رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

هديل رشاد

صحفية فلسطينية

مساحة إعلانية

مقالات

45

هديل رشاد

غزة.. مرور الكرام

24 ديسمبر 2025 , 06:16ص

كان محتضنًا ابنته ليحميها من البرد القارس، كما اعتاد في هكذا أحوال، كان يحاول أن يصنع من جسده مدفأة لها، يتوسل لأي ذرة دفء أن تسري من بين أضلاعه نحو جسدها النحيل، كان يفرك كفّيه ببعضهما علّ احتكاكهما ينتج حرارةً، ثم يلفّ بهما كفّي ابنته الصغيرة ذات الأشهر الستة، بعد أن نفدت حلول الأرض كلّها في إيجاد دفء داخل خيمته الممزّقة التي اقتلعها المطر وشرّد مَن بقي تحتها، تمامًا كما يريد المحتل أن يقتلع الغزيين من أرضٍ ارتوت بدماء أبنائها الشرفاء، ونسائها الماجدات، وشيوخها الكرام.

كان يحاول بكل ما تبقّى له من قوة أن يحافظ على آخر ما تبقى من عائلته التي مزّقت الحرب أوصالها، لكنه فوجئ بأن محاولاته المستميتة لحمايتها لم تُجدِ نفعًا، فهدأت أنفاسها شيئًا فشيئًا، وكأنها تستسلم لإرادة الطقس القارس، بدأ يهزّها برعب، يناديها بصوتٍ متقطّع: «بابا… قومي، قومي يا با»، محاولًا أن يعيد الروح إلى جسدها الذي بدأ يتحوّل إلى قطعة جليد يابس. وعندما أدرك الحقيقة، صرخ من أعماقه: «يا الله»، صرخةً اختلط فيها الظلم بالعجز، والمرارة بالانهيار، اتهم الدنيا كلها باللاعدالة، واستغاث بآخر أنفاسها علّها تعود إليه ولو لحظة.

هذا المشهد ليس بداية فيلم، ولا مقدّمة رواية تنافس على الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، ولا مشهدًا مفبركًا لرفع مشاهدات إحدى المنصات!، هو مشهد حقيقي من قلب المعاناة التي يعيشها الغزيون يوميا، مشهد اختزله عقلي المثخن بالمشاهد الموجعة، وربما كان أقلّها قسوةً رغم فداحته، لكنه إنسانيا بامتياز، فقد عرَّى أمةً بأكملها، وأسقط عنها آخر ورقة توتٍ كانت تغطي تخاذلها، هو مشهد واحد ضمن آلاف المشاهد التي كان ضحيتها الفلسطيني أينما كان، والغزيّ الذي حاول أن يصدّق أنّ للمحتل عهدًا ومواثيق، رغم أن التجربة الطويلة تقول العكس، فالإنسان الفلسطيني يتعامل مع الاحتلال بكتاب مفتوح، فيما يتعامل العالم مع الاحتلال بحسن نية لا يستحقها، وحدسٍ يأتي غالبًا في غير محلّه.

وفي مواجهة هذا الواقع القاتم، أطلق مؤثرون وسم #أدخلوا_الكرفانات_ إلى_غزة كصرخة في واد، علَّها أن تحيي الضمائر التي تنعم في سباتها، وتعكس الحاجة الإنسانية العاجلة، وتذكّر بأن البرد دون مأوى فعله كفعل الرصاص بل أشد وطأة فهو الذي يقتل ببطء، الوسم أعاد تسليط الضوء على فجوة ضخمة في توفير الملاجئ والمأوى المؤقت، إذ تُقدّر الحاجة الفعلية بما يقارب 60,000 كرفان و200,000 خيمة لإيواء العائلات التي دُمّرت منازلها، وفق تقارير محلية ومنظمات إنسانية. ومع ذلك، لم يدخل إلى غزة سوى عدد محدود جدا من الكرفانات، وهي وحدات غالبا مخصصة لمؤسسات دولية، فيما تبقى الغالبية العظمى من الناس بلا مأوى يليق بانتمائهم إلى النوع البشري.

وتشير بيانات الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة إلى فجوة مرعبة بين الاحتياج والمتوفر، فبينما يحتاج أكثر من 1.3 مليون شخص إلى مواد إيواء عاجلة، لم تتم تلبية سوى نسبة صغيرة للغاية من هذا الاحتياج، هذا النقص الفادح يعرض المدنيين، ولا سيما الأطفال والرضّع وكبار السن، لخطر مباشر من البرد، ومضاعفات الأمراض، والموت البطيء داخل خيام لا تقاوم الرياح ولا المطر، وفي موجات الطقس القاسية التي ضربت القطاع، سجّلت منظمات إنسانية عشرات الوفيات بسبب البرد وحده.

ولم يتوقف البؤس عند حدود المأوى، فبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، لا يزال 945 ألف شخص بحاجة إلى مساعدات شتوية ضرورية، كما أكدت منظمة الهجرة الدولية (IOM) أن الأطفال الرضّع وكبار السن هم الأكثر عرضة للوفاة المبكرة نتيجة البرودة ونقص التدفئة، وقد وثّقت وكالات الإغاثة وفاة سبعة رضّع على الأقل خلال هذا الشتاء بسبب غياب المأوى المناسب.

أما الجوع، فهو رفيق البرد، وخصمه الأصعب. فوفق بيانات وزارة الصحة الفلسطينية ومنظمة الصحة العالمية (WHO)، تجاوزت الوفيات الناتجة عن سوء التغذية والمجاعة 460 شخصًا، بينهم 154 طفلًا. وبينما يدخل بعض الغذاء منذ وقف إطلاق النار، يبقى 1.6 مليون فلسطيني في حالة انعدام أمن غذائي، ما يجعل البقاء نفسه معركة يومية. 

وما يزيد المشهد قسوة أنّ هذا الواقع لم يعد يثير ضجة كما كان يفعل في بدايات الحرب، الاعتياد قتل الحسّ الإنساني لدى كثيرين، وباتت الصور التي كانت تُبكي العالم تمرّ اليوم مرورًا عابرًا في خوارزميات المنصّات، لكن داخل غزة، لا شيء عابرا؛ فكل خيمة تحمل حكاية، وكل أسرة لديها شهيد أو جائع أو طفل أو رضيع قضى برداً، كثير من العائلات باتت بلا مأوى بكل ما تحمل الكلمة من معنى، هذا التآكل البطيء للكرامة الإنسانية هو الوجه الآخر للحرب التي يحياها الغزيون رغم الاتفاقيات والهدن!، وهو ما يجعل توفير الكرفانات والاحتياجات الرئيسية أكثر من مجرد مطلب إغاثي، بل مطلب حياة.

ختاما

هذه الفجوة بين الاحتياجات والواقع لا تكشف فقط قصور الاستجابة الإنسانية، بل تفضح حجم ضعفنا واعتيادنا على المشهد،رغم أنَّ وسم #أدخلوا_الكرفانات_إلى_غزة هو بمثابة نداء حياة؛ وتذكير بأن كل يوم تأخير يعني روحًا ستزهق مع كل تقاعس عن تلبية نداء الاستغاثة هذا.

اقرأ المزيد

alsharq عولمة قطر اللغوية

حين تتكلم اللغة، فإنها لا تفعل ذلك طلبًا للاحتفاء، بل إعلانًا للسيادة. لا تتحدث من باب العاطفة، بل... اقرأ المزيد

99

| 24 ديسمبر 2025

alsharq حفل جمع الأُمة والأئمة

تابعت بكل شغف حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية والذي عُرض فيه فيلم عن البوابة الإلكترونية الجديدة... اقرأ المزيد

54

| 24 ديسمبر 2025

alsharq حين تصبح الرؤية واقعاً

في مراهقتي كنت أراها في المجلات ، أقص صورها وألصقها في دفتر خاص، وأكاد أجزم أنه يستحيل أن... اقرأ المزيد

57

| 24 ديسمبر 2025

مساحة إعلانية