رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. خالد وليد محمود

• متخصص بالسياسة السيبرانية

مساحة إعلانية

مقالات

294

د. خالد وليد محمود

الاستخدام المكثف للتطبيقات.. فخ الوجود الرقمي

12 أغسطس 2025 , 01:46ص

يشير عالم الاجتماع زيجمونت باومان إلى أن الحداثة السائلة حوّلت الهوية من «مُعطى ثابت» إلى «مهمة مستمرة»، لكن الرقمنة دفعت بهذه الفكرة إلى حدودها القصوى، فالهوية لم تعد مهمة يُعاد بناؤها ببطء، بل أصبحت سلسلة من اللحظات المنفصلة، كلٌّ منها يتطلّب أداءً مُختلفًا. الفتاة التي تلتقط صورة «سيلفي» بعد عشر دقائق من البكاء، والمراهق الذي يكتب تغريدة ساخرة بينما يعاني من عزلة عميقة، هما نموذجان لانفصام جديد: انفصال التجربة الداخلية عن التمثيل الخارجي، حيث يصبح الأداء الرقمي غايةً بذاته، لا تعبيرًا عن حالة وجدانية. 

في هذا السياق، تُظهر أبحاث علم الأعصاب أن الاستخدام المكثف للتطبيقات متعددة المهام يُضعف الروابط العصبية المسؤولة عن تكوين الذاكرة الطويلة الأمد. بمعنى آخر، كلما زاد عدد «النسخ الرقمية» للذات، قلّت قدرة الدماغ على نسج سردية متماسكة عن الذات. هذه ليست مجرد أزمة هوية، بل أزمة وجودية، فبدون سردية داخلية، يفقد الإنسان إحساسه بالاستمرارية، ويصبح مجموعة من اللحظات المنفصلة التي لا يجمعها خيط روائي أو معنى شامل. 

العبودية الطوعية: اقتصاد الانكشاف والمراقبة الذاتية 

اللافت في هذا التحول أنه لا يُفرض من الخارج، بل ينبع من ديناميكية الرغبة. فالمستخدم لا يُجبر على المشاركة، بل يُحفَّز عليها عبر آليات الإعجاب والتعليقات التي تُشبع حاجة نفسية عميقة إلى الاعتراف الاجتماعي. لكن هذه الرغبة في «الوجود الرقمي» تتحول إلى فخ، فكلما زاد الانكشاف، زادت الحاجة إلى المزيد منه، في حلقة مفرغة تُذيب الحدود بين «الرغبة في الظهور» و»الضرورة الوجودية للظهور». كما يصفه الفيلسوف الكوري الجنوبي بيونغ-تشول هان، نحن أمام «مجتمع الشفافية» حيث المراقبة الذاتية تصبح أداةَ قمعٍ أكثر فاعلية من أيّ نظام بوليسي. 

هذه الديناميكية تُنتج نوعًا جديدًا من الاغتراب، فالإنسان يعيش تجربته من خلال عيون الآخرين، لا من خلال حسه الذاتي. الصورة التي يختارها للعرض، التغريدة التي يحرص على صياغتها، وحتى المشاعر التي يعبّر عنها، كلها تُفلتر عبر عدسة «القابلية للنشر». وهكذا، تتحول الذات إلى «علامة تجارية» تُصنع وفقًا لمعايير السوق الرمزي، لا وفقًا لعمق التجربة الإنسانية. 

من التشكُّل العضوي إلى التكوين الخوارزمي

الأمر لا يتوقف عند جيل الألفية أو جيل Z، بل يصل ذروته مع جيل ألفا، الذي يتعرف على العالم أولًا عبر الشاشات قبل أن يلمس العشب أو يشعر بدفء حضن الأم. هؤلاء الأطفال يتعلمون أن «الأنا» شيء يُصنع عبر الإيماءات والفلترات، لا عبر التفاعل العضوي مع العالم. الدراسات تشير إلى أن تعرُّض الأطفال المكثف للشاشات يُغيّر بنية الدماغ، ويُضعف القدرة على التعاطف والتأمل. لكن الخطر الأعمق هو أنهم قد ينشؤون دون أن يختبروا أبدًا تلك اللحظات القديمة التي كانت تُشكّل الهوية: لحظات الملل الطويلة، الأحاديث الهادئة مع الذات، أو الاكتشاف البطيء للعالم دون وساطة رقمية. 

إنّ الخروج من مأزق التفتت الرقمي لا يكمن في الانكفاء عن التكنولوجيا أو رفضها، بل في إعادة تعريف العلاقة معها، على نحو يعيد للذات تماسكها وللوجود عمقه. فبدلاً من الذوبان في منطق «الأداء» والتمثيل الدائم للذات، نحتاج إلى التمهّل والتمييز بين التعبير الأصيل وبين العرض المُفبرك. إلى استعادة الزمن البطيء كمساحة لصياغة المعنى، بعيدًا عن منطق النشر الفوري والتفاعل اللحظي. نحتاج كذلك إلى تربية رقمية نقدية تُمكّن الأجيال الجديدة من التعامل مع الخوارزميات كأدوات، لا كإطار وجودي يُعيد تشكيلهم دون وعي.

الفيلسوف مارتن هايدغر يعبّر هنا بعمق، عندما يقول «الخطر لا يكمن في التكنولوجيا ذاتها، بل في افتراضنا أنها محايدة». فالذات الموزعة ليست مصيرًا لا فكاك منه، بل نتيجة لاختيارات ثقافية واقتصادية يمكن نقدها وإعادة تشكيلها. والسؤال الأهم لم يعد: كم نسخة رقمية لي؟، بل: أين «أنا الحقيقية» بين كل هذه النسخ؟.

اقرأ المزيد

alsharq Bien hecho España

مع احترامنا لجميع الدول التي ساندت أهل غزة والحكومات التي كانت تدين وتندد دائماً بسياسات إسرائيل الوحشية والإبادة... اقرأ المزيد

165

| 27 أكتوبر 2025

alsharq التوظيف السياسي للتصوف

لا بد عند الحديث عن التصوف أن نوضح فارقا مهما بين شيئين: الأول هو «التصوف» الذي تختلف الناس... اقرأ المزيد

87

| 27 أكتوبر 2025

alsharq عن خيبة اللغة!

يحدث أحيانًا أن يجلس الكاتب أمام بياض الورق أو فراغ الشاشة كمن يقف في مفترق لا يعرف أي... اقرأ المزيد

102

| 27 أكتوبر 2025

مساحة إعلانية