رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

م. حسن الراشد

مساحة إعلانية

مقالات

981

م. حسن الراشد

فاتورة الهواء التي أسقطت «أبو العبد» أرضًا

27 أكتوبر 2025 , 12:00ص

“أبو العبد” زلمة عصامي ربّى أبناءه الاثني عشر بعرق جبينه، فيما تدير “أم العبد” شؤون البيت بحكمة وصبر الجبال، متحمّلةً غيرة الضراير وزيجات “أبو العبد” الثلاث: أم الياسين، وأم جمال، وأم عزّام.

عاد “أبو العبد” في ذلك المساء مُنهكًا، وعلى وجهه تُقرأ فصولُ كفاحٍ الزمن وأهواله.

تناول غداءه البسيط: “فتات الخبز البلدي المغموس بزيت الزيتون النابلسي والزعتر الجبلي، وبجانبه بعض حبات البندورة”.

ثم جلس ليستريح على كرسيه الخشبي القديم، وفي يده ظرفٌ بنّي اللون يحمل شعار وزارة الكهرباء والماء، كُتب عليه بخطٍ عريض: «رضا المواطنين هدفنا وغايتنا».

ما أن فتح الظرف حتى ارتعشت يداه وصاح بقوة:

“يا الله يا لطيف! مستحيل هالكلام ! شو هالمسخرة؟ شو هالمهزلة؟ شو هالتخبيص يا عالم؟!… الله لا يوفّقكم لا دنيا ولا آخرة!”.

زمجر غاضبًا وهو يلوّح بالفاتورة الماء العالية التي أفقدته صوابه.

أسرعت أم العبد تحمل دفتر المصاريف الشهري وبدأت تحسب بعينٍ قلقة:

“مصروف الأولاد والمدرسة… وثمن كيس الطحين… وسعر المازوت… والأدوية…”

ثم صاحت: “شو هالعبط….! الله لا يوفقهم يا أبو العبد! ما يخافوا الله!”.

وبينما هو غارق في همّه، وأم العبد تلطم خدّيها، فتح مذياعه القديم، يرتشف من “الهيشة” ويتنهّد كمن يحمل همّ الدنيا.

وفجأة، انطلق نداءٌ عاجل من مسؤول الكهرباء والماء عبر الإذاعة:

“نعتذر للمواطن أبو العبد، لقد حصل خطأ غير مقصود… تم احتساب كمية الهواء مع الماء في عدّاد أبو العبد للمياه.”

“شووووو..الله لا يبارك فيكم ولا في عداداتكم! حتى الهواء اللي بنتنفسه صار عليه فاتورة؟… يعني الأوكسجين صار عليه ضريبة يا “ ام العبد “…؟!”

شعر بدوارٍ شديد، حاول التمسّك بالكرسي فلم يستطع، فسقط على الأرض مغشيًا عليه.

هرعت أم العبد تصرخ: “النجدة! النجدة، أبو العبد مات!”.

تجمّع الجيران وأطفال الحارة، وأُرسلت سيارة الإسعاف التي نقلته إلى المستشفى، وأم العبد خلفه تبكي وهي تردد:

“فاتورة هوا يا ناس ! فاتورة الهوا يا عالم!

في المستشفى، وبينما الأطباء يحاولون إنعاشه، بعد ساعاتٍ طويلة، أفاق أبو العبد، نظر حوله بنظرة حزينة، ثم همس ورفع يديه إلى السماء قائلاً:

“حسبنا الله ونعم الوكيل… ما بيخافوا الله في الفقراء.”

لقد كانت حادثة “أبو العبد” صرخةً مدوّية، وسؤالاً مؤلمًا يراودني:

كم من “أبي العبد” سقط ضحية خطأٍ أو إهمال مسؤول؟

وكم من أسرةٍ بسيطةٍ انقلبت حياتها رأسًا على عقب بسبب خطأٍ عابر، مقصودًا كان أم غير مقصود؛ ناتجٍ عن عطلٍ في جهاز، أو خللٍ في “النظام” (السيستم)، أو حتى ورقةٍ بيضاء تحمل توقيع مسؤولٍ لم يُدرك تبعات قراره؟

بل الأدهى والأمر، كم من موظفٍ يدفع ثمن سوء اختيار المسؤول، أو ضعف كفاءته أومحدودية خبرتيه أو إمكانياته الإدارية والقيادية معًا!

ولعلّ ما يثير القلق أنّ القضايا الإدارية المتعلّقة بالنزاعات بين الموظفين وجهات عملهم تمثّل نحو ٤٠٪؜ من إجمالي القضايا التي تُرفع إلى مكاتب المحاماة، ما يعكس حجم الفجوة والخلل الإداري في الشركات والمؤسسات بين ربّ العمل والموظف الحلقة الأضعف.

فبيئات العمل الإدارية المرنة والناجحة لا تُقاس بشدّة أنظمتها، ولا بكثرة لوائحها وملفّاتها وأعداد موظفيها، بل بعدالةٍ وحزمٍ من يديرها، وحكمةٍ وحنكة من يقودها.

ومع ذلك، يجد الموظف البسيط نفسه في النهاية هو من يدفع ثمن أخطاءٍ لم يرتكبها.

وعندما تقع الأخطاء، يختفي السبب والمسبّب معًا خلف ستار “الإجراءات” و“النظام”( السيستم) و“اللوائح”، ليبقى الموظف في الواجهة يتحمّل اللوم وحده، بينما ينجو صاحب القرار إمّا ببقائه في منصبه، أو بخروجه منها بكامل مستحقاته المالية، في حين يدفع المتضرر الثمن باهظًا عن خطأٍ لا ناقة له فيه ولا جمل.

وفي نهاية المطاف، لم يكن “أبو العبد” ضحية فاتورةٍ خُلِط فيها الماء بالهواء، بل ضحية فاتورةٍ أكبر بكثير: فاتورة الإهمال الإداري، والتسرّع في إصدار القرارات دون دراسةٍ أو تأنٍّ، وتداخل المسؤوليات، وتشابك البيروقراطية التي لا تُرهِق الأفراد فحسب، بل تُفكّك الكيان الإداري نفسه مع مرور الوقت.

وهكذا تبقى العدالة والنزاهة والشفافية مجرّد بنودٍ في النظام الأساسي، وملفّاتٍ مُرتّبة بعنايةٍ على رفّ مكتب “المسؤول المحترم”، بينما يظل “الموظف” هو الحلقة الأضعف التي تدفع الثمن بصمت.

أخيرًا، مات “أبو العبد” قهرًا وصمت قلبه الموجع قبل أن يصمت لسانه، رحمة الله رحمةً واسعة، وعوّضه في الآخرة خيرًا من الدنيا وما فيها، وجزاه جزاء الصابرين والشهداء، وحَسُنَ أولئك رفيقًا.

اقرأ المزيد

alsharq مِن أدوات الصهيونية في هدم الأسرة

ما من ريبٍ أن الحلم الصهيوني لم يكن يوماً محصورًا في إقامة كيانٍ على بقعة من الأرض، بل... اقرأ المزيد

507

| 02 نوفمبر 2025

alsharq الإعلام والرأي العام.. وكسب العقول والقلوب!!

صادف أمس الذكرى 29 لانطلاق شبكة الجزيرة بقنواتها ومنابرها المتعددة في عصر الإعلام لتشكل رقما صعبا ومؤثراً بإحداث... اقرأ المزيد

174

| 02 نوفمبر 2025

alsharq الســـودان القضيــة التي ماتت

عام 2025 يوشك على الانتهاء بعد شهرين من الآن وأزمة السودان التي تفجرت منذ 15 أبريل 2023 تتفاقم... اقرأ المزيد

201

| 02 نوفمبر 2025

مساحة إعلانية