رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. م. جاسم عبدالله جاسم ربيعة المالكي

نائب رئيس المجلس البلدي المركزي (سابقاً)

مساحة إعلانية

مقالات

0

د. م. جاسم عبدالله جاسم ربيعة المالكي

باستقامة العدالة.. تستقيم مسارات السلام

08 ديسمبر 2025 , 02:25ص

افتتح حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى – حفظه الله – منتدى الدوحة السبت 6 ديسمبر، في توقيت إقليمي ودولي بالغ الحساسية، تتكاثف فيه الأزمات وتتسارع التحديات، وتبرز فيه الحاجة إلى خطاب عقلاني يعيد الاعتبار لقيم العدالة والسلام في عالم أنهكته الصراعات. وجاء انعقاد المنتدى ليؤكد مكانة الدوحة كمنصة دولية للحوار، لا تكتفي بطرح القضايا، بل تسعى إلى مقاربة جذورها بعيدًا عن منطق الاستقطاب والحلول المؤقتة.

ولا يمكن النظر إلى منتدى الدوحة بوصفه ملتقى تقليديًا للنقاش السياسي أو الفكري، بل باعتباره مساحة لإعادة التفكير في المفاهيم الكبرى التي تحكم العلاقات الدولية، وفي مقدمتها مفهوم السلام، الذي لم يعد ممكنًا عزله عن العدالة. فالسلام المنشود في المنطقة لا يمكن أن يُبنى على تفاهمات هشة أو تسويات مرحلية لا تلامس جوهر الأزمات، بل يحتاج إلى أساس راسخ يقوم على الإنصاف واحترام الحقوق ومعالجة المظالم المتراكمة.

لقد أثبتت التجارب أن غياب العدالة شكّل العامل المشترك في معظم النزاعات التي شهدتها المنطقة على مدى عقود. فحين تُهمَّش الحقوق، ويُتجاوز القانون، وتُفرض الحلول بالقوة أو وفق موازين الأمر الواقع، يتحول السلام إلى هدنة مؤقتة سرعان ما تنهار. أما حين تُتخذ العدالة مرجعية للقرار السياسي، فإن فرص الاستقرار الحقيقي تتعزز، وتغدو مسارات السلام أكثر وضوحًا وقابلية للاستمرار.

ومن هنا تبرز أهمية الطرح الذي يتبناه منتدى الدوحة، حيث يتم الربط بوضوح بين العدالة والسلام باعتبارهما مسارين متلازمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر. فالمنتدى يسلط الضوء على حقيقة جوهرية مفادها أن إدارة الأزمات لا تعني حلها، وأن الاكتفاء باحتواء النزاعات دون معالجة أسبابها العميقة لا يصنع أمنًا ولا استقرارًا طويل الأمد. وهو طرح يعكس وعيًا متقدمًا بأن جذور الأزمات في المنطقة غالبًا ما تكون سياسية وقانونية وإنسانية قبل أن تكون أمنية.

وتتجاوز العدالة في هذا السياق معناها القانوني الضيق، لتشمل العدالة السياسية التي تضمن احترام إرادة الشعوب، والعدالة الاقتصادية التي تقلص الفجوات وتحد من التهميش، والعدالة الاجتماعية التي تعزز التماسك المجتمعي وتحد من الاحتقان. وعندما تغيب هذه الأبعاد، يتولد شعور عام بالظلم والإقصاء، يتحول بمرور الوقت إلى بيئة خصبة للصراع وعدم الاستقرار.

كما أن ترسيخ العدالة يسهم في بناء الثقة، سواء بين الدول بعضها البعض، أو بين الشعوب ومؤسسات النظام الدولي. فالشعوب التي تشعر بأن قضاياها تُناقش بإنصاف، وأن حقوقها لا تخضع لمعايير مزدوجة، تكون أكثر استعدادًا للانخراط في مسارات السلام والتعايش. أما حين يسود الشعور بالكيل بمكيالين، فإن الخطاب الداعي إلى السلام يفقد مصداقيته، ويتحول إلى مجرد شعارات لا صدى لها على أرض الواقع.

ويبعث انعقاد منتدى الدوحة في هذا التوقيت برسالة واضحة مفادها أن السلام ليس نتاج صفقات عابرة، بل ثمرة مسار طويل يتطلب شجاعة سياسية، واحترامًا للقانون الدولي، والتزامًا أخلاقيًا تجاه الإنسان وحقوقه. وهي رسالة تتجاوز الإطار الإقليمي لتؤكد أن الاستقرار الحقيقي يبدأ من العدالة، لا من موازين القوة أو من فرض الأمر الواقع.

وفي عالم تتراجع فيه الثقة بالنظام الدولي، وتتصاعد فيه الأزمات، تبرز الحاجة إلى منصات حوار مسؤولة تُعيد الاعتبار للقيم الإنسانية في العمل السياسي. ومن هذا المنطلق، يشكل منتدى الدوحة نموذجًا لخطاب متزن يسعى إلى تقريب وجهات النظر، وطرح الأسئلة الصعبة، والبحث عن حلول تقوم على الحق والإنصاف.

وخلاصة القول، إن السلام الذي لا تحرسه العدالة يظل سلامًا هشًا، والاستقرار الذي يتجاهل الحقوق يبقى استقرارًا مؤقتًا. أما حين تستقيم العدالة، فإن مسارات السلام لا تعود شعارات أو أمنيات، بل تتحول إلى واقع ممكن، ومستقبل يمكن البناء عليه بثقة.

فالعدالة ليست مطلبًا أخلاقيًا فحسب… بل هي الشرط الوحيد لسلام لا ينكسر.

مساحة إعلانية