رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لو أن هناك رجلا وُلد على صهوة الخيل، ونشأ في ساحة الحرب، لكان ذلك الرجل هو خالد بن الوليد ، إنه الرجل الذي شهد زُهاء مائة زحف في جاهليته وإسلامه، كما قال هو نفسُه، كان يخوضها بقوته وإقدامه، ويخوضها أيضا بدهائه وحيلته، فقد أوتي رأيا سديدا، وفكرا ثاقبا، نتيجة عقله الحكيم المدبِّر الذي يحسن سياسة الحروب، ويجيد قيادة الجيوش، كان رجلا منذ عنفوان شبابه، وريعان أيامه، لا يعرف الراحة، ولا يحب لها طعما ولا يطيق لها وجها، بل كان يجد راحة نفسه في ميادين المصاولة، وساحات المبارزة، فهو جسور مقدام لا يهاب شيئا حتى الموت، فكيف يهاب شيئا دونه، وهو هادم كل شيء، حتى كأن قلبَ خالد قد قتل معنى الخوف فيه، ولم يعد يستطيب إلا تجشم المشاق، واقتحام الصعاب، وهو صاحب هذا القول المشهور الذي صار مثلا مأثورا أُخذ عنه: عند الصباح، يَحْمَدُ القومُ السُّرى.
كان قبل إسلامه يقاتل مع قومه قريش ضد المسلمين قتالا شديدا، دفاعا عما نشأ عليه من معتقدات موروثة باطلة، تشبث بها الآباء أخذا عن آبائهم الأولين، والتزموها اتباعا لهم على آثارهم، ومحاكاة لأفعالهم، وإن رأوا فيها خطأ ودَخَلا، وظنوا بطلانها، وأنها مجافية عن الحق، لا تغني عنهم شيئا، ولا تؤتي لهم نفعا، إلا أن الحرص عليها آتٍ من كونها مواريث ماضي الأجداد القديم التليد، وهم بأسلافهم يقتدون. ولكن رجلا كخالد بن الوليد له عقل وبصيرة لا بد له في يوم من أن ينظر الحق، ويتبين الصواب، فيهتدي من ثم إلى جادة الطريق، وإن امتد الزمن وطال، فإن ذا البصر، لا يعمى عن النور، ولو تغشاه الظلام، وذا البصيرة لا يخفى عنه الحق، ولو خدعته الأيام.
قرر خالد بن الوليد، في ذات يوم الخروج من مكة إلى المدينة مهاجرا إلى رسول الله، عليه الصلاة والسلام، ليعلن إسلامه، وقبل خروجه لقي صاحبا أراد مثل ما يريد، وهو عثمان بن طلحة، فخرجا معا، وانطلقا سَحَرا، وفي أثناء سيرهما في الطريق، تقابلا مع عمرو بن العاص، الذي كان يريد الإسلام أيضا، والذهاب إلى المدينة، فاصطحبوا جميعا، حتى بلغوا غايتهم، في شهر صفر من السنة الثامنة للهجرة، وقصدوا رسول الله، الذي سُر لمقدمهم، وقال حينما رآهم: (إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها). واستقبلهم بوجهٍ طليق كما هي سنته المأثورة عنه، وأسلموا وشهدوا بالشهادتين، وفي ذلك الموقف أثنى النبي على خالد، فقال:(قد كنت أرى لك عقلا، رجوتُ ألا يسلمك إلا إلى الخير)، فقال خالد: يا رسول الله، استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صد عن سبيل الله. فقال رسول الله:(إن الإسلام يجبُّ ما قبله).
منذ ذلك اليوم الذي أسلم فيه خالد، تشوقت نفسه إلى الجهاد في سبيل الدين، من أجل الذود عنه، ورفع لوائه ونشره عاليا في أفق السماء، حيث اعتاد وتمرس، حيث صهيل الخيول، وصليل السيوف، تعترك في ظلام القَتام، هنالك في ميدانه المبرَّز فيه، ميدان ساحة الحرب، وسط طليعة الجند، واتفق في تلك السنة الثامنة، أن جهز رسول الله، جيشا بلغ عدده ثلاثة آلاف مقاتل، وأمرهم بالسير إلى (مؤتة)، من بلاد الشام، للقِصاص ممن قتلوا الحارث بن عمير رسوله إلى أمير بُصرى، وأمّر على هذا الجيش، زيد بن حارثة، وقال:(إن أصيب فالإمارة لجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فلعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتضِ المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم)، أما خالد بن الوليد، فقد كان في تلك المعركة جنديا في صفوف المقاتلين.
توجه المسلمون إلى حيث أمرهم رسول الله، فواجهتهم هناك جموع الروم المحتشدة في جيش عرمرم، زاد عدده عن مائتيْ ألف جندي، وتقابل الجمعان، ودار القتال، واحتدم النزال، ولنصغِ إلى رسول الله، الذي أخبر المسلمين في المدينة أنباء المعركة في مؤتة بوحي من السماء، فقال لهم:(أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد)، وذرفت عينا رسول الله بكاءً على أصحابه الشهداء، وسكت قليلا، ثم قال:(اللهم إنه سيف من سيوفك أنت تنصره). الله أكبر، أجل هذا هو لقب خالد بن الوليد، الذي اشتهر به، واقترن باسمه في دواوين التاريخ، حتى عُرف بسيف الله المسلول.
بعد استشهاد أولئك القادة الأمراء الثلاثة، اصطلح الجنود على خالد بن الوليد، وعقدوا لواء الجيش بيمينه، ولننظر كيف استطاع خالد بدهائه وعبقريته إنقاذ جيش المسلمين، والنجاة به من موت محتوم، ومصير مشؤوم، نتيجة الكثرة الهائلة لجيش الروم، إذ رأى خالد، أن الذي ينفعهم في مأزقهم هذا هو تدبير مكيدة وحيلة، تقومان مقام الإمداد والعتاد، وكذلك كانت الحرب منذ القِدم خُدعة، ولقد قيل: رب حيلة أنفع من قبيلة. فقام بتغيير نظام الجيش، فجعل المقدمة ساقة، والساقة مقدمة، وفعل مثل هذا التبديل بين الميمنة والميسرة، مما جعل العدو يعتقد أن المسلمين قد جاءهم مدد وغوث، ثم أمر خالد الجيش بالتراجع إلى الوراء رويدا رويدا، فأرهب ذلك الروم، إذ توهموا أن المسلمين يحاولون استدراجهم إلى الصحراء، إلى حيث يكمنون لهم في بقعتهم، التي يعرفونها جيدا. هنالك تزعزعت نفوسهم، ورجعوا القهقرى مخافة المغامرة، والانجرار إلى الخداع، ومن ثم السقوط في المكيدة، وبذلك تمكن خالد من أن يبقي على الجيش، ويفلت من هلاك محقق بهذا الانسحاب المخطط المدبر، الذي بدا كأنه ليس انسحاب المهزومين، ثم عاد الجيش إلى المدينة، وفي تلك المعركة دُقّ وتكسّر في يد خالد تسعة أسياف، ولم يبق في يده إلا صفيحة يمانية، ذلك هو فعل سيف الله في السيوف.
لم يهدأ خالد من بعدُ وما استقر سيفه في غمده، فبعد وفاة النبي، استمر في حماسته من أجل الإسلام، بل إنه ازداد حماسة وصرامة، في قتال المرتدين، ثم في قتال الفرس والروم، وكان لا يوجه ضربة لعدو إلا قصمه، ولا يدخل حربا إلا أيده الله بنصره، فكان ذلك مدعاة لافتتان الناس بشخصه، وذهابهم فيه كل مذهب، حتى ظنوا أن النصر يأتي من عنده لا من عند الله سبحانه، وأن في يده سيفا لا كسائر السيوف، بل سيف أُنزل عليه من السماء. في عهد خليفة رسول الله، أبي بكر الصديق، أرسله لمقاتلة الروم، وأمّره على جيش عظيم، حارب في واقعة اليرموك العظيمة، التي حدثت فيها أورع البطولات، وأعظم التضحيات، وفيها وقع هذا الحادث لخالد بن الوليد، الذي امتحن فيه أيَّ امتحان، فتصدى له بأبدع مثال.
بينما كان خالد يدير رحى القتال، ويصدر أوامره للجيش، في أيام القتال الشديدة الضارية، على أرض اليرموك، إذ فوجئ بكتاب قادم من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فيه نَعْي خليفة رسول الله، وفيه أمر بتنحية خالد بن الوليد، عن إمرة الجيش، وتقليد أبي عبيدة بن الجراح، قيادة الجيش، يا له من نبأ عظيم! فما كان من خالد إلا أن استجاب لهذا الأمر، وانقاد له وأطاع، وتقبله بصدر رحيب، وخلق متين، ولم تفتر همته، ولم تتغير نفسه، وما خمدت جذوة إخلاصه لأمته وأميره، فهو لا يعنيه أن يكون قائدا، أو جنديا في صفوف المسلمين، ما دام يقاتل في سبيل دين، فكلٌّ في ذلك سواء.
كان ذلك الأمر من عمر بن الخطاب، صدّا للناس، وحجزا عن مبالغتهم وغلوهم في مآثر خالد ومناقبه، المفتونين بها. ولكن... ولكن لله درك يا خالد.
أما آن لهذا الفارس الهُمام المقدام أن يستريح بعد إتعاب الأعداء، وإرهاق الخصوم؟ بلى. لقد كان خالد بن الوليد، يمنّي نفسه بنيل الشهادة في الموطن الذي خُلق له، وعاش فيه جلَّ حياته، في ساحة الحرب، إلا أن المقادير شاءت أن ينال الشهادة لا قتلا في الميدان، بل موتا على الفراش، وأن يَقْضي شهيدا، وإن لم يقتل، ألم يأتِ في الحديث:(من سأل الله الشهادة بحق، بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)، غير أن خالداً توجع وتحسر على عدم موته مقاتلا والسيف في يده، وقال قولته الشهيرة الموجِعة المبكية، عند دنو أجله:(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة رمح، أو رمية سهم، ثم هأنذا أموت على فراشي حَتْف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء).
فلا نامت أعين الجبناء يا خالد، فلا نامت أعين الجبناء، ولو شئتُ لرددتها مرات ومرات، ولكن نمْ يا خالد هانئا مطمئنا، قرير العين، ولينم كذلك أمثالك من الرجال المخلصين الكرماء، في عالم الخلود، وجنان الفردوس، بإذن الله الكريم.
عجزت النساء أن يلدن مثل خالد
هكذا أُغمد سيف الله في الثرى، ولو كان للأرض قلب وضمير، ما رضيت إلا أن يكون مسلولاً منشورا، تباهى به كواكب السماء ونجومها، ذلك خالد بن الوليد، رضي الله عنه، الذي قال في نعيه عمر بن الخطاب:(عجزت النساء أن يلدن مثل خالد).
بين العلم والضمير
عندما تحول العلم من وسيلة لخدمة البشرية إلى ماردٍ مارقٍ متفلّت يسير بمنطقه الخاص دون الالتفات إلى الإنسان... اقرأ المزيد
252
| 26 أكتوبر 2025
ترامب يستجيب لأمير قطر والقادة العرب ويعارض ضم الضفة
طالبت في مقال الأسبوع الماضي» تحديات وعقبات أمام نجاح اتفاقية وقف حرب إسرائيل على غزة»- الحاجة لتقديم ضمانات... اقرأ المزيد
300
| 26 أكتوبر 2025
ماذا استفادت القضية الفلسطينية بعد حرب غزة؟
شهدت القضية الفلسطينية واحدة من أكثر اللحظات دراماتيكية في تاريخها الحديث، حين اندلعت مواجهة غير مسبوقة بين فصائل... اقرأ المزيد
123
| 26 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6315
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3801
| 21 أكتوبر 2025