رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
احتدم الصراع على مستقبل المنطقة العربية خلال السنوات الثلاث الأخيرة في ظل فراغ القوة الذي خلفه الانكفاء الأمريكي عنها، وبلغ الصراع أشده في الدول التي اندلعت فيها ثورات الربيع العربي وعليها، وامتد ليشمل كبيرها (مصر) وصغيرها (تونس وليبيا) وما بينهما (سوريا والعراق واليمن)، لا بل لم يبقَ أحد بمنأى عن التجاذبات بما فيها الدول التي تعد فاعلاً أساسياً في المشهد الإقليمي والطامحة إلى لعب دور مهيمن فيه، كما حدث أخيراً في الانتخابات المحلية التركية، حيث اُستنفرت جهود محلية وإقليمية ودولية لوضع نهاية لحكم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وحزبه، بعد أن ربط هذا الأخير مستقبله بنتيجة الانتخابات، ومن خلال ذلك تغيير المشهد الإقليمي. هذا الصراع ينذر بصعود قوى إقليمية كبرى وانحدار أخرى، وتتركز معظم التحليلات حول مثلث تركيا، مصر وإيران، لتعكس تماماً وضع المعسكرات الثلاث التي انقسمت إليها المنطقة في ظل ثورات الربيع العربي، وهي المحور الداعم للتغيير ومحور مقاومة التغيير، ومحور الممانعة لكل شيء.
فكيف تبدو التقديرات حول أي من هذه المعسكرات ستكون الغلبة في هذا الصراع الكبير، وذلك من خلال استعراض فرص واحتمالات صعود وانحدار القوى الثلاث الكبرى فيها (مصر وإيران وتركيا) بناء على مقومات القوة التي تملكها.
إذا بدأنا بمصر، نجد وفق كل المعطيات المتوافرة، أنه يكاد يكون من المستحيل لها أن تتبوأ دوراً إقليميا كبيراً في ظل ظروفها الراهنة، لقد حصلت مصر على هذه الفرصة مرتين خلال القرنين الماضيين، الأولى في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لكن هذه المحاولة فشلت لأن طموحات محمد علي باشا فاقت بكثير إمكانات مصر وقدراتها من جهة، ولأن المقاومة الغربية لمشروعه كانت كبيرة من جهة ثانية. أما الفرصة الثانية فقد سنحت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، لكن مصر لم تتمكن من الاستفادة منها أيضاً لأسباب كثيرة منها، ظروف الحرب الباردة والصراع مع إسرائيل، وفشل النخب الحاكمة المصرية في وضع رؤية سياسية واقتصادية متكاملة تجعل من مصر قاطرة تحديث وتصنيع وتنمية لعموم المنطقة. وخلال العقود الثلاثة الأخيرة، تقلص دور مصر الإقليمي إلى حده الأدنى نتيجة طغيان ترتيبات خلافة الرئيس الأسبق حسني مبارك على ما عداها من أولويات أمنية وتنموية وإستراتيجية. لكن مصر كادت أن تحظى بفرصة ثالثة لو مضت مسيرة التحول الديمقراطي التي أطلقتها ثورة 25 يناير في طريقها رغم العثرات، لكن العسكر قضوا على هذه الفرصة. وفق المعطيات الراهنة تبدو فرص مصر في تأدية دور قيادي في المنطقة أقل من أي وقت مضى، فعدد سكانها يتجاوز 90 مليون نسمة، وناتجها الإجمالي القومي لا يتجاوز 270 مليار دولار بحسب أرقام صندوق النقد الدولي لعام 2013، ما يضعها في المرتبة 41 عالمياً بعد الفلبين وتشيلي ونيجيريا، وتقترب من اليونان التي تصغرها مساحة وسكاناً 10 مرات وتعاني فوق ذلك من أزمة اقتصادية طاحنة. وفي ظل حال عدم الاستقرار السياسي التي تعيشها مصر حالياً، وما نتج عنها من أضرار طالت قطاعات اقتصادية عديدة، فضلا عن ارتفاع معدلات الأمية، والبطالة، والفقر وهيمنة الجيش على الاقتصاد الوطني وتوزيع ريعه كجوائز ترضية على ضباطه العاملين والمتقاعدين، كل ذلك يجعل من الصعب تصور تحول مصر إلى دولة إقليمية كبرى، لا بل الأرجح أنها ستتحول إلى عبء كبير على عاتق حلفاءها، قبل أن تقع في نهاية المطاف في دوائر نفوذ إقليمية ودولية أخرى.
إيران هي الأخرى- رغم كل الضجيج الذي تمارسه – ليست مهيئة للعب دور قوة إقليمية مهيمنة، كما كان الأمر يبدو عليه قبل ثورات الربيع العربي، حتى في ظل تقارب مع الولايات المتحدة، وذلك لأسباب بنيوية منها أن الناتج الإجمالي القومي لإيران ذات الثمانين مليون - بحسب إحصاء 2013 - لا يتجاوز 350 مليار دولار ما يجعلها في المرتبة الثانية والثلاثين على مستوى العالم، حيث تسبقها دول صغيرة مثل فنزويلا وكولومبيا وتايلاند وحتى الإمارات العربية المتحدة على التوالي. وقد فقدت إيران خلال سنوات المواجهة مع الغرب والاستنزاف في مغامرات على مستوى الإقليم إمكانية التحول إلى قوة اقتصادية إقليمية كبرى على غرار تركيا، مثلاً. فضلا عن ذلك، تقع إيران من الناحية الجيوسياسية على أطراف المنطقة، بخلاف تركيا مثلاً الأقرب إلى المركز، وتبدو محاطة ببيئة غير صديقة، فهي أن حاولت التوجه سعيا وراء النفوذ إلى آسيا الوسطى مثلا سوف تكون روسيا لها بالمرصاد، أما شرقاً فهناك أفغانستان التي لا يوجد فيها ما يغري، فيما لا تشكل باكستان صديقاً يمكن الركون إليه، لذلك تجد إيران نفسها منجذبة دائما نحو الغرب، لكن هنا أيضاً تصطدم بالعرب المختلفين عنها بالقومية واللغة والمذهب والمصالح، والمستعدين دائماً لصد نفوذها، خاصة بعد موقفها من الأزمة السورية، وقد أبدوا كل الاستعداد لذلك في السنوات الثلاثة الأخيرة.
صحيح أن إيران تبدو إقليميا الأكثر نشاطاً وحيوية، إلا أن هذا النشاط يشكل في العمق نقطة ضعف إيران الأبرز، فهذا الدور لا يشتت قوتها ويستنزف مواردها فحسب بل يضعها في صدام مع معظم قوى الإقليم، العرب والأتراك والباكستانيين، فضلا عن الغرب الذي لا ينظر بارتياح إلى الدور الإيراني، كل هذا يجعل إيران دائما في وضع دفاعي. من هنا تبدو إيران مدركة لحدود قوتها، ويمكن ملاحظة ذلك في التناقض الظاهر بين خطابها وسلوكها. ففي الوقت الذي كانت فيه تصريحات المسؤولين الإيرانيين خاصة في عهد أحمدي نجاد تعد العالم لسيناريو قيام الساعة، كانت تصرفاتهم في السياسية الخارجية محسوبة بدقة فائقة. وكانت سياستها الإقليمية تقوم دائماً على استخدام أطراف ثالثة مثل حزب الله والحوثيين، وإرسال مستشارين ومعونات ودعم عسكري إلى مختلف أنحاء المنطقة لبناء نفوذ لها هنا وهناك، لكنها كانت حذرة جدا في استخدام قوتها بشكل مباشر. فإيران تفضل دائما القتال من وراء ستار – أي حروب الوكالة – بدلا من الانخراط في مواجهات مباشرة مفتوحة حتى مع أطراف أضعف منها.
نأتي أخيراً إلى تركيا التي يبلغ عدد سكانها نحوا من 70 مليون نسمة فيما يفوق ناتجها الإجمالي القومي 830 مليار دولار وهي تشكل بذلك الاقتصاد رقم 17 في العالم وتحافظ منذ عقد على معدل نمو سنوي يتراوح بين 5-6 بالمائة، وتجاوز أحيانا 8 بالمائة، ولديها نظام سياسي مستقر وقاعدة صناعية متطورة وقوة بشرية متعلمة. فوق ذلك تحتفظ تركيا بعلاقات قوية مع الغرب وهي لذلك لا تحتاج إلى تخصيص أي مقدرات لمواجهة أعباء التصدي له كما إيران. ولدى الحكومة التركية خطة طموحة للتحول إلى الاقتصاد العاشر في العالم بحلول عام 2023 - عندما تحتفل بالذكرى المئوية لإعلان الجمهورية التركية، ما يعني أنها ستتجاوز في هذه الحالة كل من كوريا الجنوبية والمكسيك وإسبانيا وأستراليا وكندا.
ويمثل الاقتصاد التركي بوضعه الحالي ضعفي الاقتصاد الإيراني وثلاثة أضعاف الاقتصاد المصري وأكثر من مجموع الاقتصاديين معاً، فوق ذلك تملك تركيا القاعدة الصناعية الأكثر تطورا في المنطقة وعموم العالم الإسلامي. ويشكل جيشها ثاني أكبر جيوش حلف الناتو بعد الولايات المتحدة. أما من الناحية الجيوبوليتيكة، فإن تركيا تتموضع بين أوروبا والشرق الأوسط وروسيا، ما يجعلها تتحكم بأقصر الطرق البرية والبحرية بين هذه المناطق الثلاث. نقطة ضعف تركيا الأساسية هي افتقارها إلى موارد الطاقة لكن هذه المشكلة يمكن التغلب عليها إذا تغيرت التحالفات السياسية في المنطقة خاصة تلك المرتبطة بالصراع على سوريا، أو إذا بدأ استثمار احتياطات الغاز الكبيرة في شرق المتوسط. وإذا تحررت تركيا من الابتزاز الروسي والإيراني في مجال إمدادات الطاقة فسوف تتلاشى كل القيود التي تمنعها من تبوؤ مكانتها كقطب إقليمي أكبر في المنطقة.
من هذا المنطلق وبناء على هذه المعطيات يتضح لنا لماذا يجب أن نستمر في التركيز على تطوير علاقة تحالفية وثيقة مع تركيا حتى لو خسرنا مصر وعادتنا إيران.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في الساعات المبكرة من صباح السبت، ومع أول شعاع يلامس مياه الخليج الهادئة، من المعتاد أن أقصد شاطئ الوكرة لأجد فيه ملاذا هادئا بعد صلاة الفجر. لكن ما شهده الشاطئ اليوم لم يكن منظرا مألوفا للجمال، بل كان صدمة بصرية مؤسفة، مخلفات ممتدة على طول الرمال النظيفة، تحكي قصة إهمال وتعدٍ على البيئة والمكان العام. شعرت بالإحباط الشديد عند رؤية هذا المنظر المؤسف على شاطئ الوكرة في هذا الصباح. إنه لأمر محزن حقا أن تتحول مساحة طبيعية جميلة ومكان للسكينة إلى مشهد مليء بالمخلفات. الذي يصفه الزوار بأنه «غير لائق» بكل المقاييس، يثير موجة من التساؤلات التي تتردد على ألسنة كل من يرى المشهد. أين الرقابة؟ وأين المحاسبة؟ والأهم من ذلك كله ما ذنب عامل النظافة المسكين؟ لماذا يتحمل عناء هذا المشهد المؤسف؟ صحيح أن تنظيف الشاطئ هو من عمله الرسمي، ولكن ليس هو المسؤول. والمسؤول الحقيقي هو الزائر أولا وأخيرا، ومخالفة هؤلاء هي ما تصنع هذا الواقع المؤلم. بالعكس، فقد شاهدت بنفسي جهود الجهات المختصة في المتابعة والتنظيم، كما لمست جدية وجهد عمال النظافة دون أي تقصير منهم. ولكن للأسف، بعض رواد هذا المكان هم المقصرون، وبعضهم هو من يترك خلفه هذا الكم من الإهمال. شواطئنا هي وجهتنا وواجهتنا الحضارية. إنها المتنفس الأول للعائلات، ومساحة الاستمتاع بالبيئة البحرية التي هي جزء أصيل من هويتنا. أن نرى هذه المساحات تتحول إلى مكب للنفايات بفعل فاعل، سواء كان مستخدما غير واعٍ هو أمر غير مقبول. أين الوعي البيئي لدى بعض رواد الشاطئ الذين يتجردون من أدنى حس للمسؤولية ويتركون وراءهم مخلفاتهم؟ يجب أن يكون هناك تشديد وتطبيق صارم للغرامات والعقوبات على كل من يرمي النفايات في الأماكن غير المخصصة لها، لجعل السلوك الخاطئ مكلفا ورادعا.
4302
| 05 ديسمبر 2025
-«المتنبي» حاضراً في افتتاح «كأس العرب» - «أبو الطيب» يتألق في نَظْم الشعر.. وفي تنظيم البطولات تتفوق قطر - «بطولة العرب» تجدد شراكة الجذور.. ووحدة الشعور - قطر بسواعد أبنائها وحنكة قادتها تحقق الإنجاز تلو الآخر باستضافتها الناجحة للبطولات - قطر تراهن على الرياضة كقطاع تنموي مجزٍ ومجال حيوي محفز - الحدث العربي ليس مجرد بطولة رياضية بل يشكل حدثاً قومياً جامعاً -دمج الأناشيد الوطنية العربية في نشيد واحد يعبر عن شراكة الجذور ووحدة الشعور لم يكن «جحا»، صاحب النوادر، هو الوحيد الحاضر، حفل افتتاح بطولة «كأس العرب»، قادماً من كتب التراث العربي، وأزقة الحضارات، وأروقة التاريخ، بصفته تعويذة البطولة، وأيقونتها النادرة. كان هناك حاضر آخر، أكثر حضوراً في مجال الإبداع، وأبرز تأثيراً في مسارات الحكمة، وأشد أثرا في مجالات الفلسفة، وأوضح تأثيرا في ملفات الثقافة العربية، ودواوين الشعر والقصائد. هناك في «استاد البيت»، كان من بين الحضور، نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، مهندس الأبيات الشعرية، والقصائد الإبداعية، المبدع المتحضر، الشاعر المتفاخر، بأن «الأعمى نظر إلى أدبه، وأسمعت كلماته من به صمم»! وكيف لا يأتي، ذلك العربي الفخور بنفسه، إلى قطر العروبة، ويحضر افتتاح «كأس العرب» وهو المتباهي بعروبته، المتمكن في لغة الضاد، العارف بقواعدها، الخبير بأحكامها، المتدفق بحكمها، الضليع بأوزان الشعر، وهندسة القوافي؟ كيف لا يأتي إلى قطر، ويشارك جماهير العرب، أفراحهم ويحضر احتفالاتهم، وهو منذ أكثر من ألف عام ولا يزال، يلهم الأجيال بقصائده ويحفزهم بأشعاره؟ كيف لا يأتي وهو الذي يثير الإعجاب، باعتباره صاحب الآلة اللغوية الإبداعية، التي تفتّقت عنها ومنها، عبقريته الشعرية الفريدة؟ كيف لا يحضر فعاليات «بطولة العرب»، ذلك العربي الفصيح، الشاعر الصريح، الذي يعد أكثر العرب موهبة شعرية، وأكثرهم حنكة عربية، وأبرزهم حكمة إنسانية؟ كيف لا يحضر افتتاح «كأس العرب»، وهو الشخصية الأسطورية العربية، التي سجلت اسمها في قائمة أساطير الشعر العربي، باعتباره أكثر شعراء العرب شهرة، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق في مجال التباهي بنفسه، والتفاخر بذاته، وهو الفخر الممتد إلى جميع الأجيال، والمتواصل في نفوس الرجال؟ هناك في الاستاد «المونديالي»، جاء «المتنبي» من الماضي البعيد، قادماً من «الكوفة»، من مسافة أكثر من ألف سنة، وتحديداً من العصر العباسي لحضور افتتاح كأس العرب! ولا عجب، أن يأتي «أبو الطيب»، على ظهر حصانه، قادماً من القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، لمشاركة العرب، في تجمعهم الرياضي، الذي تحتضنه قطر. وما من شك، في أن حرصي على استحضار شخصية «المتنبي» في مقالي، وسط أجواء «كأس العرب»، يستهدف التأكيد المؤكد، بأن هذا الحدث العربي، ليس مجرد بطولة رياضية.. بل هو يشكل، في أهدافه ويختصر في مضامينه، حدثاً قومياً جامعاً، يحتفل بالهوية العربية المشتركة، ويحتفي بالجذور القومية الجامعة لكل العرب. وكان ذلك واضحاً، وظاهراً، في حرص قطر، على دمج الأناشيد الوطنية للدول العربية، خلال حفل الافتتاح، ومزجها في قالب واحد، وصهرها في نشيد واحد، يعبر عن شراكة الجذور، ووحدة الشعور، مما أضاف بعداً قومياً قوياً، على أجواء البطولة. ووسط هذه الأجواء الحماسية، والمشاعر القومية، أعاد «المتنبي» خلال حضوره الافتراضي، حفل افتتاح كأس العرب، إنشاد مطلع قصيدته الشهيرة التي يقول فيها: «على قدر أهل العزم تأتي العزائم» «وتأتي على قدر الكرام المكارم» والمعنى المقصود، أن الإنجازات العظيمة، لا تتحقق إلا بسواعد أصحاب العزيمة الصلبة، والإرادة القوية، والإدارة الناجحة. معبراً عن إعجابه بروعة حفل الافتتاح، وانبهاره، بما شاهده في عاصمة الرياضة. مشيداً بروعة ودقة التنظيم القطري، مشيراً إلى أن هذا النجاح الإداري، يجعل كل بطولة تستضيفها قطر، تشكل إنجازاً حضارياً، وتبرز نجاحاً تنظيمياً، يصعب تكراره في دولة أخرى. وهكذا هي قطر، بسواعد أبنائها، وعزيمة رجالها، وحنكة قادتها تحقق الإنجاز تلو الآخر، خلال استضافتها الناجحة للبطولات الرياضية، وتنظيمها المبهر للفعاليات التنافسية، والأحداث العالمية. وخلال السنوات الماضية، تبلورت في قطر، مرتكزات استراتيجية ثابتة، وتشكلت قناعات راسخة، وهي الرهان على الرياضة، كقطاع تنموي منتج ومجزٍ، ومجال حيوي محفز، قادر على تفعيل وجرّ القطاعات الأخرى، للحاق بركبه، والسير على منواله. وتشغيل المجالات الأخرى، وتحريك التخصصات الأخرى، مثل السياحة، والاقتصاد، والإعلام والدعاية، والترويج للبلاد، على المستوى العالمي، بأرقى حسابات المعيار العالمي. ويكفي تدشينها «استاد البيت»، ليحتضن افتتاح «كأس العرب»، الذي سبق له احتضان «كأس العالم»، وهو ليس مجرد ملعب، بل رمز تراثي، يجسد في تفاصيله الهندسية، معنى أعمق، ورمزا أعرق، حيث يحمل في مدرجاته عبق التراث القطري، وعمل الإرث العربي. وفي سياق كل هذا، تنساب في داخلك، عندما تكون حاضراً في ملاعب «كأس العرب»، نفحات من الروح العربية، التي نعيشها هذه الأيام، ونشهدها في هذه الساعات، ونشاهدها خلال هذه اللحظات وهي تغطي المشهد القطري، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. وما من شك، في أن تكرار نجاحات قطر، في احتضان البطولات الرياضية الكبرى، ومن بينها بطولة «كأس العرب»، بهذا التميز التنظيمي، وهذا الامتياز الإداري، يشكل علامة فارقة في التنظيم الرياضي. .. ويؤكد نجاح قطر، في ترسيخ مكانتها على الساحة الرياضية، بصفتها عاصمة الرياضة العربية، والقارية، والعالمية. ويعكس قدرتها على تحقيق التقارب، بين الجماهير العربية، وتوثيق الروابط الأخوية بين المشجعين، وتوطيد العلاقات الإنسانية، في أوساط المتابعين! ولعل ما يميز قطر، في مجال التنظيم الرياضي، حرصها على إضافة البعد الثقافي والحضاري، والتاريخي والتراثي والإنساني، في البطولات التي تستضيفها، لتؤكد بذلك أن الرياضة، في المنظور القطري، لا تقتصر على الفوز والخسارة، وإنما تحمل بطولاتها، مجموعة من القيم الجميلة، وحزمة من الأهداف الجليلة. ولهذا، فإن البطولات التي تستضيفها قطر، لها تأثير جماهيري، يشبه السحر، وهذا هو السر، الذي يجعلها الأفضل والأرقى والأبدع، والأروع، وليس في روعتها أحد. ومثلما في الشعر، يتصدر «المتنبي» ولا يضاهيه في الفخر شاعر، فإن في تنظيم البطولات تأتي قطر، ولا تضاهيها دولة أخرى، في حسن التنظيم، وروعة الاستضافة. ولا أكتب هذا مديحاً، ولكن أدوّنه صريحاً، وأقوله فصيحاً. وليس من قبيل المبالغة، ولكن في صميم البلاغة، القول إنه مثلما يشكل الإبداع الشعري في قصائد «المتنبي» لوحات إبداعية، تشكل قطر، في البطولات الرياضية التي تستضيفها، إبداعات حضارية. ولكل هذا الإبداع في التنظيم، والروعة في الاستضافة، والحفاوة في استقبال ضيوف «كأس العرب».. يحق لدولتنا قطر، أن تنشد، على طريقة «المتنبي»: «أنا الذي حضر العربي إلى ملعبي» «وأسعدت بطولاتي من يشجع كرة القدمِ» وقبل أن أرسم نقطة الختام، أستطيع القول ـ بثقة ـ إن هناك ثلاثة، لا ينتهي الحديث عنهم في مختلف الأوساط، في كل الأزمنة وجميع الأمكنة. أولهم قصائد «أبو الطيب»، والثاني كرة القدم باعتبارها اللعبة الشعبية العالمية الأولى، أمــــا ثالثهم فهي التجمعات الحاشدة، والبطولات الناجحة، التي تستضيفها - بكل فخر- «بلدي» قطر.
2064
| 07 ديسمبر 2025
فجعت محافل العلم والتعليم في بلاد الحرمين الشريفين برحيل معالي الأستاذ الدكتور الشيخ محمد بن علي العقلا، أحد أشهر من تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، والحق أنني ما رأيت أحدًا أجمعت القلوب على حبه في المدينة المنورة لتواضعه ودماثة أخلاقه، كما أجمعت على حب الفقيد الراحل، تغمده الله بواسع رحماته، وأسكنه روضات جناته، اللهم آمين. ولد الشيخ العقلا عليه الرحمة في مكة المكرمة عام 1378 في أسرة تميمية النسب، قصيمية الأصل، برز فيها عدد من الأجلاء الذين تولوا المناصب الرفيعة في المملكة العربية السعودية منذ تأسيس الدولة. وقد تولى الشيخ محمد بن علي نفسه عمادة كلية الشريعة بجامعة أم القرى، ثم تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عام 1428، فكان مكتبه عامرا بالضيوف والمراجعين مفتوحًا للجميع وجواله بالمثل، وكان دأبه الرد على الرسائل في حال لم يتمكن من إجابة الاتصالات لأشغاله الكثيرة، ويشارك في الوقت نفسه جميع الناس في مناسباتهم أفراحهم وأتراحهم. خرجنا ونحن طلاب مع فضيلته في رحلة إلى بر المدينة مع إمام الحرم النبوي وقاضي المدينة العلامة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ وعميد كلية أصول الدين الشيخ عبد العزيز بن صالح الطويان ونائب رئيس الجامعة الشيخ أحمد كاتب وغيرهم، فكان رحمه الله آية في التواضع وهضم الذات وكسر البروتوكول حتى أذاب سائر الحواجز بين جميع المشاركين في تلك الرحلة. عرف رحمه الله بقضاء حوائج الناس مع ابتسامة لا تفارق محياه، وقد دخلت شخصيا مكتبه رحمه الله تعالى لحاجة ما، فاتصل مباشرة بالشخص المسؤول وطلب الإسراع في تخليص الأمر الخاص بي، فكان لذلك وقع طيب في نفسي وزملائي من حولي. ومن مآثره الحسان التي طالما تحدث بها طلاب الجامعة الإسلامية أن أحد طلاب الجامعة الإسلامية الأفارقة اتصل بالشيخ في منتصف الليل وطلب منه أن يتدخل لإدخال زوجته الحامل إلى المستشفى، وكانت في حال المخاض، فحضر الشيخ نفسه إليه ونقله وزوجته إلى المستشفى، وبذل جاهه في سبيل تيسير إدخال المرأة لتنال الرعاية اللازمة. شرفنا رحمه الله وأجزل مثوبته بالزيارة إلى قطر مع أهل بيته، وكانت زيارة كبيرة على القلب وتركت فينا أسنى الأثر، ودعونا فضيلته للمشاركة بمؤتمر دولي أقامته جامعة الزيتونة عندما كنت مبتعثًا من الدولة إليها لكتابة أطروحة الدكتوراه مع عضويتي بوحدة السنة والسيرة في الزيتونة، فكانت رسالته الصوتية وشكره أكبر داعم لنا، وشارك يومها من المملكة معالي وزير التعليم الأسبق والأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الوالد الشيخ عبدالله بن صالح العبيد بورقة علمية بعنوان «جهود المملكة العربية السعودية في خدمة السنة النبوية» ومعالي الوالد الشيخ قيس بن محمد آل الشيخ مبارك، العضو السابق بهيئة كبار العلماء في المملكة، وقد قرأنا عليه أثناء وجوده في تونس من كتاب الوقف في مختصر الشيخ خليل، واستفدنا من عقله وعلمه وأدبه. وخلال وجودنا بالمدينة أقيمت ندوة لصاحب السمو الملكي الأمير نواف بن فيصل بن فهد آل سعود حضرها أمير المدينة يومها الأمير المحبوب عبد العزيز بن ماجد وعلماء المدينة وكبار مسؤوليها، وحينما حضرنا جعلني بعض المرافقين للشيخ العقلا بجوار المستشارين بالديوان الملكي، كما جعلوا الشيخ جاسم بن محمد الجابر بجوار أعضاء مجلس الشورى. وفي بعض الفصول الدراسية زاملنا ابنه الدكتور عقيل ابن الشيخ محمد بن علي العقلا فكان كأبيه في الأدب ودماثة الأخلاق والسعي في تلبية حاجات زملائه. ودعانا مرة معالي الشيخ العلامة سعد بن ناصر الشثري في الحرم المكي لتناول العشاء في مجلس الوجيه القطان بمكة، وتعرفنا يومها على رئيس هيئات مكة المكرمة الشيخ فراج بن علي العقلا، الأخ الأكبر للشيخ محمد، فكان سلام الناس عليه دليلا واضحا على منزلته في قلوبهم، وقد دعانا إلى زيارة مجلسه، جزاه الله خيرا. صادق العزاء وجميل السلوان نزجيها إلى أسرة الشيخ ومحبيه وطلابه وعموم أهلنا الكرام في المملكة العربية السعودية، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، اللهم تقبله في العلماء الأتقياء الأنقياء العاملين الصالحين من أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. «إنا لله وإنا إليه راجعون».
1788
| 04 ديسمبر 2025