رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سعدية مفرح

كاتبة كويتية

مساحة إعلانية

مقالات

279

سعدية مفرح

أنصاف مثقفين!

08 ديسمبر 2025 , 02:24ص

حسناً.. الجاهل لا يخدع، ولا يلبس أثواب الحكمة، ولا يطالبك بأن تصفق له. أما نصف المثقف فيقف بينك وبين الحقيقة كما يقف الضباب بين العين والسماء، فيربك الرؤية من دون أن يعلن عن نفسه، ويتركك في مساحة رمادية يصعب الخلاص منها.

والأخطر من ذلك أن أنصاف المثقفين غالبًا ما يتحولون إلى وسطاء سيئين بين المعرفة والناس. يقتطعون ما يناسب مزاجهم من الكتب، ويُسقطون على القضايا العامة أحكامًا هشة، ويحرّفون النقاشات إلى مناطق جانبية تُغرق الجميع في انفعالات متلاحقة، بينما تبقى القضايا الجوهرية مستبعدة أو مشوّهة. وفي كل مجتمع يتسع فيه صوت هؤلاء، تتحول الأفكار الكبرى إلى شعارات جوفاء، وتضيع التفاصيل الضرورية لبناء وعي حقيقي قادر على الفهم والتحليل واستشراف الطريق.

قبل أسبوعين في معرض الكتاب في الكويت، التقيت على هامش إحدى الندوات شخصاً مشهورا في ساحة الثقافة والأدب باعتباره مثقفًا واسع الاطلاع. كان أثناء النقاش بيننا يردد عناوين كثيرة ويستعرض مقولات عديدة، لكنه سرعان ما انكشف. بدا الأمر مجرد موقف عابر، لكنه عاد ليكشف لي معنى أعمق: ثمة من يرى في الثقافة زينة اجتماعية، لا مشروعًا يوميًا يتطلب قراءة واعية، ومراجعةً للنفس، وتجربةً مع الحياة.

لقد تعلّمت مع الوقت أن الثقافة ليست عدد الكتب التي يقرأها المرء، بل عدد الأسئلة التي يطرحها بعد كل قراءة، وعدد المرات التي يعيد فيها النظر في قناعاته السابقة. والمثقف الحقّ لا يخاف الاعتراف بحدود معرفته، ولا يستنكف من الإصغاء لمن هم أعمق منه خبرة أو أوسع رؤية، ولا يرى في التنوع الفكري تهديدًا، بل اتساعًا للفضاء الإنساني.

أما نصف المثقف فيحمل يقينًا صلبًا لا يهتز، ويعتبر أي رأي مختلف انتقاصًا من منزلته، ويتعامل مع المعرفة كما لو أنها سلطة، لا مشروع تحرّر. وهنا يكمن الخطر؛ فالمعرفة حين تتحول إلى أداة للهيمنة تصبح مصدرًا للتعصب بدلًا من أن تكون طريقًا للارتقاء، وحين يستخدمها صاحبها لتغطية جهله بدل الاعتراف به، تنقلب إلى قناع يخدع به الآخرين ويخدع نفسه قبلهم.

وليس ثمة مجتمع إلا ويحتاج إلى أصوات مختلفة، وتجارب متعددة، ورؤى تتجادل بوصفها سبيلًا للتقارب لا للحسم. لكن أي ساحة حوار تحتاج إلى قواعد تحميها من الضجيج المموّه، وإلى وعي قادر على تمييز ما هو رأي عابر، وما هو جهد معرفي يستحق أن يُصغى إليه. فحين تختلط الأصوات على نحو يجعل السطحي مساويًا للمتعمّق، والمتعجّل مساويًا للخبير، يتحول المشهد الثقافي إلى ساحة ملتبسة، تصعب فيها معرفة الاتجاه الصحيح.

ولعل أحد أسباب هذا الالتباس أن بعض ما يسمى اليوم “ثقافة” لم يعد يتطلب سوى متابعة عابرة أو حفظًا لاقتباسات تُرمى في الهواء بلا سياق، بينما تختفي القراءة الجادة خلف ستار السرعة التي تفرضها الحياة الحديثة. وهنا يظهر نصف المثقف باعتباره ناتجًا طبيعيًا لثقافة سريعة الإشباع، لكنها فقيرة الجذور.

ورغم كل ذلك، ما زلت أؤمن بأن الوعي الحقيقي قادر على التمييز، وأن المرء، ما إن يحرص على تربية ذائقته وتهذيب أدواته، حتى يصبح أقل عرضة للانخداع بتلك الصورة البراقة التي يروّج لها أصحاب المعرفة الناقصة. فالمعرفة رحلة طويلة تتطلب صبرًا وصدقًا مع الذات، وتواضعًا أمام عمق الحياة واتساعها، بينما نصف المعرفة قد يمنح صاحبه وهجًا سريعًا، لكنه لا يمنحه القدرة على فهم العالم أو قراءة تعقيداته.

والمعرفة التي تنبع من فضول حقيقي، ومن قلب يتسع للاحتمالات، ومن عقلٍ يقدّر التفاصيل بقدر ما يقدّر الخلاصات، هي وحدها القادرة على حماية المجتمع من مخاطر الوعي الناقص. وكلما ازداد حضور هذا النوع من المعرفة، تراجعت سلطة نصف المثقف، وخفّ أثره، وانكشفت هشاشة الأسس التي يقف عليها.

وهكذا، يصبح الخوف الحقيقي ليس من الجهل ذاته، بل من ذلك القناع الذي يشبه المعرفة ولا يمتلك روحها، أي من ذلك الظلّ الذي يبدو في أول وهلة مطمئنًا، لكنه يخفي وراءه مساحة من الالتباس قد تجرّ المجتمع كله نحو قراءة خاطئة للواقع.

مساحة إعلانية