رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

هديل رشاد

صحفية فلسطينية

مساحة إعلانية

مقالات

345

هديل رشاد

«بيت حانون».. المبتدأ والخبر

09 يوليو 2025 , 04:42ص

في الوقت الذي يواصل فيه الاحتلال الإسرائيلي قصفه الوحشي على غزة، مستندًا إلى غطاءٍ سياسيّ دوليّ، جاءت عملية بيت حانون المركبة الأخيرة لتضرب في عمق الصورة التي حاولت حكومة نتنياهو رسمها عن نفسها، ولتُعيد صياغة المعادلة الميدانية والسياسية دفعةً واحدة. فالعملية لم تكن مجرّد ردّ فعل ميداني على العدو، بل كانت صفعة استراتيجية أوقعت قتلى في صفوف جيش الاحتلال، وأحرجت القيادة الإسرائيلية على أعلى مستوى، وفي لحظة كانت تحاول فيها استعراض القوة من على منصة البيت الأبيض.

فقد نفّذت المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها كتائب القسام، مساء الأول من أمس، عمليةً محكمةً في بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، أسفرت عن مقتل خمسة جنود إسرائيليين وإصابة أربعة عشر آخرين بجراح متفاوتة، بعضهم في حالة حرجة. تمّ الهجوم من خلال كمينٍ مركّب وتفجير عبواتٍ ناسفةٍ متسلسلة، بالتزامن مع اشتباكات مباشرة مع قوات الاحتلال التي كانت تحاول التقدّم في المنطقة.

الكمين لم يكن عبثيًا، بل جاء جزءًا من تصعيد محسوب من جانب المقاومة، ردًّا على عملية “عربات جدعون” التي أطلقها جيش الاحتلال في شمال القطاع. وهذه العملية الميدانية – التي تأتي ضمن موجة ثالثة من المواجهات في بيت حانون – كشفت حجم الانكشاف العسكري الإسرائيلي، على الرغم من مزاعم المؤسسة الأمنية بالسيطرة والتفوق التقني.

ما يجعل هذه العملية استثنائية ليس فقط حجم الخسائر التي أوقعتها الفصائل الفلسطينية في صفوف جيش الاحتلال، وإنما توقيتها السياسي الدقيق. ففي اليوم ذاته، كان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يقف في العاصمة الأمريكية واشنطن، في زيارة رسمية يرافقه فيها وفد أمني، وعلى جدول أعماله “الاحتفال” بانتصار مزعوم ضد إيران، وتسويق التقدم العسكري في غزة كمنجز استراتيجي أمام إدارة ترامب.

الزيارة كانت تحمل طابعًا احتفاليًا بامتياز، عنوانها الضمني: “شرب نخب النصر” بعد الضربات الجوية المتبادلة بين تل أبيب وطهران قبل أسابيع. لكن المقاومة اختارت أن تفسد هذا المشهد الهزلي. فخلال ساعاتٍ فقط من لقاء نتنياهو مع دونالد ترامب ومسؤولي البيت الأبيض، جاءت أنباء مقتل خمسة من جنود الاحتلال في بيت حانون، لتقلب الشارع الإسرائيلي رأسًا على عقب، وتحرج المؤسسة العسكرية في تل أبيب.

الإعلام العبري لم يتأخر في التقاط التناقض: كيف يحتفل نتنياهو في واشنطن بـ”نصر تاريخي” في إيران، بينما جنوده يُسحبون قتلى ومصابين من شوارع بيت حانون؟ هذه المفارقة لم تمرّ مرور الكرام، بل اعتُبرت في أوساط إسرائيلية يومًا أسود من أيام حكومة نتنياهو – يوم انكشفت فيه الأزمة، واتّضح أن الحديث عن نهاية الحرب لا يعني شيئًا في مواجهة الواقع الميداني على الأرض.

العملية في بيت حانون لم تُربك فقط حسابات القيادة العسكرية، بل أحرجت الحكومة الإسرائيلية بأكملها، والتي كانت تأمل أن تثبت، عبر زيارة واشنطن، أن مشروعها العسكري في غزة يؤتي ثماره، وأنَّ المهلة التي منحتها الإدارة الأمريكية لاستئناف الحرب على غزة من أجل تحقيق نصرٍ، ولو شكليًّا، قد آتت أُكلها. إلا أن هذه العملية جاءت كضربة مضادة، كسرت الصورة، ومزّقت الخطاب، وكشفت الهشاشة التي تنهش جيش الاحتلال، الذي لا تقوى آلته العسكرية إلا على المدنيين العزّل. لقد عرّى الميدان هشاشتهم، وأظهر ضعفهم وقلة حيلتهم في مواجهة أسلحة يدوية الصنع، صُنعت بأيدي رجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

وقد يكون الأهم من الخسائر البشرية والمادية، هو ما تعكسه هذه العملية من دلالات استراتيجية. فالمقاومة لا تزال تحتفظ بقدرتها على التخطيط والتنفيذ، وتختار التوقيت والمكان المناسبين، وتُباغت الجيش في أرتاله وتحركاته، وهو ما ترجمه الناطق العسكري باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، حين قال: “سندكّ هيبة جيشكم”.

ورغم القصف المتواصل والحصار الخانق، كشفت تقارير وتحليلات عسكرية أن نحو ٧٥٪ من إصابات جنود الاحتلال خلال الأسابيع الأخيرة كانت نتيجة كمائن العبوات الناسفة، وهو ما يؤكّد أن رجال المقاومة لا يزالون يملكون اليد العليا ميدانيًّا، وأنهم وحدهم القادرون على قراءة جغرافيا أرضهم، واستثمارها في قتالٍ غير تقليدي ينهك جيشًا يوصف بأنه الأقوى في الشرق الأوسط.

لقد كانت بيت حانون وما تزال نقطة نزف مفتوحة لجيش الاحتلال، ولا تزال المقاومة تمارس فيها أعلى درجات الانضباط القتالي، والتنسيق الميداني، والقدرة على المبادرة. هذا يؤكد أن ما يجري ليس مجرّد معركة دفاع، بل معركة تحطيم هيبة وردع. جاءت عملية بيت حانون لتثبت أن الميدان هو الذي يقرّر مصير السياسة، لا العكس، وأن العمل العسكري الميداني هو وحده القادر على فرض شروط المفاوضات، وتحديد خطوطها الحمراء، ورسم نهايات الحروب.

ختاما

فشل جيش الاحتلال في تحقيق أي هدف استراتيجي حقيقي: لم يسقط مشروع المقاومة، لم يُنهِ وجود حركة “حماس”، ولم يتمكّن من حماية جنوده من القنص والكمائن. بل على العكس، كل يوم يمر على جنوده في غزة، هو فرصة إضافية للمقاومة لإلحاق المزيد من الخسائر، ليس فقط المادية، بل المعنوية والنفسية العميقة.

هذه الخسائر تضرب في عمق المعنويات. كل جندي يسقط، كل دورية تنفجر، كل دبابة تُحرق، تُقطّع أوصال الثقة بين القيادة والجنود، وتزرع الهلع في صفوفهم. هذا ليس مجرّد عدد في تقرير عسكري، بل انهيار في صورة الجيش الإسرائيلي، وتحطيم متواصل لهيبته التي لطالما راكمها فوق أجساد المدنيين.

وقد يكون الإصرار على مواصلة الحرب على غزة بتوجيهات «النتن ياهو»، ضرباً من المكابرة السياسية، وهو يعلم في قرارة نفسه، أن كل خسارة يحصدها جيشه، ليست مجرد رقم في سجل العمليات، بل مسمارٌ يُدق في نعش حكومته البائسة.

مساحة إعلانية