رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تزامنًا مع احتفاء مبادرة الأعوام الثقافية بنسختها الخامسة عشرة في عام 2025، دخلت قطر فصلًا جديدًا من فصول الدبلوماسية الثقافية، من خلال أكثر برامجها طموحا حتى الآن، في شراكة مع دولتين في وقت واحد وعام واحد. هذا التطوّر الملحوظ هو المحور الذي تمركزت عليه مقالة رأي نُشرت حديثًا لسعادة السيدة لولوة الخاطر، وزيرة التربية والتعليم والتعليم العالي، في صحيفة عرب نيوز، بعنوان «الدبلوماسية الثقافية في قطر منصة عالمية».
تتطرّق المقالة إلى قطر وكيف أعادت تعريف التبادل الثقافي، فهو ليس تصديرًا أو استيرادًا للهوية من جانب واحد، بل هو حوار يتأسّس ويتطوّر على نحو مشترك. ويظهر ذلك جليّا في الحضور المتنامي للفن القطري المعاصر في الدول الشريكة سابقًا مثل ألمانيا وروسيا والصين، حيث يحظى الفنانون الشباب القطريون والمقيمون في قطر بالظهور العالمي ويُشكلون شبكة علاقات دولية دائمة.
واستشرافاً للمستقبل، من المزمع أن يتجاوز برنامج الأعوام الثقافية مبدأ الشراكات الثنائية السنوية ليصبح منصةً مستمرّة ومتعددة الأبعاد للتفاعل على مستوى عالمي. وتعليقا على ذلك، تقول سعادة السيدة الخاطر في مقالتها: «صحيح أن المبادرة وُلدت هنا، غير أن صداها تخطّى الحدود بكثير». ويُنظر إلى البرنامج اليوم على أنه مركز للثقافة والفكر، يُحفّز الحوار والإبداع والاحترام المتبادل في عصرٍ يشهد تحولاتٍ في السرديات العالمية.
مع احتفال مبادرة «الأعوام الثقافية» القطرية بشراكتها الخامسة عشرة عام 2025، حيث تشارك قطر مع دولتين، الأرجنتين وتشيلي، في عام واحد لأول مرة، فإن تطور البرنامج يعكس تحولاً أوسع في نظرة الدولة للثقافة كشكل من أشكال التبادل الدولي.
في البداية، كانت المبادرة ثنائية تهدف إلى تعريف العالم بدولة قطر استعداداً لكأس العالم لكرة القدم 2022، وهي أول بطولة تُقام في العالم العربي، ثم تطورت لتصبح ركيزة أساسية في الدبلوماسية الثقافية القطرية. واليوم، تُجسد المبادرة منظوراً عالمياً يربط الثقافات، ويعزز العلاقات طويلة الأمد، ويحفز الحوار بين مختلف التخصصات.
ما بدأ كوسيلة للترحيب بالعالم في أول كأس عالم في المنطقة العربية، تطور إلى إطار عمل ديناميكي للتعاون الدولي. من فن الشارع في ساو باولو إلى ورش عمل الأفلام في طنجة، ومن حفلات أوركسترا قطر الفيلهارمونية إلى المنشآت الفنية العامة الدائمة، حيث يُظهر البرنامج كيف يُمكن للثقافة أن تبني روابط دائمة. تشمل هذه الأنشطة الفن العام، والمشاركة في المنتديات الاقتصادية والمعارض التجارية الرئيسية في قطر، ومبادرات التنمية الاجتماعية.
أقيم معرض «على الطريق» الشهير، الذي تم تنظيمه لأول مرة خلال العام الثقافي قطر-الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا 2022، أقيم لاحقًا في الصين، الشريك التاريخي للعام الثقافي قطر- الصين 2016. وبالمثل، شاركت الفنانة المغربية المقيمة في باريس، سارة أوحدّو، التي تعاونت لأول مرة مع قطر ضمن معرض «عالمنا يحترق» في قصر طوكيو بباريس ضمن العام الثقافي قطر-فرنسا 2020، كما شاركت لاحقًا في برنامج الإقامة الفنية «قطر / المغرب: صياغة مستقبل التصميم» ضمن العام الثقافي قطر-المغرب 2024.
انبثقت أيضًا العديد من المبادرات الوطنية الكبرى من العلاقات التي أُقيمت خلال السنوات الثقافية السابقة. فقد أعلنت قطر وفرنسا مؤخرًا عن مذكرة تفاهم شاملة تبني على الأسس التي أُرسيت خلال منتدى قطر-فرنسا 2020. تُركز هذه الاتفاقية واسعة النطاق على بناء القدرات، والمعارض التعاونية، والتدريب المهني، والبحوث المشتركة، والرقمنة، مما يُظهر الأثر المُستدام للتبادل الثقافي.
* يتميز نهج قطر بدمجه الدبلوماسية الرسمية مع المشاركة الشعبية. وتتجاوز الدبلوماسية الثقافية في قطر المؤسسات الرسمية. فبينما تلعب السفارات ووزارات الثقافة أدوارًا رئيسية، تأتي المساهمات أيضًا من الطهاة وعلماء الآثار والاقتصاديين والمتطوعين والطلاب. يشمل البرنامج معارض متحفية رفيعة المستوى - مثل معرض «لاتينو أمريكانو» لهذا العام، الذي شارك في تنظيمه متحف الفن اللاتيني الأمريكي في بوينس آيرس، ومتحف الفنون اللاتينية في بوينس آيرس، ومتاحف قطر - بالإضافة إلى ورش عمل مجتمعية، وتبادلات مكتبية، ومعارض تجارية، ومبادرات قائمة على التنمية الاجتماعية.
* ويتعزز الأثر التحويلي للمبادرة بفضل هيكلها اللامركزي والتعاوني حيث يُطوَّر كل عام ثقافي بالتعاون مع الدولة الشريكة، مما يُشجِّع على المساهمة المتبادلة والأصالة الثقافية. ومع مرور الوقت، أثمر ذلك عن شبكة علاقات متينة يعتمد عليها المنظمون الآن لإنشاء برامج متعددة البلدان.
تُناسب هذه المبادرة عالم اليوم المترابط، وجيلًا من الشباب القادمين من خلفيات ثقافية متعددة، والذين يسافرون بحرية أكبر من أي وقت مضى، ويغتنمون فرص الاستكشاف والتبادل الثقافي.
كما سمح تعدد الأعوام الثقافية للمبادرة بالتعمق في مواضيعها. واليوم، تُستكشف مواضيع مثل سرد القصص البيئية، ومشاركة الشباب، ومستقبل التصميم من خلال برامج الإقامة المشتركة، والندوات الأكاديمية، ومعارض المتاحف.
* ومع ذلك، تظل رؤية قطر الأوسع للمشاركة العالمية محورية. ففي إطار صياغتها لهويتها بعد كأس العالم، اعتمدت قطر الدبلوماسية الثقافية تعبيرًا حيويًا عن دورها الدولي، المتجذر في الحوار والتبادل الفكري. بالنسبة للمشاركين، وخاصةً المبدعين من دول الجنوب، تُقدم الأعوام الثقافية منصةً نادرةً للظهور، وتوفير الموارد، والتعلم المتبادل.
لا يتعلق الأمر بتصدير الثقافة القطرية أو استيرادها، بل بإعادة صياغة كيفية انتقال الثقافة - بتعاون واحترام ودون تسلسل هرمي. ويتجلى هذا التوجه في معارض الفن القطري المعاصر التي تُقام في دول كانت شريكة لقطر سابقًا، مثل ألمانيا والصين وروسيا، لعرض أعمال الفنانين القطريين الشباب.
بعد أن كانت قطر لاعبًا صاعدًا في المشهد الثقافي العالمي، أصبحت ترسخ مكانتها الآن كمركز للأفكار والأشخاص ووجهات النظر والإمكانات. في السنوات القادمة، قد تتحول الأعوام الثقافية من نموذج الشراكات السنوية إلى حوارات عالمية متواصلة ومتقاطعة، انطلقت من الدوحة لكن صداها يتردد أبعد من ذلك بكثير.
تأهيل ذوي الإعاقة مسؤولية مجتمع
لم يعد الحديث عن تأهيل ذوي الإعاقة مجرد شأن إنساني أو اجتماعي بحت، بل أصبح قضية تنموية شاملة... اقرأ المزيد
201
| 24 أكتوبر 2025
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز بالتّجدّد وتظهر دائما من خلال المشاريع الجديدة العملاقة المعتمدة على... اقرأ المزيد
681
| 24 أكتوبر 2025
لا تنتظر الآخرين لتحقيق النجاح
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالبا ما نعتمد على الآخرين لتحقيق النجاح والسعادة. نعتمد على أصدقائنا وعائلتنا وزملائنا... اقرأ المزيد
111
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
4917
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3699
| 21 أكتوبر 2025