والأخلاق العدلية يمثّل ركيزة أساسية لبناء جهاز عصري ومجتمع أكثر نزاهة وإنصافاً وقدرة على خدمة الصالح العام بكفاءة واقتدار.

339

| 01 أكتوبر 2025

هل الفوضى الخلاقة عدوة للمنظمات أم سر لتجديدها؟

حين نتأمل في تاريخ المؤسسات والمنظمات، ندرك أن ما يسمى بالفوضى لم تكن يومًا نقيضاً تاماً للنظام، بل كانت في كثير من الاحيان تمثل القوة الخفية التي تدفع نحو التغيير والإبداع، فالفوضى في معناها الإداري لا تعني انهيارًا ولا ضياعًا، وإنما تشير إلى تلك المرحلة الانتقالية التي تتصدع فيها البنية القديمة، لتُفسح المجال أمام ولادة أنماط جديدة إدارية أكثر قوة ومرونة، ومن هنا يظهر مفهوم «الفوضى الخلّاقة»، الذي يعيد النظر في علاقتنا بالاضطراب، فلا نراه خطرًا يهدد البقاء بقدر ما نراه فرصة لصنع واقع أفضل. والفوضى الخلّاقة في عالم الإدارة تقول لنا بوضوح إن الارتباك ليس نهاية، بل قد يكون بداية، فكثير من المؤسسات التي حاولت التمسك بالنظام الجامد السابق، وجدت نفسها في تراجع مع الزمن، وأما المؤسسات التي تعاملت بذكاء مع المفاجآت والمتغيرات، واحتضنت التغيير بدلًا من مقاومته، فقد استطاعت أن تتعلم وتتطور، وأن تجعل من الفوضى وقودًا للإبداع، فالابتكار في حقيقته لا يولد إلا في ظل ظروف الاضطراب والفوضى. وليس المقصود من مصطلح «الفوضى الخلّاقة» أنها مؤامرة أو حركة تُصنع عمدًا لهدم الأنظمة – رغم أن بعض السياسيين استخدموها بهذا المعنى في خطاباتهم – بل الأصل في المصطلح أنه توصيف لظاهرة طبيعية أو إدارية تحدث عندما يدخل النظام في حالة اضطراب تؤدي إلى خلق شكل جديد من النظام أكثر مرونة وحيوية. وإذا أخذنا المؤسسات الناشئة كمثال حي على ذلك، فهي لا تعمل في أجواء مستقرة، بل تمتلئ محاولاتها بالارتباك والتجريب في بداية طريقها، ولكنها رغم ذلك، أو لعله بسبب ذلك، تستطيع أن تطرح أفكارًا جديدة تحدث أثرًا يفوق ما تفعله الشركات الكبرى ذات الأنظمة المعقدة، فالفوضى التي تعيشها هنا ليست خطرًا، بل هي بيئة تسمح بولادة إبداعات جديدة، وفي عالمنا العربي، رأينا مؤسسات إعلامية وتجارية كسرت الرتابة والبيروقراطية، ومنحت موظفيها مساحة للحركة والمغامرة والمجازفة، فكانت النتيجة تغييرات أعادت إليها قوتها وجعلتها أكثر قربًا من جمهورها. لكن في الوقت نفسه ينبغي أن نفهم أن الفوضى الخلّاقة ليست دعوة إلى الانفلات والتسيب، فهي ليست قبولًا بالعشوائية ولا إلغاءً للأنظمة، وإنما هي دعوة إلى أن نرى في الاضطراب فرصة، لا كعثرة، وإنها تطلب من القائد أن يخرج من دائرة الراحة والاعتياد، وأن يتعامل مع التغيير بمرونة، ومن الفريق أن يراجع المسلّمات التي ربما كبّلته وقيدته لسنوات. وفي النهاية، قد تبدو الفوضى كلمة مُقلقة، لكن حين نفهمها في إطارها الصحيح، نكتشف أنها ليست عدوًا وخصماً بل شريكًا نافعاً في حدود، وإنها الوجه الآخر للنظام، وصدى يحتاج أن يسمعه الإنسان وكذلك المؤسسة ويحفزهم إلى التغيير، وحين نحسن إدارة الفوضى الخلاقة، تصبح جسرًا يعبر بنا من الجمود إلى الإبداع، ومن التكرار إلى التجديد، ومن الخوف إلى القوة، وهكذا، تتحول من بؤرة خسارة إلى سر للبقاء.

261

| 24 سبتمبر 2025

علم الإدارة كمدخل لحل الأزمات: العدوان على قطر أنموذجاً

الهجوم الأخير الذي شنه الكيان على الدوحة كشف لنا أن الأزمات السياسية لم تعد ينفع أن تدار بالخطابات ولا بالمواقف المؤقتة، بل يجب أن تدار بالقدرة على تحويل الصدمة إلى استراتيجية مستقبلية جديدة وثابتة، وهنا يبرز «علم الإدارة» باعتباره البوصلة المعرفية التي تعيد ترتيب المشهد السياسي، وتمنح الدولة أدوات جديدة للتعامل مع أزمة سياسية معقدة تجمع بين البعد الأمني والسياسي والدبلوماسي. بداية.. أول ما يقدمه علم الإدارة هو ضرورة بناء الفهم العميق لجذور الأزمة السياسية، فالموضوع لا ينحصر في صاروخ أو عملية عسكرية، بل في معادلات إقليمية، وصراع مصالح متناقضة وإدارة الصراع التنظيمي، والسعي الى سد الفراغات في هيكل المنظومة الامنية الدولية، فالإدارة الرشيدة لا تكتفي بردّ فعل غاضب، بل تفتح ملفات «البيئة المحيطة بالحدث» وتتساءل: أين مواطن الخلل؟ وكيف يُستغل الضعف؟ ومن هم الشركاء الحقيقيون الذين يمكن تحويلهم إلى حائط صدّ أو تأييد ؟ ثم تأتي قاعدة إدارية أخرى وهي مدى القدرة على تحويل الخلافات إلى فرصة للتفاوض وكسب التأييد، فبدلًا من أن يتحول الهجوم إلى هجوم مضاعف، فيمكن عبر إدارة دبلوماسية نشطة – وهذا ما حصل- أن يُستثمر الحدث لكشف ازدواجية المعايير للشارع العربي، وتعزيز تحالفات سياسية جديدة، وربما دفع قوى اقليمية كبرى إلى إعادة حساباتها بشأن أمن الخليج، بل وحتى بعض دول الخليج التي لها موقف من «حماس»، سعت الى تبني موقف إيجابي وتأييد لقطر خشية منها من قابل الأيام من الحليف الذي لم يعد يثقون فيه، فهذه ليست وظيفة السياسة وحدها، بل ثمرة تصميم إداري يُحوّل الأزمة إلى منصة للمكاسب. ونأتي الآن على نقطة تنشط كثيراً في بيئات علم الإدارة وهي إدارة المعرفة ومنها حفظ البيانات وجودة المعلومات، فلا يمكن لأي قرار أن يكون رشيدًا من دون إدارة بيانات ومعلومات دقيقة، فهنا تحتاج الإدارة السياسية إلى غرف عمليات تُحلّل المعلومات ومنها حركة الرأي العام، واتجاهات الإعلام الرديف والموازي والضد والحليف، وقياس ردود الفعل الدولية، والتفكير في السيناريوهات العسكرية ومنها التحالف مع الترك وغيرهم، فالإدارة الرشيدة تحوّل هذه المعطيات إلى خطط جاهزة للاستخدام السياسي، بحيث لا يبقى القرار رهين العاطفة وردات الفعل. وأيضاً من المهم معرفة أن علم الإدارة في مثل هذه اللحظات الصعبة يوصي بالعمل على سد أي فجوة قد تُضعف الثقة بين الحكومة – الادارة التنفيذية - والشعب – المستهدفين بالخدمة الحكومية - فالمواطن القطري بحاجة إلى ما يتجاوز الطمأنة اللحظية، بأن يرى أن القرارات المتخذة من قبل الحكومة، مهما كانت صعبة ومليئة بالتبعات، قد بُنيت على وعي استراتيجي وتقدير دقيق للمخاطر، وأن يصبح معيار النجاح السياسي في قطر ليس في سهولة الطريق، بل في مدى إيمان الشعب القطري بأن قيادته اختارت المسار الأصعب دفاعًا عن قيمه وسيادته ومعتقداته وقوميته، فكلما لمس المواطن في قطر أن ما تحمله عقول الإدارة القطرية من مبادئ ورؤى وقيم يتطابق مع إرادته وتطلعاته وقيمه ومبادئه، تَحوّل المجتمع القطري إلى كتلة واحدة تُحصّن الداخل القطري وتمنح القرار السياسي قوة مضاعفة في الخارج، وإن النزاهة الإدارية هي صمام الشرعية السياسية، وإذا رأت الشعوب أن الأزمة تُدار بموضوعية، بعيدًا عن الارتجال أو المصالح الضيقة، فإن الموقف السياسي يكتسب وزنه الأخلاقي في المحافل الدولية وهذا ملاحظ في قراءة موقف الشارع القطري من سياسة حكومته. لذلك يتضح لنا أن علم الإدارة علم إنساني يلتقي مع علم السياسة في خدمة قضايا المجتمعات والشعوب، فبينما ترسم السياسة الأهداف، تقدّم الإدارة أدوات التنفيذ وتحويل الرؤى إلى واقع، وقد أثبتت البحوث الأكاديمية أن هذا التكامل ليس افتراضاً بل حقيقة عملية راسخة.

375

| 18 سبتمبر 2025

هل أرادوا اغتيال فكرة الوسيط؟

في حادثة مفاجئة وصادمة أثارت صدمة إقليمية ودولية، قامت طائرات مقاتلة إسرائيلية باستهداف موقع سكني في قلب الدوحة في محاولة لاغتيال عناصر من حركة حماس مقيمين في قطر، وهذا الحدث لم يكن مجرد خرق أمني عابر، بل كان بمثابة إعلان عن نية الاحتلال نقل ساحة صراعاته الطغيانية إلى قلب دولة عربية وخليجية لعبت – ولا تزال – دور الوسيط النزيه في واحدة من أعقد أزمات المنطقة وهو ملف الحرب في غزة. فكما تعلمون منذ اليوم الأول لانفجار الأوضاع في غزة، وقفت قطر في موقع الوسيط المقبول دوليًا، والمحاور الذي يحظى بثقة الأطراف ذات العلاقة، لما عُرف عنها من حياد نسبي، وعلاقات متوازنة مع مختلف الأطراف ذات العلاقة، فالدوحة هي التي فتحت خطوط التفاوض لإيصال المساعدات لقطاع غزة، وهي التي استضافت الوفود من حماس والكيان والأمريكان، وهي التي حافظت على توازن حساس بين دعمها الإنساني للشعب الفلسطيني من جهة، والتزامها بالمعايير الدبلوماسية الدولية من جهة أخرى، وقد أثنى المجتمع الدولي مرارًا وتكرارًا على هذا الدور، باعتباره صمام أمان يحول دون انزلاق الأزمة إلى مستويات أشد خطورة. لكن العجب العجاب أن الكيان الإسرائيلي – بعقلية مأزومة مجنونة – لم ير في هذا الدور القطري سوى تهديد لنفوذها وخطابها الدعائي الفاشل، فوجود وسيط عربي «مسلم» يحظى بقبول غربي ودولي، ويمتلك من الأدوات الدبلوماسية ما يفضح ممارسات الاحتلال، يشكل عبئًا على تل أبيب التي لطالما سعت إلى احتكار رواية الأحداث وتقديم نفسها كضحية أمام العالم وفشلت في ذلك، ولهذا لم يكن مستغربًا أن يظهر التخبط الإسرائيلي في صورة تصعيد غير محسوب ومجنون، يصل إلى حد التفكير باستهداف العاصمة الدوحة ذاتها، في خطوة يمكن وصفها بالمغامرة الجنونية التي تهدد الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط الملتهب. فهذا التخبط يعكس في جوهره حالة الانكسار الداخلي التي يعيشها الكيان ودليلا على انهيار الدعاية الإسرائيلية، فالكيان اليوم يواجه مأزقًا متعدد الأبعاد كالجبهة الداخلية المأزومة بالانقسام السياسي والاحتجاجات، والجبهة العسكرية المتخبطة التي تستنزفها حرب غزة، والجبهة الخارجية التي تتمثل في فقدان ثقة حلفاء غربيين بدعوتها في حربها وسقوطها من أعين الرأي العام العالمي، لذلك أتمنى كمواطن خليجي وعربي أمام هذا التصعيد، أن لا تكتفي قطر ببيانات الإدانة، بل إن الأمر يستدعي تحركًا أكثر شمولية بالمشاركة مع دول الخليج التي صرحت مباشرة عن دعمها لقطر في أزمتها لأن استهداف الدوحة لا يعد اعتداءً على قطر وحدها، بل هو اعتداء على الشرعية الخليجية والعربية والدولية، على دور وفكرة الوسيط، وعلى فكرة الحياد الدبلوماسي في إدارة العلاقات بين الدول، وأن تتم المطالبة بتحقيق دولي يكشف حقيقة النوايا الإسرائيلية الجنونية، ويعرّي الكيان أمام العالم كقوة خارجة عن القانون، لا تتورع عن المساس بدولة ذات سيادة مثل قطر من أجل إجهاض أي وساطة تعطي العرب والفلسطينيين صوتًا في المحافل الدولية.

597

| 10 سبتمبر 2025

عندما تكون قهوة المدير أغلى من راتب الموظف!

«قهوة المدير أغلى من راتب الموظف!». هذه ليست مجرد عبارة ساخرة، بل هي كناية مجازية عن صورة مكثفة تختزل واقعًا إداريًا مشوَّهًا، حيث تتحول المناصب إلى امتيازات يسيل لها اللعاب، ويتحول الموظفون إلى متسابقين على مقاعد السلطة لا على أداء الواجب واستدامة المؤسسات، فحين تكون تكلفة «كوب القهوة» الذي يتلذذ به المدير أعلى من عائد جهد موظفٍ كامل الشهر، فنحن أمام أزمة قيم قبل أن تكون أزمة موارد. ولقد أشرت في العديد من الدورات التي قدمتها، سواء في قطر أو الكويت أو غيرها في المؤسسات الحكومية، إلى هذه المعضلة التي تنهش جسد الإدارة العربية، وهي «فصل المنصب عن مغارمه، وربطه فقط بمغانمه»، فالمنصب، في الأصل، تكليف قبل أن يكون تشريفًا، ومسؤولية تُثقل الكاهل أكثر مما تُرضي الشهوات، غير أنّ ثقافة “المغانم” جعلت الكثيرين يتطلعون إلى الكرسي لا باعتباره أداة لخدمة الناس، بل وجدوا فيه بوابة للوجاهة الاجتماعية، والوجبات الفاخرة، ورحلات السفر، و»قهوة المدير» التي تُدفع من جيوب المؤسسة. والموظفون بدورهم، حين يرون هذا المشهد يوميًا، تبدأ دوافعهم تنحرف، فلم يعد السؤال: كيف أطور مهاراتي لأخدم مؤسستي وأصنع فارقًا في تاريخها؟ بل أصبح: كيف أصل إلى المكتب الكبير وأجلس على ذلك الكرسي الدوّار المنعم؟، وهنا تُصاب المؤسسة بالشلل، لأن الطاقة البشرية المبدعة لا تُستنزف في التفكير في تنوع إنتاج الخدمات بل في سباق داخلي على المناصب. فالإدارة الحقيقية لا تُقاس بعدد المزايا التي يحصدها المدير، بل بعدد التضحيات التي يقدمها المدير، فالذي يفكر أولاً في مميزاته ومكاسبه وقهوته قبل راتب موظفيه ومصالحهم ومصالح العمل قد يربح هيبةً مؤقتة، لكنه يخسر ولاء المؤسسة بأكملها، بينما المدير الذي يعي أن مسؤوليته أثقل من كل مغنم، يدرك أن قهوته الحقيقية هي في إنجاز فريقه، ونجاح موظفيه، ونمو مؤسسته. يا أصدقائي إن المؤسسات التي تبني قيادتها على الوعي بالمسؤولية، لا على شهوة المغانم، هي وحدها القادرة على البقاء والتطور، أما المؤسسات التي يغدو فيها «كوب القهوة» رمزًا للفجوة بين القيادة والقاعدة، فهي مرشحة للسقوط ولو بعد حين. المناصب ليست حلاوة نتذوقها ثم نترك مرارتها للآخرين يتعذبون بقراراتنا الخاطئة، إنما المناصب عبء يتطلب وعيًا، ومسؤوليةً، وتضحية، وحين يدرك الموظفون ذلك، لن يكون همهم الوصول إلى الكرسي، بل إلى الإنجاز.

537

| 03 سبتمبر 2025

هشاشة النظام العالمي في غزة

كم أصبح العالم اليوم هشّاً كما لم يكن من قبل، وهذا ملاحظ للجميع، فالمنظومة الدولية التي شُيّدت على شعارات العدالة وحقوق الإنسان، لا تلبث أن تتهاوى عند أول اختبار حقيقي أمامها، ابتداءَ من تغير المناخ الذي يهدد مصائر الأجيال، إلى الحروب والنزاعات المسلحة التي تفتك بالأوطان والبشر، ومن أزمة الغذاء التي تعصف بالملايين، إلى موجات النزوح التي تحوّل البشر إلى ضحايا في تقارير المنظمات الإنسانية، وعند ذلك تتكشف لنا صورة قاتمة للعالم الذي يفتقد أبسط مقومات التعاون الفعّال. لكن ومع ذلك، تبقى الأحداث الأخيرة التي حصلت في غزة نموذجاً أكثر وضوحاً لهذه الهشاشة التي يعاني منها المجتمع الدولي، فكانت قطعة ضيقة من الأرض، كشفت بالفعل عجز العالم بأسره وتفضح خواء النظام الدولي. غزة ليست قضية محلية تخص الفلسطينيين وحدهم، بل هي مرآة تعكس عمق الاختلال والهشاشة في النظام العالمي، فمنذ سنوات طويلة يعيش أهلها بين حصار خانق وحروب متكررة وما يحصل الآن بعد السابع من أكتوبر إلى هذه اللحظة، نجد أن القوى الكبرى تقف بين صمت مشبوه أو عجز متعمد عن صياغة حل عادل ومباشر، أو لعلها لا ترغب أصلاً في ذلك. فازدواجية المعايير هنا تفضح كل الادعاءات التي يروج لها المجتمع الدولي، فكيف يُحتفى بحقوق الإنسان في مكان، بينما تُسحق في غزة تحت صمت دولي مريب؟، أليس هذا دليلا واضحا على أن النظام الدولي لا يقوم إلا على موازين القوة ويتجاهل تماما موازين القيم؟. وهشاشة النظام العالمي لا تنحصر في غزة وحدها، فهي جزء من مشهد أكبر وأكثر قتامة، فهناك حرب مدمرة في السودان، وجوع ينهش سوريا، وصراع لا ينتهي في اليمن، وتوترات أخرى تهدد أمن المنطقة والعالم بأسره، وكلها ملفات متشابكة تفضي إلى نتيجة واحدة وهي أن غياب دور النظام العالمي لم يعد مجرد خلل سياسي، بل أصبح خطراً وجودياً يهدد حاضر الإنسانية ومستقبلها. فالدرس الأعمق هو أن النظام العالمي الذي يتغاضى عن جرح غزة لن يستمر طويلا في هيمنته، فالتواطؤ على الظلم لا يقتل المظلوم وحده، بل يدمر الفاعل ويزرع بذور الفوضى التي ستعود على الجميع، وإن غزة اليوم ليست مجرد ساحة حرب فحسب، بل كارثة تعطي سؤالا واحدا مفتوحا للضمير العالمي وهو، هل سيبقى دور النظام العالمي مجرد مؤتمرات وبيانات مكرورة، أم يتحول إلى فعل حقيقي يعيد الكرامة للمقهورين ويوقف نزيف الدم؟ أعتقد أن الأمر بحاجة إلى أعجوبة دهرية تسقط النظام العالمي الحالي وتسعى لخلق نظام عالمي جديد يؤمن بضرورة الحفاظ على المكتسبات البشرية بشكل عام ويحرص على توازن القوى وأن تعود القيم الإنسانية لتكون موجهة للإنسان في وجوده على الأرض.

219

| 27 أغسطس 2025

احذر... «وهم الحقيقة والطمأنينة المزيفة»

يقال إن الجهل في معناه البسيط هو فراغٌ كبير في الروح والعقل والنفس، ويمكن ملؤه بالمعرفة، أما «وهم الحقيقة» والذي يسمى أحياناً بـ «الجهل المركب» فهو امتلاء زائف وكاذب، كجدار سميك من القناعات والاعتقادات المضللة التي تمنع وصول ضوء الفهم إلى العقول والبصيرة، فالجاهل البسيط قد يتعلم متى ما أتيح له العلم، أما من يظن نفسه عالِمًا وهو غارق في الوهم، فإنه يغلق على نفسه باب الوصول إلى المعرفة بإحكام، ويصبح الدفاع عن خطئه ووهمه جزءًا من هويته وذاته. فتخيل رجلًا يسير في صحراء شاسعة واسعة موحشة، وهو يظن أن الطريق الذي يسلكه يقوده إلى الواحة، بينما هو في الحقيقة يتجه إلى هاوية سحيقة مهلكة له، فهذا الرجل بقناعته بنفسه قد لا يبحث عن علامات تدله على الطريق الصحيح، لأنه مقتنع تمامًا أن مساره هو الصواب ولا يعيد التساؤل عن مدى صحة قراراته، وأما الذي لا يعرف وجهته أصلًا، فربما يتوقف، ثم يسأل، أو يتأمل النجوم ليهتدي بها، وهنا تكمن خطورة وهم الحقيقة.. أن هذا الوهم يمنحك طمأنينة مزيفة، ويجعل الخطأ يبدو يقينًا. وإذا تساءلنا عن كيفية زراعة هذا الوهم، وهم الحقيقة، فإنه يتغذى من مصادر متعددة: كالإعلام الموجَّه، والخطابات الشعبوية، وخداع النخبة الحاكمة أو السياسية أو استخدام الديماغوجيا، أو إيهام الآخرين بالتجارب الشخصية المحدودة غير المفسرة وغير الثابتة بالنتائج، بل وحتى من غرور الإنسان وكبريائه الذي يرفض الاعتراف بجهله، فالعقل البشري يميل إلى الراحة في التصديق أكثر من المشقة في الشك والتحقق، ولهذا، قد يرفض المرء الحقائق الدامغة إذا تعارضت مع ما يظنه “حقيقته” الخاصة أو ما يحب فعلاً أن يعتقده. وإذا نظرنا إلى التاريخ فسوف نجده مليئاً بأمثلة الشعوب والقادة الذين قد حُجب عنهم النور بوهم الحقيقة، فكم من أمة ظنت أن قوتها لا تُقهر فسقطت، وكم من حاكم ظن أنه على صواب مطلق فقاد بلاده بقراراته إلى الهلاك، فهذا الوهم يجعل الإنسان يتجاهل المؤشرات والتحذيرات، لأنه يراها إما مبالغات أو مؤامرات، بينما هي في الواقع إشارات نجاة ولكنه لم يتوقف عندها. وإن كسر ما يسمى بـ «وهم الحقيقة» يحتاج إلى شجاعة مضاعفة، شجاعة الاعتراف بالخطأ، وشجاعة مواجهة الذات، وشجاعة تقبل لحقيقة قد تكون مؤلمة أو غير محببة أو مخالفة لما اعتدناه وتوقعناه، وهذه الشجاعة لا يستطيعها إلاّ شجعان الروح والرأي وهي السبيل الوحيد لعبور المسافة بين الوهم والفهم. وفي النهاية، يمكن القول إن الجهل المبسط مساحة بيضاء تنتظر أن تُكتب ولا يضرها ذلك، لأن الإنسان لا يولد عالماً بل جاهلاً يحتاج إلى تعلم وكذلك كان الإنسان الأول الذي خلقه الله تعالى، أما وهم الحقيقة فهو نصّ مزيف مكتوب بحبر مخادع على ورق مرقع، كلما حاولت أن تضيف إليه الحقيقة، مزّقته كبرياء ضعاف العقول.

225

| 20 أغسطس 2025

الكيان الذي يخشى الكاميرا.. ليس دولة بل عصابة

الشهيد الصحفي أنس الشريف لم يكن يحمل في يده سلاحًا سوى الكاميرا والتوثيق، لكن رصاص الاحتلال الصهيوني استهدفه بدم بارد، في جريمة تكشف وحشية منظومة شريرة لا تحتمل وجود شاهد على جرائمها اللاإنسانية، فاغتياله لم يكن استهدافًا لشخصه فحسب، بل محاولة لاغتيال الحقيقة التي كان يوثقها بعدسته. إن الكيان الذي يخشى الكلمة الحرة ليس نظام حكم ولا يمكن أن يكون دولة قائمة، بل هو عصابة تتخفى خلف شعارات السلطة والدولة، فالدول الحقيقية تواجه النقد بالحوار، وترد على التحقيقات بالشفافية، أما الأنظمة البلطجية العصاباتية الهشة كالكيان الصهيوني، تختبئ خلف الرصاص، وتستهدف الصحفيين حتى تُخفي فسادها وفشلها. فاستهداف الصحفيين يعني أن هذا الكيان وصل إلى مرحلة الإفلاس الحضاري، فعلاً فهو عاجز عن إقناع شعبه أو الأمم الأخرى والرأي العالمي بما يفعله في غزة، فيلجأ إلى أقذر الوسائل مثل إسكات الشهود على الجريمة بقتلهم واغتيالهم، وهذا السلوك المشين في ميزان القانون الدولي والأعراف السياسية، يضعه في خانة العصابات المنظمة، لا في خانة الدول المسؤولة. فحين يسقط الصحفيون برصاص الكيان المغتصب، يسقط معهم جزء من صورة الدولة أمام العالم، فالاغتيال لا يقتل إنسانًا فحسب، بل يهدم ثقة الرأي العالمي بالكيان، ويكشف للمجتمع الدولي أن هذا الكيان الصهيوني لا يملك ما يدافع عنه، رواية ساقطة مغلفة بالقوة الجبرية وتدعمها بالخوف. والأنظمة التي ترتكب هذه الجرائم تظن أن قتل الصحفيين ينهي القصة، لكنها لا تدرك أن كل رصاصة تطلق على قلم حر وصحفي حر، تكتب فصلًا جديدًا في سجل إدانتها وجريمتها التاريخية، وهي بذلك تفقد كل شرعية أخلاقية أو سياسية، وتتحول كما هي منذ نشأتها إلى كيان مغتصب خارج عن القانون الدولي. ونأتي الآن للمجتمع الدولي، إذا أراد فعلاً أن يحمي حرية الصحافة وحق الشعوب في المعرفة، عليه أن يتعامل مع هذه الأنظمة كما يتعامل مع العصابات العابرة للحدود، بالعقوبات، بالملاحقات القضائية، وبحظر التعامل السياسي والاقتصادي معها حتى تلتزم بمعايير العدالة وحقوق الإنسان. فاغتيال الصحفيين بشكل عام ليس حادثًا محليًا معزولًا، بل هو تهديد للنظام العالمي المبني على حرية المعلومات وتبادل الأفكار، وكل طرف يشارك هذا الكيان في هذا الجرم، أو يتواطأ عليه بالصمت، يختار طوعًا أن يكون خارج منظومة الأخلاق الإنسانية، وداخل خانة العصابات الإرهابية ممن لا يستحقون الاحترام أو الاعتراف.

174

| 13 أغسطس 2025

كيف تُصنع الوساطة؟ قطر أنموذجًا

المتأمل في عالم السياسة وخصوصاً اختلاف تأثير الدول في صناعة القرار أو التأثير في صناعته، يجد أنه لا يُقاس التأثير بحجم الدولة الجغرافي أو عدد سكانها، بل بقدرتها على إدارة التحالفات المعقّدة والمتناقضة وبناء جسور الوساطة بين الأطراف «صناعة الحكيم»، والتعامل الذكي مع حدة وتنازع الأطراف المتناقضة وخلق دور «وسيط حيوي مؤثر» وسط القوى المتناحرة الدولية، فالدول التي تُجيد فن «إدارة دفة العلاقات الدولية» تستطيع أن تحجز لنفسها مكانًا مركزيًا في المشهد، حتى إن كانت صغيرة المساحة من حيث الجغرافيا أو حديثة التجربة في الميدان العالمي السياسي، وتجربة قطر المعاصرة تُقدَّم اليوم كنموذج إداري نادر لدولة صغيرة في جغرافيتها لكن مع حضور إقليمي متجاوز لحجمها الجغرافي الظاهري صنعت منها «وسيطاً حيوياً». وعندما ننظر إلى ما قاله علماء السياسة ومتداخلا مع نظرة علماء الإدارة العامة والعلاقات العامة، نجد أن أولى ركائز هذا النموذج القطري في صناعة الوساطة هي «القيادة الادهوقراطية» وبناء القرار السريع، حيث تبنّت الدولة عقلياً ما يُشبه «الهيكل المسطح» في علم الإدارة، أي تقليل التدرج البيروقراطي، مما يسمح بسرعة اتخاذ القرار في القضايا الحساسة دون عرقلة المستويات الإدارية، فوجود فريق تفاوضي مرن ورشيق الحركة، يُمكّن قطر من التحرك السريع في لحظات حرجة، بعكس دول كبيرة تعاني من تعقيد هياكلها السياسية وترهل نظامها الإداري مما يسهل أحيانا إيجاد صراعات داخلية أو تدخل لقوى خارجية تفسد العلاقات في المنظومة الداخلية فيفسد القرار المستخرج. وأما الركيزة الثانية هي ما يُعرف بـ «الذكاء الشبكي العلاقاتي»، أي القدرة على بناء علاقات متعددة الاتجاهات دون الوقوع في التناقض أو العداء مع طرف من الأطراف، فنجد قطر تُجالس الولايات المتحدة وإيران، وتدير اتصالات مع الكيان ولا تقطع حبل الوصل مع حماس، وتحتضن طالبان دون أن تخاصم الغرب، وكل ذلك ينبع من قدرة دقيقة على إدارة المخاطر العلاقاتية السياسية، وبناء الثقة الإقليمية بحرفية. وأما الركيزة الثالثة، فهي التموضع الاستراتيجي القائم على فكرة «التأثير من دون امتلاك»، بمعنى أن قطر لا تحاول السيطرة على خصوصيات الأطراف المتنازعة، بل تعرض نفسها كوسيط موثوق يساعد في حلحلة المعضلات السياسية، فهي لا تفرض رأيًا وتجبرهم عليه، بل تُدير المشهد بهدوء، مثل شركات القطاع الخاص التي لا تملك السوق بالضرورة لكنها تؤثر في مساراته وتوجهاته وقراراته. كما أحسنت قطر استثمار ثروتها في بناء «السمعة المؤسسية» عن طريق بناء نموذج وسيط يقوم على الثقة، والحياد، وسرعة الاستجابة، فهذه السمعة أصبحت مفتاحًا لدخولها كوسيط في أزمات في الجغرافية العالمية ككل. وأخيرًا، نقول لمن أراد أن يبني لدولته مركزًا مؤثرًا في صناعة القرار العالمي، فليتأمل جيدا أن التأثير لا يُشترط له اتساع الجغرافيا، بل وضوح الرؤية وذكاء الإدارة. فهناك أربعة عناصر أساسية لا غنى عنها لأي مؤسسة أو دولة، هيكل إداري ذكي ورشيق لا يعوق من يملك سرعة القرار ومحمي من تدخلات الخارج، وإدارة فعالة للتنوّع في العلاقات وإيجاد طرق للتأثير عليها، وبناء السمعة الراسخة فهي رأس مال لا يقدَّر بثمن، والاهتمام بالتخطيط الاستراتيجي الهادئ الذي هو البوصلة وسط صخب العالم بصراعاته ولا يكون ذلك إلا بتعيينات قائمة على الكفاءات لا الولاءات، فهذه وصفة عملية أثبتت نجاحها، وتستحق أن تُدرّس لكل من يسعى لحضور فاعل وسط الكبار، بعقل كبير.

423

| 06 أغسطس 2025

إذا تحرّكت القاهرة.. تنفّست غزة

منذ أن تأسست الأمة والدولة الإسلامية وظهورها على مسرح التاريخ العالمي، كانت مصر قلبها النابض، وسورها المتين، وبوابتها الشرقية إلى بيت المقدس وفلسطين التي كانت قديما وحديثا مراد القوى العالمية العظمى من الروم وانتهاء بالصهاينة المدعومين من القوى البريطانية والامريكية، ومن عبور الصحابي عمرو بن العاص الفاتح للديار المصرية ونشر الاسلام والعروبة وتحرير المصريين من الاستبداد الروماني الغربي، إلى رسوخ الأزهر الشريف كمنارة تهدي العقول والقلوب المحبة للعلوم والفكر والتطور، وانتهاء بدور مصر والمصريين في فتح بيت المقدس وتحرير غزة وعسقلان من براثن القوى الاوروبية الغربية الصليبية، لذلك فقد كانت مصر الحاضن الطبيعي لغزة، والحامي الغريزي للأقصى، ولا تمر أزمة في الشام، إلا ويهتز لها نهر النيل، ولا تُغلق أبواب النصر للأمة إلا حين تغيب القاهرة عن الواجهة. ولأن غزة اليوم جريحة، ومكلومة، محاصرة بالجوع والنار، فإن البوابة الوحيدة التي يمكن أن يمرّ منها خلاصها، هي البوابة المصرية. لا لأن غيرها لا يريد، بل لأن التاريخ والجغرافيا والدور لا يتجسد إلا فيها، ومهما تعقّدت المعادلات، فإن حلّها يبدأ من القاهرة، لا من العواصم البعيدة، وهنا تتجلّى عدة أسباب تجعل من مصر رأس الحربة، لا مجرد وسيط إن أرادت لغزة حلا ومن تلك الأسباب كما يذكر أرباب التحليل السياسي: أن حدود غزة لا تفتح إلا بمعبر رفح، الذي بيد مصر، فقطاع غزة لا يملك منفذًا بريًا مفتوحًا إلى العالم سوى معبر رفح الواقع على الحدود مع مصر، وبما أن المعبر تحت السيادة المصرية، فإن قرار فتحه أو إغلاقه يمنح مصر دورًا حاسمًا في تخفيف الحصار أو تشديده، وأيضا أن القاهرة تمسك بخيوط التواصل مع حماس والسلطة، ولعلها مع دولة قطر قادرتان على القيام بدور الوسيط لحلحلة الأمور، وأيضا تملك مصر علاقة فريدة بإسرائيل، تخولها ممارسة ضغط ذكي بعيدًا عن الصخب الإعلامي، فبحكم اتفاقية السلام والمصالح المتبادلة، تستطيع مصر التأثير على إسرائيل بوسائل دبلوماسية وأمنية هادئة وفعالة، دون اللجوء إلى التصعيد العلني، هذا يمنحها ميزة في تحقيق نتائج حقيقية لصالح الفلسطينيين دون أن تُستفز الحسابات الإسرائيلية المتوحشة، وكذلك الوجود المباشر للمخابرات العامة المصرية في الملف الفلسطيني، ومتابعتها الدقيقة لتطورات غزة، يمنحها قدرة استباقية على احتواء التوترات والتفاوض بسرعة مع كل الأطراف قبل تفجّر الأوضاع، وأيضا تملك القاهرة إدارة ملف المساعدات والمعابر بواقعية مباشرة وغير ذلك من الأسباب. فمن هنا، فإن الأمانة اليوم عظيمة. لم يعد الأمر مجرد وساطة سياسية، ولا مجرد معبر مغلق أو مفتوح، بل هو اختبار لمركزية مصر في وعي الأمة وذاكرتها.

465

| 30 يوليو 2025

alsharq
جريمة صامتة.. الاتّجار بالمعرفة

نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما...

6429

| 27 أكتوبر 2025

alsharq
من يُعلن حالة الطوارئ المجتمعية؟

في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم،...

6390

| 24 أكتوبر 2025

alsharq
النعش قبل الخبز

لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...

3840

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
غياب الروح القتالية

تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع...

2955

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
نموذج قطر في مكافحة المنشطات

يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...

2859

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
النظام المروري.. قوانين متقدمة وتحديات قائمة

القضية ليست مجرد غرامات رادعة، بل وعيٌ يُبنى،...

1854

| 23 أكتوبر 2025

alsharq
الدوحة عاصمة لا غنى عنها عند قادة العالم وصُناع القرار

جاء لقاء حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن...

1650

| 26 أكتوبر 2025

alsharq
أين ربات البيوت القطريات من القانون؟

واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...

1575

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
مستقبل الاتصال ينطلق من قطر

فيما يبحث قطاع التكنولوجيا العالمي عن أسواق جديدة...

996

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
كريمٌ يُميت السر.. فيُحيي المروءة

في زمنٍ تاهت فيه الحدود بين ما يُقال...

993

| 24 أكتوبر 2025

alsharq
وجهان للحيرة والتردد

1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...

987

| 21 أكتوبر 2025

alsharq
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح

النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز...

987

| 24 أكتوبر 2025

أخبار محلية