رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
نعم.. التميز ثقافة وهي خيار الدولة القطرية في كل مجالات الاقتصاد والتربية والرياضة والصحة العامة والتنافس التجاري وكذلك في السياسة الخارجية الذكية التي تقوم على الجمع بين أمرين هما حماية المصالح الوطنية وتقديم الوساطة من أجل إطفاء حرائق الصراعات المنذرة بالاشتعال بين الدول المتجاورة أو حتى بين الفصائل المتقاتلة في نفس المجتمعات. ولنأخذ مثلا قطاع التربية والتعليم الذي تضافرت فيه جهود الدولة وجهود صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر منذ تشييدها لتلك القلعة العلمية والتعليمية المتمثلة اليوم في مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع وفي المدينة التعليمية الرائدة التي تأوي أعرق وأشهر الجامعات العالمية ويتخرج منها شباب طموح مزود بأعلى المعارف والمهارات متحفزين لخدمة الوطن ورفع رايته عالية بين شعوب العالم. وفي هذا القطاع نذكر بأن حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، حفظه الله ورعاه، تفضل فشمل برعايته الكريمة حفل جائزة التميز العلمي في دورتها السابعة عشرة 2024، الذي أقيم تحت شعار «بالتميز نبني الأجيال». وكرَّم سمو الأمير الفائزين بجائزة التميز العلمي لهذا العام والبالغ عددهم (60) فائزًا من حملة شهادتي الدكتوراة والماجستير وخريجي الشهادتين الجامعية والثانوية والطلاب المتميزين في المرحلتين الابتدائية والإعدادية إضافة إلى فئات المعلم المتميز والمدرسة المتميزة والبحث العلمي المتميز وذلك من أصل 246 مترشحًا تنافسوا على الجائزة هذا العام حيث تخلل الحفل عرض فيديو حول جائزة التميز كرحلة مستمرة متضمنًا آراء وتطلعات الطلبة المتميزين. وألقت سعادة السيدة بثينة بنت علي الجبر النعيمي وزيرة التربية والتعليم والتعليم العالي السابقة كلمة في الحفل هنأت فيها الفائزين مُعرِبة عن شكرها وتقديرها وعظيم امتنانها لحضرة صاحب السمو لرعايته المستمرة لجائزة التميز العلمي، مؤكدة أهمية التميز في تطوير المجتمع وبناء أجيال المستقبل. وقالت إن جائزة التميز هي الجائزة الوطنية التي تحظى برعاية سموه كإحدى الدلائلِ البارزةِ على مكانةِ العلمِ وتقديرِ المتفوقينَ منَ الطلبةِ والطالباتِ ومن معلمينَ ومديري مدارسَ متميزين. كما أكدت سعادتها أن تنامي مجتمع التميزِ عامًا بعد عام يعكسُ الرؤية الوطنية الثاقبة للقيادة الرشيدةِ التي تضعُ الاستثمارَ في الإنسانِ القطريِّ على رأسِ أوْلَوِيَّاتِها، مشددة على أن التعليمَ الجيدَ ليسَ فقطْ إحدى ركائزِ التنميةِ البشريةِ بلْ إحدى الممكناتِ الرئيسةِ لتحقيقِ أهدافِ الدولةِ التنمويةِ الطموحةِ. وحول دور الرؤية الوطنية في تعزيز التميز قالت سعادتها: «لقدْ شَهِدْنا مؤخرًا إطلاقَ إستراتيجيةِ التنميةِ الوطنيةِ الثالثةِ التي تَمنَحُ الأولويةَ للتنافسيةِ وتعزيزِ الابتكارِ ودعمِ التميزِ المؤسَّسِيِّ سعيًا إلى تطويرِ اقتصادٍ متنوعٍ مزدهرٍ قادرٍ على المنافسةِ في عالمٍ متغيرٍ مما يتطلبُ إعدادَ قوى عاملةٍ جاهزةٍ للمستقبلِ». تجدر الإشارة إلى أن جائزة التميز العلمي يُكَرّم بها المتميزون علميًّا من أبناء دولة قطر في مجالات متعددة من أجل نشر ثقافة الإبداع والتميز في المجتمع القطري ودفع الطلبة إلى مزيد من التفوق والتحصيل العلمي المتميز وخلق التكامل بين الجهود الفردية والمؤسسية من أجل تحسين مخرجات العملية التعليمية والوصول بها إلى المستويات والمعايير العالمية. ونضرب مثالا آخر ساطعا وحيويا في التميز وهو القطاع الصحي حيث استطاعت دولة قطر خلال السنوات القليلة الماضية بناء نظام صحي عام عالمي المستوى وذلك بفضل النهج متعدد القطاعات للصحة والرفاه في البلاد حيث استثمرت الدولة كثيرا في تعزيز صحة ورفاه السكان وتحقيق الاستدامة استرشادا بالرؤية الحكيمة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، وتحقيقاً لرؤية قطر الوطنية 2030 ونتيجة لذلك باتت دولة قطر أول دولة تحصل جميع بلدياتها على لقب المدينة الصحية من منظمة الصحة العالمية إضافة إلى حصول المدينة التعليمية بمؤسسة قطر على لقب المدينة التعليمية الصحية وجامعة قطر على لقب الجامعة الصحية وتطلب الوصول إلى هذا الإنجاز أن وضعت دولة قطر الصحة كأولوية للمدن من خلال تعزيز الصحة والإنصاف والتنمية المستدامة حيث تم تبني هذا النهج الرائد وترجمته إلى مبادرات وسياسات إستراتيجية وأفضل الممارسات من خلال اتباع الأولوية الإستراتيجية وهي «إدماج الصحة في جميع السياسات» بالتعاون الوثيق بين مختلف قطاعات الدولة فأصبح النظام الصحي في دولة قطر متميزا وفريدا من نوعه وبات يحظى بثقة ليس إقليمية فحسب بل وصل إلى المستوى العالمي حيث يتمحور النظام الصحي في قطر حول أهمية التغطية الصحية الشاملة لجميع أفراد المجتمع وتحسين صحة المجتمع القطري وتلبية احتياجات المواطنين والمقيمين والزوار، كما وكيفا، والارتقاء بخدماته إلى أعلى المستويات العالمية لتحقيق رؤية قطر الوطنية 2030 فعلى مستوى المرافق الصحية العامة في البلاد شهدت السنوات الماضية نقلة نوعية في عدد المنشآت الصحية العامة وزيادة كبيرة في الكوادر الصحية وشبه الصحية الكفؤة حيث أظهرت الأرقام الحديثة أنه مع نهاية العام 2023 وصل عدد المستشفيات ومنشآت الرعاية طويلة الأمد في القطاع العام 19 مستشفى ومنشأة وزاد عدد المراكز الصحية في القطاع العام (تشمل المراكز التابعة لمؤسسة الرعاية الصحية الأولية، والمراكز التي يديرها الهلال الأحمر القطري وفق اتفاقية مع وزارة الصحة العامة) إلى 35 مركزا موزعة على مناطق الدولة المختلفة، منها 6 مراكز للصحة والمعافاة بينما بلغ العدد الإجمالي للقوى العاملة الصحية في القطاع العام 29960 عاملاً صحياً. ولنضرب مثلا ثالثا في التميز وهو المعترف به دوليا ألا وهو المجال الرياضي إلى درجة أن الرئيس الأمريكي (ترامب) لم يتردد في التصريح علنا أنه طلب إعانة دولة قطر التي حققت أكبر نجاح في تنظيمها لكأس العالم لمساعدة الولايات المتحدة بتجربتها في تنظيم كأس العالم القادم. ولا ننسى ريادة أول وأكبر مستشفى رياضي في العالم وهو (أسباير) الذي هو مقصد الرياضيين الذين أصيبوا بكسور أو أي ضرر بدني من كل قارات الأرض. مع الملاحظة أن كل المراقبين والمنظمات الرياضية في العالم شهدت لدولة قطر بالتميز والكمال في تنظيم كأس العالم حيث لا تهور أو بلطجة أو حتى مجرد جريح في الحصيلة النهائية كما كان شأن كأس العالم في دول أخرى من العالم حيث اقترنت المباريات باستهلاك الممنوعات من كل نوع بل وأذى الناس وتهشيم المباني والمحلات التجارية. وإذ نكتفي بهذا القدر من أمثلة التميز فنحن نهيب بكل من يريد توثيق الإبداع القطري في المجالات الأخرى أن يطلبها من مواقع الشبكة العنكبوتية.
ترامب يستجيب لأمير قطر والقادة العرب ويعارض ضم الضفة
طالبت في مقال الأسبوع الماضي» تحديات وعقبات أمام نجاح اتفاقية وقف حرب إسرائيل على غزة»- الحاجة لتقديم ضمانات... اقرأ المزيد
216
| 26 أكتوبر 2025
ماذا استفادت القضية الفلسطينية بعد حرب غزة؟
شهدت القضية الفلسطينية واحدة من أكثر اللحظات دراماتيكية في تاريخها الحديث، حين اندلعت مواجهة غير مسبوقة بين فصائل... اقرأ المزيد
93
| 26 أكتوبر 2025
سلامٌ على غزة وأهلها
تباشر قناة الجزيرة منذ أيام مضت أعقبت اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بعد توقيع الاتفاق في شرم... اقرأ المزيد
123
| 26 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6300
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3777
| 21 أكتوبر 2025