رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

وجيدة القحطاني

• ناشطة اجتماعية

مساحة إعلانية

مقالات

408

وجيدة القحطاني

الأثر الطيب.. لغة بلا كلمات

16 أكتوبر 2025 , 05:56ص

في زمنٍ سريعٍ يركض بنا دون توقف، نعتقد أحيانًا أن ما نقوله أو نفعله يمرّ بلا أثر. غير أن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير؛ فالكلمة أو الموقف البسيط قد يتحولان إلى نقطة ضوء في قلب إنسان، يغيّران مساره ويمنحانه أملًا جديدًا. أثرٌ قد يبدو عابرًا في لحظته، لكنه يبقى محفورًا في الذاكرة والوجدان لسنوات طويلة.

الكلمات ليست أصواتًا عابرة، بل بذور تُزرع في القلوب. كلمة مثل «أؤمن بك» قد تمنح إنسانًا القدرة على النهوض من كبوته، وقد تفتح أمامه طريقًا لم يكن يراه. الكلمة الطيبة لا تحتاج إلى جهد، لكنها تصنع المعجزات. ولعلّ أجمل توصيف لذلك ما جاء في القرآن الكريم حين شبّهها الله بالشجرة الطيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، لا تنحني ولا تذبل، بل تبقى تمنح الحياة وتفيض بالخير.

حين يحرص الإنسان على ترك أثر طيب، فإنه في الحقيقة لا يغيّر حياة الآخرين فقط، بل يُعيد تشكيل حياته هو أيضًا. من يساعد غيره، يشعر برضا داخلي يجعله أكثر هدوءًا وثقةً بنفسه. الأثر الطيب يصبح مرآة ينعكس فيها الخير على صاحبها أولًا، فينمو بداخله الشعور بالقيمة والمعنى.

الإنسان الذي يتعمّد نشر الخير في محيطه يكتسب صفات جديدة بمرور الوقت: يصبح أكثر صبرًا، وأكثر تسامحًا، وأقرب إلى التواضع. فهو يدرك أن أفعاله مهما بدت صغيرة قد تغيّر مصائر، فيتعلّم أن يتحكم في غضبه، ويزن كلماته، ويختار أفعاله بوعي أكبر. هذا التحوّل لا يحدث فجأة، لكنه تراكم طبيعي لسنوات من الممارسة والنية الصافية.

من يترك بصمة طيبة يتغيّر تلقائيًا في طريقة تعامله مع الآخرين. يصبح أكثر ميلًا إلى الإنصات بدلًا من الجدل، وأكثر تعاطفًا بدلًا من الانتقاد. الأثر الطيب يفتح أمام صاحبه أبوابًا من العلاقات الإنسانية الحقيقية، لأنه يتعامل بصدق ورغبة في الإعطاء لا في الأخذ. ومع الوقت، يجد أن احترام الناس له وحبهم هو نتيجة طبيعية لرحلته في صنع الخير.

القلوب التي تنبض بالعطاء لا تبحث عن مقابل. حين تمتد يد لإنقاذ متعثر أو لرفع كربة عن محتاج، فإن الأثر يتجاوز اللحظة ذاتها. من أنقذته اليوم قد يصبح غدًا عونًا لغيره، وهكذا يتسلسل الخير. وهذا ما أكده الرسول صلي الله عليه وسلم في حديثه الشريف: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة». فالطيبة لا تذهب سدى، بل تبقى رصيدًا من الرحمة يعود لصاحبه يومًا ما.

ليس التأثير دائمًا في الكلام، بل أحيانًا في الصمت والابتسامة وطريقة التعامل. قد تُعيد نظرة احترام أو ابتسامة صادقة بناء إنسان هشّ فقد ثقته بالعالم. المواقف الصغيرة، كالصبر على خطأ، أو احتواء ضعف، قد تكون أقوى من خطابات طويلة. إنها لغة إنسانية يفهمها كل قلب،وتترك أثرًا أبقى من أي حديث.

الأثر الطيب لا يتوقف عند حدود الشخص الذي نُسدي له معروفًا. بل ينتقل كعدوى إيجابية، فيُلهم من نساعده ليساعد غيره. هكذا يولد «التأثير المتسلسل»: سلسلة من الخير قد تبدأ بابتسامة في لحظة عابرة، لكنها تتحول إلى حركة إنسانية لا نعرف إلى أين تصل. وربما يكون ما فعلناه بذرة تثمر قادة ومصلحين وكتّابًا ملهمين بعد سنوات.

الناس ينسون الكلمات أحيانًا، لكنهم لا ينسون الشعور الذي تركته بداخلهم. الأمان، الدعم، والاحتواء، تبقى محفورة في الذاكرة مهما تقادم الزمن. ولعل أصدق ما قيل: «قد تنسى الناس ما قلت، لكنهم لن ينسوا كيف جعلتهم يشعرون». هذه المشاعر هي الأثر الحقيقي الذي لا يُمحى.

فى النهاية.. لا يحتاج المرء إلى ثروة أو شهرة ليترك أثرًا خالدًا. الأمر أبسط من ذلك: كلمة صادقة، موقف كريم، أو حتى صمت حانٍ. كل إنسان قادر على أن يكون بداية لدوائر من الخير تمتد بعده. حين تُضيء قلبًا واحدًا، فأنت تفتح نافذة لعالم أكثر دفئًا وإنسانية.

مساحة إعلانية