رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس لدينا في قطر إشكالية مع أصحاب النقد البناء.. لكن ما نرفضه هو "الإساءات" و"البذاءات" و"الإسفاف"
جهات رسمية وأخرى خاصة قامت بتوجيه دعوات لشخصيات أساءت لقطر.. كيف تم ذلك؟
بين فترة وأخرى يتفاجأ المجتمع والرأي العام المحلي بقيام وزارات ومؤسسات وجهات مختلفة بدعوة شخصيات سجلها مليء بـ "الإساءات" لقطر ورجالاتها، وهو أمر في غاية الاستفزاز لمشاعر المواطنين.
وحتى تكون الصورة واضحة، ليس لدينا في قطر إشكالية مع أصحاب النقد البناء لأي توجه أو سياسة أو منهج معين، فالنقد مرحب به في جميع المستويات، طالما كان نقدا بناء وموضوعيا ومحترما، لكن ما نرفضه هو "الإساءات" و"البذاءات" و"الإسفاف" التي تتبناها بعض الشخصيات بدعوى "الحريات" و"حرية التعبير"، وهي براء من ذلك.
فلطالما استقبلت قطر ضيوفا لديهم وجهات نظر تختلف معها، وتحاورت مع الجميع دون تحفظ، بل أصبحت قطر منصة للحوار بين جميع الفرقاء في أوطان عربية مختلفة، فما بالكم بمن يختلفون معها في وجهات النظر في إطار من الاحترام والموضوعية والنقاش الحضاري.
إلا أن ما يؤسفنا أن هناك "رعاع" يقذفون قطر وقيادتها وشعبها بكل ما هو سيئ، وبكل ما هو بذيء، وبكل ما لا يليق خلقا وعرفا.. حتى في "جاهلية " قريش، ثم نجد بعض الدوائر والأطراف تدعو هؤلاء، وتستضيفهم في ندوات وفعاليات ومشاركات ومهرجانات، وهو أمر يستفز الرأي العام بشكل كبير، ويدعو للاستغراب من دعوة هذه الشريحة "الهابطة"، وكأن العالم العربي قد خلا من الشرفاء والفرسان عند الاختلاف.
نعم تمت دعوة شخصيات أساءت لقطر في عدد من القطاعات، ولا أريد هنا الإشارة إليها، وتصدى لهذه الدعوات الإعلام بكل فئاته، وهنا أوجه الشكر والتقدير تحديدا لزملائي الإعلاميين في عالم "تويتر" تحديدا، الذين كان لهم دور إيجابي وفاعل ومنصف بعيدا عن بعض الأطراف "الغوغائية" في الدفاع عن المجتمع وقيمه وأخلاقياته وعاداته وتقاليده..
وحتى نضع النقاط على الحروف، فإننا لا نطعن أبدا في الإخوة الأفاضل، سواء في الوزارات أو المؤسسات التي أقدمت على دعوة بعض الشخصيات، التي لها مواقف مسيئة لدولة قطر، ونحسن الظن بهم، ولكن ظني أن الدعوات لتلك الشخصيات توجه من شركات علاقات عامة أجنبية أوكلت لها مهمة اختيار أو تنظيم أو الإشراف على هذا المؤتمر أو الفعالية أو المهرجان، دون أن تكون لها متابعة أو مراجعة لما قامت به، أو للشخصيات التي قامت باختيارها، وللأسف فإن الاختيار يتم دون النظر إلى سجل ومواقف هؤلاء، وفي كثير من الأحيان يتم تناقل قوائم بأسماء تلك الشخصيات من شركة علاقات عامة إلى أخرى، وبالتالي يتم توجيه الدعوات لتلك الشخصيات، ثم يتفاجأ صانع القرار في الوزارة أو المؤسسة أو المسؤول عن أن قوائم المدعوين تتضمن هذه الشخصية، بعدما يكون الإعلام بما فيها شبكات التواصل الاجتماعي قد كشف ذلك.
الأمر الآخر الذي أرجح أن يكون سببا في دعوة شخصيات "مسيئة" للحضور إلى قطر، هو أن بعض الفعاليات أو المهرجانات تسند مسؤولية الإشراف عليها لأشخاص ليس لديهم الإلمام الكافي بالقطاع نفسه، ولا دراية لهم بمواقف الشخصيات التي ستتم دعوتها، وفي أحيان كثيرة يطلب من أطراف أخرى ترشيح شخصيات لدعوة، فتدخل العلاقات الشخصية والمعارف والصداقات في الدعوات، دون النظر إلى مدى الاستفادة من تلك الشخصية في مثل هذه الأحداث، وما يمكن أن تضيفه إلى هذه الفعاليات المدعوة لأجلها، أو مواقفها من قطر.
لذلك من المهم على مختلف الجهات، حكومية كانت أو في القطاع الخاص، التدقيق جيدا في الشخصيات التي تتم دعوتها إلى الأحداث التي تستضيفها الدولة، أو تقام باستضافة من أطراف أخرى في القطاع الخاص، فمن غير المعقول أن يأتوا إلى البلد وهم يحملون اضغانا واحقادا تجاهه، بل البعض منهم لا يتورع أن يسيء إلى قطر وهو فيها، كما شاهدنا ذلك من قبل شخصية أرادت بموقف ممجوج إضحاك الجمهور عبر عبارات ساقطة.
قطر مواقفها تجاه قضايا أمتها مشرفة وترفع الرأس ويفتخر بها المواطن وكل الشرفاء، وبالتالي لا نريد أن "نلوث" هذه المواقف بدعوة شخصيات لا تمثل إضافة، وفوق ذلك لها مواقف "سيئة" ليس فقط تجاه قطر، بل حتى مواقفها سلبية و"سيئة " تجاه قضايا الأمة.
إن هذه القضية تكررت أكثر من مرة من قبل جهات رسمية، وليس فقط أطراف في القطاع الخاص أو مراكز تدريبية، وهو ما ينبغي الالتفات إليه، والتأكد من الشخصيات التي تتم دعوتها.
نعم أكررها لسنا ضد من يختلف معنا في وجهات النظر، أو يوجه انتقادا موضوعيا لسياسة، أو أسلوب، أو منهج معين..، لا نعمل حجرا على هؤلاء، على العكس، فمثل هؤلاء الصادقين في انتقادهم، والمحترمين في الاختلاف معهم، يمكن أن يشكلوا إضافة، لكن أولئك الذين "يغرفون" من "مستنقع" مليء بـ "القذارة" و"الإسفاف" و"الانحطاط"، لا يمكن القبول أو الترحيب بهم.
إنني أتمنى من كل الجهات الحرص على اختيار الشخصيات التي يمكن أن تشكل إضافة حقيقية، عند الرغبة في توجيه الدعوات لحضور فعاليات أو أحداث في قطر، وألا تكون سياسة "هذا ما وجدنا عليه آباءنا" هي السائرة والمعتمدة عند توجيه الدعوات، فهناك من المدعوين من يشكلون عبئا على الجهة الداعية، دون أن يشكلوا إضافة، بمن فيهم — بالمناسبة — شخصيات إعلامية، الذين يدعى الكثير منهم لأحداث تقام دون أن يكون لهم دور إيجابي، بل إن البعض منهم ربما لم يعد يعمل في مؤسسات إعلامية، إنما يدعى ضمن "قوائم" مضت عليها سنوات، وتتناقل من جهة لأخرى.
نختلف مع آخرين نعم.. نسامح ونتجاوز عن من أخطأ في حقنا الشخصي نعم.. لكن لا نقبل من يسيء إلى وطننا أو قيادتنا أو رجالات هذا البلد، ثم يدعى ويستضاف وتفتح له الأبواب.
تأهيل ذوي الإعاقة مسؤولية مجتمع
لم يعد الحديث عن تأهيل ذوي الإعاقة مجرد شأن إنساني أو اجتماعي بحت، بل أصبح قضية تنموية شاملة... اقرأ المزيد
207
| 24 أكتوبر 2025
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز بالتّجدّد وتظهر دائما من خلال المشاريع الجديدة العملاقة المعتمدة على... اقرأ المزيد
693
| 24 أكتوبر 2025
لا تنتظر الآخرين لتحقيق النجاح
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالبا ما نعتمد على الآخرين لتحقيق النجاح والسعادة. نعتمد على أصدقائنا وعائلتنا وزملائنا... اقرأ المزيد
120
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
5166
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3702
| 21 أكتوبر 2025