رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

وجيدة القحطاني

• ناشطة اجتماعية

مساحة إعلانية

مقالات

408

وجيدة القحطاني

فنّ العيش بسلام داخلي

05 أغسطس 2025 , 12:00ص

الحياة ليست مجرد أيام تمرّ، بل دروس تُعاش وتُستوعب. ومع مرور السنوات وتراكم التجارب، تكتشف المرأة أن أعظم المهارات التي يمكن أن تكتسبها ليست تلك التي تعلّمها كيف تربح أو تنجو أو تتفوق، بل كيف تهدأ، كيف تعيش بسلام داخلي، هذا السلام لا تمنحه الظروف، ولا تصنعه الأيدي، بل يُولد في أعماقنا، حين نكفّ عن الركض خلف ما لا نملك، ونتوقف عن تحميل أرواحنا ما لا طاقة لها به.

لقد أدركتُ، ربما بعد صدمات عديدة، أنني لستُ مطالبة بأن أُرهق نفسي في ملاحقة إجابات لا تأتي، ولا أن أعلّق سعادتي على مشاعر الآخرين المتقلّبة، مهما كانت العلاقة عميقة. فالنضج، كما أراه اليوم، لا يُقاس بقدرتي على الانتصار في جدال، أو التمسّك بمن قرّر الانسحاب، بل في هدوئي حين أصمت، وفي حكمتي حين أنسحب بلطف، وفي تصالحي مع نفسي دون أن أحتاج إلى شرح أو تبرير. لأنني ببساطة لستُ مطالبة بخوض كل معركة، ولا بالرد على كل تصرف.

من أكثر الأخطاء التي نقع فيها – نحن النساء خاصة – أن نربط طمأنينتنا بوجود أشخاص بعينهم في حياتنا. نُعلّق قلوبنا على حضورهم، ونستمدّ الشعور بالأمان من كلماتهم أو اهتمامهم. نبني وهمًا بأنهم الملاذ والملجأ، ثم نتفاجأ حين يخفت ذلك الحضور، أو ينقطع بلا مقدمات.

بمرور الوقت، تعلمتُ – وبألم لا أخفيه – أن الأمان الحقيقي لا تصنعه يد تمسك بي، بل تصنعه روحي حين أدرك أنني كافية لنفسي. أن سعادتي لا تُعطى، بل أخلقها بنفسي. وأن الطمأنينة الحقيقية تُبنى من الداخل، حين أتوقف عن طلب الاعتراف الخارجي لأثبت ذاتي، وأبدأ في حبّ نفسي، بصدق، دون انتظار لتصفيق أحد.

وقد صدق من قال: «من جعل سعادته بيد غيره، أعطاه الدنيا ثم انتزعها منه في لحظة» لأننا حين نُعلّق مصيرنا بمن حولنا، نصبح هشّات، عُرضة للانكسار عند أول خيبة، أو أول جفاء.

كم مرة ظننتُ أن من حولي ثابتون؟ كم من صديقة أحببتُها بصدق، فإذا بها تتغير بلا سبب واضح؟ وكم من علاقة بدت راسخة، ثم انكسرت في لحظة عابرة؟

المؤلم ليس فقط الفقد، بل الأسئلة التي تُرهقني بعده: لماذا؟ كيف؟ متى؟ وكأنني إذا عرفت السبب زال الألم. لكن الحقيقة أن بعض الأمور لا تُفهم، وبعض العلاقات لا تُشرح، وبعض الأشخاص لا يجب أن أركض خلفهم بحثًا عن مبرر الغياب.

السلام الحقيقي هو أن أملك شجاعة القبول. أن أقول لنفسي بثقة: «كفاني الله شرّ ما صادفني» أن أمضي دون ضجيج، وأن أدرك أن بعض الأشخاص لم يكونوا خطأً في حياتي، بل درسًا قاسيًا في التقدير الزائد. أن أتقبل أن الحياة بطبيعتها متغيرة، لا شيء يدوم فيها، وعليّ أن أُحصّن نفسي، لا أن أحاول منع التبدّل.

عندما يُغلق الله بابًا في وجهي، قد لا أجد تفسيرًا. لكنني مع الوقت أدركت أن بعض الأبواب لم تكن لي من الأساس. لم أعد أُكثر من السؤال كما كنت، بل أقول لنفسي بثقة: «لعل الله صرف عني شرًّا لم أكن أراه».

كم مرة تمنّيت شيئًا بكل جوارحي، ثم لم يُكتب لي؟ كم من فرصة سعيتُ إليها ثم ابتعدت عني؟ في البداية حزنتُ، ثم غضبت، ثم – مع الزمن – فهمت. ما حسبتُه خذلانًا، كان في جوهره رحمة خفية.

الرضا لا يعني الاستسلام، بل هو قمة النضج والثقة بأن ما كتبه الله لي، هو الخير، حتى وإن لم يُرضِ قلبي الآن. كما قال ابن عطاء الله السكندري: «ما حُرمتِ إلا ما لم يُقدّر لكِ، وما أُعطيتِ إلا ما قُدّر لكِ».

ختاما: كوني حديقتك الخاصة فالسلام الداخلي لا يُختزل في شخص أو علاقة أو وظيفة. هو قرار. قرار أتخذه كل يوم، بأن أختار نفسي، وأحبّها، وأحميها. أن أُحب بلا تملّك، وأعطي بلا انتظار، وأغادر دون مرارة. أن أفهم أن الحياة أقصر من أن أقضيها في إرضاء من لا يرون قيمتي، أو في شرح نفسي لمن لا يريد الفهم أصلًا.

كوني حديقتك الخاصة. ازرعي في داخلك بذور الرضا، واسقيها بالتوكل، وأحيطيها بسياج الصمت الناضج. حينها، لن يهمّ من بقي أو من رحل، لأن عبير سلامك سيبقى معكِ، يرافقكِ حيثما كنتِ.

«وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» فليكن الله كافيكِ، وليكن صمتكِ حصنكِ، ورضاكِ سلاحكِ، وحبكِ لذاتكِ أعظم سند في هذه الحياة المتقلبة.

 

مساحة إعلانية