رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
المصطلح موجودٌ بشكل رسمي في علم صناعة السياسات العامة public policy وهو يعني تحديداً معنى نافذة الفرصة window of opportunity. لا أحد يعرف كيف ومتى يمكن أن تنفتح هذه النافذة، ولكنها تنفتح في كثيرٍ من الأحيان.
يحصل هذا من أكبر القضايا إلى أصغرها، ومفرق الطريق يتمثل في قدرة السياسي المحنك على التقاط حقيقة وجودها ثم معرفة كمونها ثم الاستفادة منها، بما يحقق المصالح العامة، في مثالنا هنا على الأقل.
وحين يتواجد في الرياض كل القادة الإقليميين والدوليين المؤثرين خلال الأسبوعين الماضيين، فلا حاجة لعبقريةٍ عند الاستنتاج بأن النافذة هناك.
وفي حين أن الجميع يبحث عن (الاستقرار) في المنطقة، فثمة قانونٌ اسمه (التغيير من أجل الاستقرار) كان استخدمه الخبير الاقتصادي المصري حازم الببلاوي عنواناً لكتابٍ له منذ أكثر من عقدين.
فالتغيير سنةٌ من سُنن الحياة البشرية، لا يمكن، بغيابه، استمرارُها، فضلاً عن نموّها وتطورّها. وثمة مقولة شائعة في الأوساط العلمية تقول إن "الثابت الوحيد في هذه الحياة هو التغيير". يَصدُقُ هذا على كل شيء، ويصدق بالتأكيد على السياسات. من هنا، فإن الشعور بالحاجة إلى التغيير أمرٌ طبيعيٌ جداً ابتداءً، بغضّ النظر عن أي ملابسات، أو عن أي ظروفٍ دوليةٍ أو إقليمية طارئة.. لكن وجود تلك الملابسات وهذه الظروف يُضفي مزيداً من المشروعية على الدعوة للتغيير، لأن التغيير المطلوب الذي نتحدث عنه في المنطقة العربية يجب أن يكون في حقيقته استجابةً إراديةً واعيةً لا يمكن حفظ (الاستقرار) إلا من خلالها.
وكما يقول الدكتور الببلاوي: "فالتغيير ليس مناقضاً للاستقرار، بل قد يكون من أهم مقوماته. والاستقرار ليس معناه الجمود وعدم التغيير، بل معناه التلاؤم بين الظروف والأوضاع والنظم والقواعد. وكما أن الظروف والأوضاع في تغيرٍ مستمر، فكذا ينبغي أن تكون النُّظمُ والقواعد، وعدم مسايرتها لتطور هذه الظروف والأوضاع يُولّدُ المصادمات والانفجارات وبالتالي يُهدّدُ من أساس الاستقرار. فالاستقرار يتطلب توازناً مستمراً بين ظروف الحياة من ناحية والنظم والقواعد من ناحية أخرى، وهو توازنٌ لا يتحقق إلا بمتابعة هذه التطورات وأحياناً الإسراع بها وليس بالوقوف أمامها، وقل إنه توازنٌ مُتحرّك أقرب إلى توازن راكب الدراجة يستمر طالما كان متحركاً إلى الأمام، ويختلُّ وقد يسقط من فوق دراجته إذا توقف عن السير".
جَرَّبت المنطقة في السنوات القليلة الماضية طريقةً في السياسة باتَ واضحاً للجميع أنها لم تحقق أهدافاً إيجابية، وللجميع أيضاً. والسياسة ليست علماً فيه قواعدُ حسابية صارمة أو معادلات كيميائية لا تتغير ولا تتبدل.
على العكس، ثمة حاجةٌ للمرونة والقدرة على الاستفادة من الدروس والتلاؤم مع المتغيرات لا نهاية لها. وكما يقول عبد الخالق عبد الله أستاذ العلوم السياسية من الإمارات: "فاختيار الأهداف الصحيحة واتخاذ القرارات المناسبة وحل المشكلات المعقدة وتوزيع الأدوار والمهام والموارد وضبط العلاقات.. كل ذلك لا يتم وفق قوالب جامدة وقواعد خالدة وقوانين مقيدة ولوائح معدة سلفاً في الكتب والمؤلفات... العمل السياسي كالعمل الفني فيه الكثير من الخلق والإبداع والابتكار علاوةً على الجرأة"..
كان ثمة اختلافٌ في وجهات النظر في المرحلة السابقة حول الأولويات التي تستحق الاهتمام. لكننا الآن أمام مرحلةٍ جديدة تفرض، بكل وضوح، جدولَ أولويات يمكن الاتفاق عليه بشكلٍ أكبر. هنا، تحديداً، تكمن ضرورة (التغيير) في السياسات من أجل (الاستقرار).
ودون التهوين من كل القضايا الأخرى، ثمة سرطانٌ ينتشر بسرعة، ويجب التعامل معه دون ترددٍ وتسويف وحسابات قصيرة النظر، ليس فقط لأن هذا قد يُسهل عملية التعامل مع تلك القضايا، وإنما لأن السرطان يُهدد باجتياح أجزاء أخرى من الجسد العربي المُنهك، بحيث يخلق متواليةً من القضايا الجديدة التي سرعان ما ستصبح خرقاً يتسع على الراقع.
وبعد تصريح وزير الخارجية السعودي الواضح والعلني بأن إيران "تشجع الإرهاب وتحتل أراضي عربية، وهذه ليست من خصال الدول".. فإن الأولوية الأولى والأساسية واضحةٌ تماماً. وستكون أهم ساحتين للتعامل مع تلك الأولوية في سوريا واليمن. بَلَدان يمكن القول إنهما باتا بشكلٍ أو بآخر تحت الاحتلال الإيراني المباشر. وهو ما يهدد الأمن العربي والإقليمي بأجمله، كما أنه، للمفارقة، العنصر الذي يفتح نافذة الفرصة التي نتحدث عنها لإعادة تجميع الصفوف، ما أمكن، حول هذه الأولوية، وبما يحقق الحد الأدنى من المصلحة العربية.
لا ندعو هنا إلى عملٍ عربيٍ مشترك، ولا ننادي بتنسيقٍ عربيٍ أخوي، ولا نطالب بتعاونٍ عربيٍ فعّال. فالواقع الفاقع يؤكد لنا أن هذه الشعارات التي لم تُغنِ ولم تُسمن من جوعٍ يوماً، لن يكون لها حتماً أن تُترجم إلى واقع عملي في مثل هذه الظروف المعقدة.
لقد أصبح ملايين العرب يعرفون الحقائق، بل صاروا واقعيين ويعلمون أن أي حركة ستكون في إطار ممارسة فن الممكن. لكنهم يعرفون أيضا أن دوائر هذا الممكن أوسع بكثير من الشرنقة التي يجري حصارهم فيها بذرائع لم تعد تنطلي على أحد. ورغم أن الملايين يحلمون في العالم العربي بصلاح الدين، لكنهم حين يستيقظون لا يأملون بأكثر ممن يتعامل مع عالمهم بشيء من الحكمة والشجاعة. من هنا، فإن تلك الملايين من العرب لن تمانع أن يقودها من هو جدير بالقيادة، يقودها للحفاظ على حدٍّ أدنى من الكرامة والأرض والهوية.
لم يعد العرب في حاجة إلى من يشرح لهم خطورة واقعهم، وإذا كان البعض حتى الآن لا يشعرون، أو لا يريدون أن يشعروا، إلى أين يمضي ذلك الواقع في ظل ثلاثية الانكشاف والاستفراد والسوابق، فإن في العرب من يعرف تماما نهاية هذا الطريق.
في آخر المطاف، لن يكون الغد العربي، استقراراً أو فوضى، إلا صدى لخيارات الحاضر، فالمسألة في النهاية مسألة خيار لا يستطيع أحدٌ أن يلزم أحداً به.
غير أن الحساس في الموضوع هو أن الخيار لن يبقى مطروحاً إلى الأبد، لذلك فإن قراراً بشأنه يجب أن يتم اليوم، قبل فوات الأوان، قبل أن تختفي نافذة الفرصة التي لا تبقى عادةً، في عالم السياسة، مفتوحةً لفترةٍ طويلة.
جوهر الكلام: صرخات ثقيلة تحت سماء ملبّدة!
تتنوع مُسمّيات (المطر) في لغة العرب تبعا لشدته وغزارته، ومنها الرشّ: وهو أول المطر، والطّلّ: المطر الضعيف، والرذاذ:... اقرأ المزيد
318
| 21 نوفمبر 2025
«ثورة الياسمين حرّرت العصفور من القفص»
عَبِقٌ هُو الياسمين. لطالما داعب شذاه العذب روحها، تلك التّي كانت تهوى اقتطافه من غصنه اليافع في حديقة... اقرأ المزيد
399
| 21 نوفمبر 2025
ظلّي يسبقني
في الآونة الأخيرة، بدأت ألاحظ أن ظلّي صار يسبقني. لا أعلم متى بدأ ذلك، ولا متى توقفت أنا... اقرأ المزيد
153
| 21 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
هناك لحظات في تاريخ الدول لا تمرّ مرور الكرام… لحظات تُعلن فيها مؤسسات الدولة أنها انتقلت من مرحلة “تسيير الأمور” إلى مرحلة صناعة التغيير ونقل الجيل من مرحلة كان إلى مرحلة يكون. وهذا بالضبط ما فعلته وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي في السنوات الأخيرة. الأسرة أولاً… بُعدٌ لا يفهمه إلا من يعي أهمية المجتمع ومكوناته، مجتمعٌ يدرس فيه أكثر من 300 ألف طالب وطالبة ويسند هذه المنظومة أكثر من 28 ألف معلم ومعلمة في المدارس الحكومية والخاصة، إلى جانب آلاف الإداريين والمتخصصين العاملين في الوزارة ومؤسساتها المختلفة. لذلك حين قررت الوزارة أن تضع الأسرة في قلب العملية التعليمية هي فعلاً وضعت قلب الوطن ونبضه بين يديها ونصب عينيها. فقد كان إعلانًا واضحًا أن المدرسة ليست مبنى، بل هي امتداد للبيت وبيت المستقبل القريب، وهذا ليس فقط في المدارس الحكومية، فالمدارس الخاصة أيضًا تسجل قفزات واضحة وتنافس وتقدم يداً بيد مع المدارس الحكومية. فمثلاً دور الحضانة داخل رياض الأطفال للمعلمات، خطوة جريئة وقفزة للأمام لم تقدّمها كثير من الأنظمة التعليمية في العالم والمنطقة. خطوة تقول للأم المعلمة: طفلك في حضن مدرستك… ومدرستك أمانة لديك فأنتِ المدرسة الحقيقية. إنها سياسة تُعيد تعريف “بيئة العمل” بمعناها الإنساني والحقيقي. المعلم… لم يعد جنديًا مُرهقًا بل عقلاً مُنطلقًا وفكرًا وقادًا وهكذا يجب أن يكون. لأول مرة منذ سنوات يشعر المُعلم أن هناك من يرفع عنه الحِمل بدل أن يضيف عليه. فالوزارة لم تُخفف الأعباء لمجرد التخفيف… بل لأنها تريد للمعلم أن يقوم بأهم وظيفة. المدرس المُرهق لا يصنع جيلاً، والوزارة أدركت ذلك، وأعادت تنظيم يومه المدرسي وساعاته ومهامه ليعود لجوهر رسالته. هو لا يُعلّم (أمة اقرأ) كيف تقرأ فقط، بل يعلمها كيف تحترم الكبير وتقدر المعلم وتعطي المكانة للمربي لأن التربية قبل العلم، فما حاجتنا لمتعلم بلا أدب؟ ومثقف بلا اخلاق؟ فنحن نحتاج القدوة ونحتاج الضمير ونحتاج الإخلاص، وكل هذه تأتي من القيم والتربية الدينية والأخلاق الحميدة. فحين يصدر في الدولة مرسوم أميري يؤكد على تعزيز حضور اللغة العربية، فهذا ليس قرارًا تعليميًا فحسب ولا قرارًا إلزاميًا وانتهى، وليس قانونًا تشريعيًا وكفى. لا، هذا قرار هوية. قرار دولة تعرف من أين وكيف تبدأ وإلى أين تتجه. فالبوصلة لديها واضحة معروفة لا غبار عليها ولا غشاوة. وبينما كانت المدارس تتهيأ للتنفيذ وترتب الصفوف لأننا في معركة فعلية مع الهوية والحفاظ عليها حتى لا تُسلب من لصوص الهوية والمستعمرين الجدد، ظهرت لنا ثمار هذا التوجه الوطني في مشاهد عظيمة مثل مسابقة “فصاحة” في نسختها الأولى التي تكشف لنا حرص إدارة المدارس الخاصة على التميز خمس وثلاثون مدرسة… جيش من المعلمين والمربين… أطفال في المرحلة المتوسطة يتحدثون بالعربية الفصحى أفضل منّا نحن الكبار. ومني أنا شخصيًا والله. وهذا نتيجة عمل بعد العمل لأن من يحمل هذا المشعل له غاية وعنده هدف، وهذا هو أصل التربية والتعليم، حين لا يعُدّ المربي والمعلم الدقيقة متى تبدأ ومتى ينصرف، هنا يُصنع الفرق. ولم تكتفِ المدارس الخاصة بهذا، فهي منذ سنوات تنظم مسابقة اقرأ وارتقِ ورتّل، ولحقت بها المدارس الحكومية مؤخراً وهذا دليل التسابق على الخير. من الروضات إلى المدارس الخاصة إلى التعليم الحكومي، كل خطوة تُدار من مختصين يعرفون ماذا يريدون، وإلى أين الوجهة وما هو الهدف. في النهاية… شكرًا لأنكم رأيتم المعلم إنسانًا، والطفل أمانة، والأسرة شريكًا، واللغة والقرآن هوية. وشكرًا لأنكم جعلتمونا: نفخر بكم… ونثق بكم… ونمضي معكم نحو تعليم يبني المستقبل.
6963
| 20 نوفمبر 2025
وفقًا للمؤشرات التقليدية، شهدت أسهم التكنولوجيا هذا العام ارتفاعًا في تقييماتها دفعها إلى منطقة الفقاعة. فقد وصلت مضاعفات الأرباح المتوقعة إلى مستويات نادرًا ما شوهدت من قبل، لذلك، لم يكن التراجع في التقييمات منذ منتصف أكتوبر مفاجئًا. وقد يعكس هذا الانخفاض حالة من الحذر وجني الأرباح. وقد يكون مؤشرًا على تراجع أكبر قادم، أو مجرد استراحة في سوق صاعدة طويلة الأمد تصاحب ثورة الذكاء الاصطناعي. وحتى الآن، لا يُعدّ الهبوط الأخير في سوق الأسهم أكثر من مجرد "تصحيح" محدود. فقد تراجعت الأسواق في الأسبوع الأول من نوفمبر، لكنها سجلت ارتفاعًا طفيفًا خلال الأسبوع الذي بدأ يوم الاثنين 10 من الشهر نفسه، لكنها عادت وانخفضت في نهاية الأسبوع. وما تزال السوق إجمالاً عند مستويات مرتفعة مقارنة بشهر أبريل، حين شهدت انخفاضًا مرتبطًا بإعلان الرئيس دونالد ترامب بشأن الرسوم الجمركية. فعلى سبيل المثال: تراجعت أسهم شركة إنفيديا بنحو 10% في الأسبوع الأول من نوفمبر، لكنها بقيت أعلى بنحو 60% مقارنة بما كانت عليه قبل ستة أشهر فقط. مؤشر S&P 500 انخفض إلى 6700 في الرابع عشر من نوفمبر، مقارنة بذروة بلغت 6920، وما زال أعلى بنحو سبعين بالمئة مقارنة بنوفمبر 2022. هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى على القيمة السوقية الإجمالية أصبحت واضحة. فمع نهاية أكتوبر، ورغم ارتفاع المؤشر طوال العام، باستثناء التراجع في أبريل، شهدت نحو 397 شركة من شركات المؤشر انخفاضًا في قيمتها خلال تلك الفترة. ثماني من أكبر عشر شركات في المؤشر هي شركات تكنولوجية. وتمثل هذه الشركات 36% من إجمالي القيمة السوقية في الولايات المتحدة، و60% من المكاسب المحققة منذ أبريل. وعلى عكس ما حدث لشركات الدوت كوم الناشئة قبل 25 عامًا، تتمتع شركات التكنولوجيا اليوم بإيرادات قوية ونماذج أعمال متينة، حيث تتجاوز خدماتها نطاق الذكاء الاصطناعي لتشمل برمجيات تطبيقات الأعمال والحوسبة السحابية. وهناك حجّة قوية مفادها أن جزءًا كبيرًا من الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي يأتي من شركات كبرى مربحة تتمتع بمراكز نقدية قوية، ما يجعل هذه الاستثمارات أقل عرضة للمخاطر مقارنة بموجات الحماس السابقة في قطاع التكنولوجيا. غير أن حجم الاستثمارات المخطط لها في مراكز البيانات أثار مخاوف لدى بعض المستثمرين. كما أن هناك 10 شركات ناشئة خاسرة متخصصة في الذكاء الاصطناعي تقدر قيمتها مجتمعة بنحو تريليون دولار. وهناك ايضاً تراجع صدور البيانات الاقتصادية الأمريكية بسبب الإغلاق الحكومي الذي دخل شهره الثاني، فلم تُنشر أي بيانات وظائف رسمية منذ 5 سبتمبر، ما دفع المحللين للاعتماد على بيانات خاصة. هذه البيانات أظهرت أعلى مستوى لتسريح الموظفين منذ 2003 في أكتوبر. كما جاءت نتائج أرباح بعض الشركات التقليدية مخيبة، حيث هبط سهم مطاعم تشيبوتلي بنحو 13% في نهاية أكتوبر بعد إعلان نتائج دون توقعات السوق.
2454
| 16 نوفمبر 2025
يحتلّ برّ الوالدين مكانة سامقة في منظومة القيم القرآنية، حتى جعله الله مقرونًا بعبادته في قوله تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]، فجمع بين التوحيد والإحسان إليهما في آية واحدة، ليؤكد أن البرّ بهما ليس مجرّد خُلقٍ اجتماعي، بل عبادة روحية عظيمة لا تقلّ شأنًا عن أركان الإيمان. القرآن الكريم يقدّم برّ الوالدين باعتباره جهادًا لا شوكة فيه، لأن مجاهد النفس في الصبر عليهما، ورعاية شيخوختهما، واحتمال تقلب مزاجهما في الكبر، هو صورة من صور الجهاد الحقيقي الذي يتطلّب ثباتًا ومجاهدة للنفس. قال تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15]، فحتى في حال اختلاف العقيدة، يبقى البرّ حقًا لا يسقط. وفي الآية الأخرى ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24]، يربط القرآن مشاعر الإنسان بذاكرته العاطفية، ليعيده إلى لحظات الضعف الأولى حين كان هو المحتاج، وهما السند. فالبرّ ليس ردّ جميلٍ فحسب، بل هو اعتراف دائم بفضلٍ لا يُقاس، ورحمة متجددة تستلهم روحها من الرحمة الإلهية نفسها. ومن المنظور القرآني، لا يتوقف البرّ عند الحياة، بل يمتدّ بعد الموت في الدعاء والعمل الصالح، كما قال النبي ﷺ: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث... « وذكر منها «ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم). فالبرّ استمرارية للقيم التي غرساها، وجسر يصل الدنيا بالآخرة. في زمن تتسارع فيه الإيقاعات وتبهت فيه العواطف، يعيدنا القرآن إلى الأصل: أن الوالدين بابان من أبواب الجنة، لا يُفتحان مرتين. فبرّهما ليس ترفًا عاطفيًا ولا مجاملة اجتماعية، بل هو امتحان للإيمان وميزان للوفاء، به تُقاس إنسانية الإنسان وصدق علاقته بربه. البرّ بالوالدين هو الجهاد الهادئ الذي يُزهر رضا، ويورث نورًا لا يخبو.
1401
| 14 نوفمبر 2025