رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
طالت الخسائر غير المسبوقة على الاقتصاد العالمي لجميع الدول، ومن المتوقع أن تستمر فترة كبيرة لمعالجتها وستختلف الأمور من دولة لأخرى حسب ملاءتها المالية والاحتياطات النقدية التي ستمكّنها من الإنفاق على خطط التحول المطلوبة باقتصاد ما بعد كورونا. رغم الاتفاق على أهمية خطط التحفيز الضخمة التي رصدتها الحكومات حول العالم للتعافي من تداعيات الفيروس، إلا أنها حملت معها تأثيرات سلبية تستمر بالضغط على الاقتصاد العالمي بعد إنقضاء الجائحة.
صحيح أن خطط التحفيز المالي والنقدي كانت ضرورة قصوى لتجنّب الدخول في كساد عظيم، إلا أن هذه الخطط أغرقت العالم بالسيولة والقروض الرخيصة التي أغرت المتعثرين وغير المتعثرين في الاقتراض بنحو لافت رغم ضبابية المشهد الاقتصادي. وعلى أعتاب الخسائر التي أدّت إلى شلل في الاقتصاد العالمي، نتوقع أن تكون هناك دول غير قادرة على تخطي النتائج الفادحة التي خيّمت على نشاطها المالي والتجاري، وتبقی الدول القوية التي تمتلك الاحتياطيات الجيدة إضافة إلى الصناديق السيادية، هي المؤهلة لتخطي الركود المتوقع، كذلك بعض دول الخليج التي حافظت على أسس اقتصادية جيدة رغم الخسائر. إن دعم القطاع الخاص والعمل على إعادة برامج الإنفاق والتوجه نحو تنوّع الاقتصاد، كل ذلك سوف يعزز من الاستقرار في الاقتصاد العالمي.
التحفيز سلاح ذو حدين، لأنه في حالة تعافي الاقتصادات بصورة سريعة ورجوع الاقتصادات العالمية إلى ما كانت عليه، سيكون ذلك بمثابة تمويل قصير الأجل، ساعد في تعافي الأسواق والحفاظ على عدم حدوث خلل في الاقتصاد العالمي. في المقابل، في حالة عدم التعافي السريع سوف يدخل السوق العالمي في موجة من التضخم أو الكساد التضخمي، أي زيادة الأسعار مع انخفاض انعدام القدرة الشرائية لدى المستهلكين، مما يكون له أثر سلبي كبير على الاقتصاد. أظهرت تقارير أن هناك عددًا من القطاعات سوف تتصدر المشهد الاقتصادي العالمي جرّاء انتشار الفيروس، أولها: "الصيدلة والمعقّمات" والتي لمع بريقها مع انتشار الجائحة عالميًا، حيث تسبب الانتشار في تهافت الناس من جميع أنحاء العالم على الصيدليات بقصد شراء المطهرات والمعقمات والفيتامينات والأقنعة "الكمامات" وغيرها من الأدوية بهدف الاحتفاط بكمية مناسبة منها للاستخدام الشخصي.
وجاء قطاع التجارة الالكترونية ثانيًا حيث ازدادت عمليات الشراء عبر الانترنت نتيجة تجنب الأماكن العامة، وشهدت عمليات التجارة الإلكترونية المرتبطة بقطاع التجزئة نموًا ملحوظًا، بالإضافة إلى زيادة عدد زوار المواقع المخصصة بعرض المنتجات وزيادة أعداد الذين يقومون بعمليات الشراء، كما احتلت التطبيقات الذكية ثالث القطاعات المتصدرة، ففي ظل الوضع الراهن ورغبة العديد من العملاء في تجنب الخروج من المنزل والاختلاط بالعامة قدر الإمكان، ارتفع الطلب على التطبيقات الذكية التي تساعد في تقديم الخدمة عن بعد.
وجاء قطاع التعليم عن بعد وكل مخرجاته الاقتصادية رابع القطاعات الأكثر نموًا على المستوى العالمي، حيث قامت معظم دول العالم مؤخرًا بتطبيق نظام التعليم عن بعد في مدارسها وجامعاتها. وجاء قطاع تأسيس منصات الذكاء الاصطناعي خامس أهم القطاعات حيوية مع انتشار الجائحة عالميًا، حيث دخلت تقنيات الذكاء الاصطناعي على خط المواجهة ضد تفشي كورونا بشكل كبير، وذلك من خلال استخدام البرامج التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لإيجاد الحلول المباشرة في ظل التباعد الاجتماعي المفروض.
أما علی صعيد القطاعات الأكثر تضررًا من جرّاء انتشار الجائحة عالميًا، كان قطاع السياحة والسفر الأكثر تضررًا، حيث تشهد معدلات السياحة العالمية تراجعاً ملحوظاً بسبب انتشار الجائحة، ويمثل التراجع ما نسبته 1-3. %
وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش إنه خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام تراجعت حركة السياح الأجانب إلى الدول بأكثر من النصف وتمت خسارة نحو 320 مليار دولار من العائدات السياحية، وقد تصل الخسائر الإجمالية لعام 2020 الى أكثر من 900 مليار دولار، بحسب أرقام الأمم المتحدة.
واحتلّ قطاع "الطيران" ثاني القطاعات الأكثر تضرراً، حيث تأثرت شركات الطيران بشكل خاص بانتشار فيروس كورونا بسبب تطبيق قيود السفر في معظم دول العالم، حيث قال الاتحاد الدولي للنقل الجوي "إیاتا" إن خسائر القطاع تبلغ 419 مليار دولار حتى الآن.
واحتل قطاع الفنادق وخدمات الضيافة ثالث القطاعات الأكثر تضررًا، ويشار إلى أن الأسعار المتعلقة بحجز الفنادق قد انخفضت بشكل كبير. ويمثل قطاع "التصدير" رابع أكبر المتضررين، حيث انخفضت صادرات الصناعات التحويلية في جميع أنحاء العالم، كما تضرر قطاع الخدمات اللوجيستية بسبب انتشار الفيروس. ويعد قطاع "التجارة والخدمات" أحد أهم المتضررين نتيجة الجائحة، كما أن قطاع السیارات يعتبر أحد أبرز القطاعات المتضررة عالميًا.
ذكر تقرير لمنظمة العمل الدولية، أن 200 مليون من الموظفين بدوام كامل فقدوا وظائفهم بسبب "كوفيد-19" بعد فرض إجراءات الإغلاق الكامل أو الجزئي في العديد من الدول، وما حمله ذلك من تأثير على نحو 2،7 مليار عامل، أي 4 من بين كل 5 من القوى العاملة في العالم. أنهك الوباء العالم، الذي توهّم أن الأوبئة القاتلة صارت جزءًا من الماضي، أنهك البشر وسجّل في القتل رقماً مخيفاً وفي الإصابات رقماً مقلقاً. أنهك الدول أيضا.، وهزّ الاقتصادات وشلّها وفكّك سلاسلها وعطّل مصانعها وأسكت الطائرات والقطارات، وضرب السياحة وترك الفنادق والمطاعم والأسواق في عهدة الفراغ والكآبة، كما دفع عشرات الملايين إلى البطالة وعدداً هائلاً من الشركات إلى الإفلاس. وأفقر الوباء الناس ووزّع عليهم أرغفة الخوف والقلق وأرغمهم على الإقامة وراء كماماتهم يتساءلون يومياً عن الأرقام القياسية الجديدة التي حققها هذا القاتل المتسلسل. وقَصَمَ الوباء ظهر المستشفيات وأصاب الأطقم الطبية، وضرب المحاصيل وألحق ضرراً فادحاً بالتعليم.
كان العالم في أمسّ الحاجة إلى بارقة أمل؛ أملٍ في اكتشاف اللقاح ووصوله إلى الجميع وأملٍ في تضميد جراح الاقتصاد العالمي على قاعدة التضامن في مواجهة الكارثة ومساعدة الدول التي ترزح تحت أعباء الديون أو الفقر. من حسن الحظ أن قمة الرياض لمجموعة العشرين بعثت برسالة الأمل هذه، عبر التأكيد على "توزيع عادل ميسَّر للقاحات" والتشديد على "حشد طاقات الدول المشاركة لمعالجة المشكلات الاقتصادية التي نجمت عن الجائحة". وقد بدأ العالم يلمس جدية هذه التأكيدات، على رغم من ملاحظة اللاعدالة الموصوفة والمعايير المزدوجة التي تطبّق وتميّز بين دول غنية وأخرى فقيرة.
ونحن نودع العام 2020، نرجو أن يحمل العام 2021 معه عودة الرجاء والأمل بانتهاء مرحلة تُعتبر الأسوأ في التاريخ الحديث، والبدء في إعادة ترميم وإعمار ما دمّرته جائحة أثقلت كاهل البشرية وهي ستترك ندوباً عميقة في مختلف قطاعاته الاقتصادية لأعوام طويلة..
وكل عام وأنتم بخير.
والرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5058
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3693
| 21 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
3426
| 24 أكتوبر 2025