رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
إن أقل القليل وخواص الخواص هم الذين يدركون لعبة الديمقراطية وما حفها ويلصق بها من مخاطر في حين نرى الأكثرين يتغنون بشعار هذه الديمقراطية التي انتشرت في العالم وكأنها المخلص الوحيد للشعوب من معاناتها لتدخلها في حديقة السعادة الغناء، وذلك اعتمادا على ما تتحفها من الحرية العامة والمساواة بين الأفراد واحترام الإنسان وتكريمه باعتباره واحدا من الشعب الذي يجب أن يكون مصدر السلطات جميعا بالفعل والممارسة لا بالقول والنظر فقط، وهذا ما يجب أيضا أن يساوق تعريف الديمقراطية التي هي حكم الشعب بوساطة الشعب من أجل الشعب كما يقولون ولكن هؤلاء الكثيرين ممن باتوا يلمسونه في عالم التطبيق الواقعي في الحياة غربا وشرقا وشمالا وجنوبا قد وصل جلهم إلى الحقيقة التي لا معدل عنها وهي أن هذه اللعبة في جميع العالم، خاصة الثالث منه إنما يستخدمها الساسة لشرعنة تسلطهم على رقاب الشعوب وبنسب مختلفة ربما تصل في بلادنا إلى 99% فقط! يستوي في ذلك من يحكمون بالملكية والوراثة والجمهوريون المزيفون الذين صاروا يتعشقون الوراثة أكثر من أصحابها والعسكريون المتسلطون غالبا والذين لا يفقه أكثرهم ألف باء السياسة مما يعود بنا لإقرار الحقيقة التي فرضت ويجب أن تفرض نفسها وهي استبدال الشورى بالديمقراطية، إذ الشورى نظام إلهي منبعه الوحي الذي يستلهم منه المشرعون الفقه والفكر الواعي الذي هو الأقرب للصواب على حد قول هارون الرشيد رحمه الله "من شاور كثر صوابه" وقول سقراط: "شاور الجميع" ولأنه كما يقول المثل العربي "المشورة عين الهداية" وقد استبد برأيه من خاطر بالبعد عن الشورى، كما قال علي رضي الله عنه وكما في الحديث الشريف (ما تشاور قوم إلا هداهم الله لأرشد أمورهم واعتبر الإسلام أن كل ذلك من واجبات الحكومة بتطبيق مبدأ الشورى والإفادة به من الرجال والنساء، وضرب الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم والتابعون والسلف الصالح أحسن المثل في ذلك عبر التاريخ سلما وحربا، وأقاموا هذه الشورى على أسس عتيدة ليس فيها فوضى ولا غوغائية وعشوائية بل هي شورى حقيقية معتبرة تشمل الجميع لتحقيق العدل القومي والإنساني، منطلقين من توجيه الله لرسوله (وشاورهم في الأمر)، "آل عمران: 159"، والمدح الذي أثنى به على المؤمنين (وأمرهم شورى بينهم)، "الشورى: 38"، وهذه سورة كاملة في كتاب الله بهذا الاسم نفسه تعظيما لحق هذه الشورى وتنويها بضرورتها للحياة، ولكن وللأسف الشديد فقد بات من ينقد الديمقراطية السالبة التي أهلكت الحرث والنسل والتي هي أقرب إلى الدم قراطية بفتح الدال لا كسرها يعتبر متشدداً يسبح ضد تيار حريات الشعوب وحقوقها بل لم يسلم هذا المصلح حتى من بعض الإسلاميين غير اليقظين.
إن أصل مصطلح كلمة الديمقراطية لاتينيا هو ديموس أي الشعب وكراتوس أي السلطة فهي سلطة الشعب فأين سلطة الشعب يا جماعة التي اعتبرها مدره الإسلام مصطفى صادق الرافعي أقوى من الحكومة كما اعتبر أن الحق أقوى من القوة. إن هذه الديمقراطية الغربية والعربية والإسلامية الرسمية المعاصرة لا تبني مرتكزاتها في الغالب إلا على الوصاية المفروضة على الشعوب المقهورة وبمركزية للحكم لا نظير لها على حد ما نراه ونعاني منه بأمثلة لا تحصر أمثلة توضح لكل ذي عينين أن الشعوب تابعة كالقطيع ويجب أن تسير في سعير الأيديولوجيات الفاشية والدكتاتوريات المتفننة وتصطلي بنارها وأن هذه الديمقراطية السلبية لا تعني سوى الانتخابات الشكلية، ومع ذلك فأكثرها مزور ويخدم أجندة إقليمية وخارجية ولا يمكن أن يعبر الحاكم فيه والنواب عن أشواف وحاجات وعواطف الشعب وأن الحزب التابع له هو سيد الموقف عموما وهذا ما كان يراه ريتشارد جاي سابقا في الغرب وهو ما يجري الآن في بلادنا، حيث إن هذه الديمقراطية لا تدعو إلى التفاؤل في ظل نمو البيروقراطية وتضخم أجهزة الحكم وتزايد اعتماد الجماهير على الدولة وحدها في تسيير شؤون الحياة متوصلا إلى نتيجة انقراض عوامل حكم الشعب بعد ذلك على ما نقله الدكتور بشير زين العابدين في مقاله بمجلة السنة العدد "106 ص 57" مردفاً أن الكثيرين من أعضاء مجلس العموم البريطاني مثلا يعترفون أنهم لا يملكون أي سيطرة لاتخاذ القرارات لأن زمامها أصبحت بيد قيادة الحزب بالتحالف مع الشركات العملاقة والاستخبارات السرية وامبراطورية الإعلام وبالطبع فهذا يصدق على أمريكا في الغالب وعلى أحزاب حكومات العرب التي يأتي بعض رجالاتها إلى الحكم معدما ثم يثري ثم يكون هامورا يمتلك الكنوز من عرق هذه الشعوب البائسة المسكينة ويا ويل من ينبس ببنت شفة، إذ ليس له إلا أن يساق إلى ما سيق إليه يوسف الصديق نبي الله إلا أن يوسف لم يصب عليه العذاب صبا ولم تستخدم نحوه أبشع تقنيات التعذيب بلا هوادة وفي هذا الغضون تأتي وثائق موقع "ويكي ليكس" بأرقام هائلة لفضح ديمقراطية أمريكا والغرب فيشهد شاهد من أهلها على ديمقراطية الدم في العراق وفلسطين وأفغانستان خصوصا وفي العالم عموما لأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، هؤلاء الناس الذين لا يريدون خيرا ومكسبا إلا لأنفسهم كاليهود المعادين لكل ما ليس منهم وإنه وكما قال هيكل الخبير على قناة الجزيرة الأسبوع الماضي إن إسرائيل إلى زوال بأفعالها الإجرامية فإن أمريكا ألعوبتها والغرب المترصد بنا لن يفلحوا مستقبلا كما يدعون بحضارتهم مهما زخرفوا خطاباتهم البراقة الجوفاء كالطبل الفارغ وهذه هي سنة بقاء الأمم وزوالها ولن تتخلف وفي هذا كل الدافع لنا كي نستأنف دورنا الزاهي الذي أسس مجدنا من جديد، وإذا كان بعض المفكرين يرون تشابها بين دولة الاستسلام والدولة الديمقراطية كالتركيز على مكانة الأمة وحكامها وكالاشتراك بمعاني المساواة أمام القانون وحرية العقيدة، وكذلك الفصل بين السلطات فإن ثمة نقاط خلاف أشد من التشابه وأهمها أن الشعب في الديمقراطية محصور جغرافيا وهو ما يعني القومية والعنصرية، بينما الإسلام نظام إنساني لا تعصب فيه ولا عنصرية، وكذلك فإن هدف الديمقراطية مادي بحت في حين أن هدف الإسلام يجمع الدنيا والآخرة وأيضا فلا ننسى أن سلطة الديمقراطية مطلقة حتى لو خالفت النظام الأخلاقي كإعلان الحرب واستعمار الشعوب الأخرى كما وقع ويقع اليوم وكذلك السماح باسم حرية الفكر والتعبير للانتقال إلى حرية الكفر والتحقير حتى لأخص المقدسات شخصا وموضوعا كالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وكتاب الله والحضارة العربية والإسلامية، وكذلك إباحة الشذوذ مثلا وتقنينه مع أنه يخالف الجبلة الإنسانية بينما نجد حرية الإسلام مقيدة بالشريعة وصالح العباد والأخلاق راجع في هذا كتاب الأخلاق السياسية لمحمد زكريا النداف "ص 437-439"، فعلينا أن نعي هدف وجودنا في الحياة وألا تنطلي علينا الحيل باسم الديمقراطية وإني لأقول: إذا كنا نرى ملايين البائسين هم من حصاد هذه الديمقراطية بل ملايين قتلى الحروب فكيف إذا لم تكن ديمقراطية؟!
لابد من صهر الشعوب حقيقة في بوتقة ديمقراطية غير التي نراها وسمها ما شئت إلا أن حكم الله بالشورى أولى بالصواب ولعل هذا ما نبه إليه جان جاك روسو سابقا من أن العبودية تسيطر على الشعب بعد انتخاب نوابه وما صرح به جوزف شمبتر محذرا: يروق للسياسيين استخدام الديمقراطية للجماهير فتحبها لكنها هي التي تمنحهم فرصة تجنب المسؤولية وسحق خصومهم باسم الشعب فأين العقلاء؟
khaled_hindawi@hotmail.com
في منتدى الدوحة 2025 وسط حضور كبير تجاوز ستة آلاف شخص وفي التنوع في الجلسات الحوارية التي ناقشت... اقرأ المزيد
147
| 17 ديسمبر 2025
تحسبونه هينا وهو عند الله عظيم
وصلت صباحا وكلي همة وتفكير من أين سوف أبدأ، فإذا بي أدخل المكتب وأجد مكتب زميلتي ليس على... اقرأ المزيد
168
| 17 ديسمبر 2025
قطر.. قصة وطن يتألّق في يومه الوطني
في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، تكون دولة قطر على موعدٍ مع ذاكرتها الوطنية، وتفتح صفحات... اقرأ المزيد
108
| 17 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية



مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب مجرد خيبة رياضية عابرة، بل كانت صدمة حقيقية لجماهير كانت تنتظر ظهوراً مشرفاً يليق ببطل آسيا وبمنتخب يلعب على أرضه وبين جماهيره. ولكن ما حدث في دور المجموعات كان مؤشراً واضحاً على أزمة فنية حقيقية، أزمة بدأت مع اختيارات المدرب لوبيتيغي قبل أن تبدأ البطولة أصلاً، وتفاقمت مع كل دقيقة لعبها المنتخب بلا هوية وبلا روح وبلا حلول! من غير المفهوم إطلاقاً كيف يتجاهل مدرب العنابي أسماء خبرة صنعت حضور المنتخب في أكبر المناسبات! أين خوخي بوعلام و بيدرو؟ أين كريم بوضياف وحسن الهيدوس؟ أين بسام الراوي وأحمد سهيل؟ كيف يمكن الاستغناء عن أكثر اللاعبين قدرة على ضبط إيقاع الفريق وقراءة المباريات؟ هل يعقل أن تُستبعد هذه الركائز دفعة واحدة دون أي تفسير منطقي؟! الأغرب أن المنتخب لعب البطولة وكأنه فريق يُجرَّب لأول مرة، لا يعرف كيف يبني الهجمة، ولا يعرف كيف يدافع، ولا يعرف كيف يخرج بالكرة من مناطقه. ثلاث مباريات فقط كانت كفيلة بكشف حجم الفوضى: خمسة أهداف استقبلتها الشباك مقابل هدف يتيم سجله العنابي! هل هذا أداء منتخب يلعب على أرضه في بطولة يُفترض أن تكون مناسبة لتعزيز الثقة وإعادة بناء الهيبة؟! المؤلم أن المشكلة لم تكن في اللاعبين الشباب أنفسهم، بل في كيفية إدارتهم داخل الملعب. لوبيتيغي ظهر وكأنه غير قادر على استثمار طاقات عناصره، ولا يعرف متى يغيّر، وكيف يقرأ المباراة، ومتى يضغط، ومتى يدافع. أين أفكاره؟ أين أسلوبه؟ أين بصمته التي قيل إنها ستقود المنتخب إلى مرحلة جديدة؟! لم نرَ سوى ارتباك مستمر، وخيارات غريبة، وتبديلات بلا معنى، وخطوط مفككة لا يجمعها أي رابط فني. المنتخب بدا بلا تنظيم دفاعي على الإطلاق. تمريرات سهلة تخترق العمق، وأطراف تُترك بلا رقابة، وتمركز غائب عند كل هجمة. أما الهجوم، فقد كان حاضراً بالاسم فقط؛ لا حلول، لا جرأة، لا انتقال سريع، ولا لاعب قادر على صناعة الفارق. كيف يمكن لفريق بهذا الأداء أن ينافس؟ وكيف يمكن لجماهيره أن تثق بأنه يسير في الطريق الصحيح؟! الخروج من دور المجموعات ليس مجرد نتيجة سيئة، بل مؤشر مخيف! فهل يدرك الجهاز الفني حجم ما حدث؟ هل يستوعب لوبيتيغي أنه أضاع هوية منتخب بطل آسيا؟ وهل يتعلم من أخطاء اختياراته وإدارته؟ أم أننا سننتظر صدمة جديدة في استحقاقات أكبر؟! كلمة أخيرة: الأسئلة كثيرة، والإجابات حتى الآن غائبة، لكن من المؤكّد أن العنابي بحاجة إلى مراجعة عاجلة وحقيقية قبل أن تتكرر الخيبة مرة أخرى.
2328
| 10 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل بالتحزّبات والصراعات والاصطفافات، اختارت قطر أن تقدّم درسًا غير معلن للعالم: أن الرياضة يمكن أن تكون مرآة السياسة حين تكون السياسة نظيفة، عادلة، ومحلّ قبول الجميع واحترام عند الجميع. نجاح قطر في استضافة كأس العرب لم يكن مجرد تنظيم لبطولة رياضية، بل كان حدثًا فلسفيًا عميقًا، ونقلاً حياً ومباشراً عن واقعنا الراهن، وإعلانًا جديدًا عن شكلٍ مختلف من القوة. قوة لا تفرض نفسها بالصوت العالي، ولا تتفاخر بالانحياز، ولا تقتات على تفتيت الشعوب، بل على القبول وقبول الأطراف كلها بكل تناقضاتها، هكذا تكون عندما تصبح مساحة آمنة، وسطٌ حضاري، لا يميل، لا يخاصم، ولا يساوم على الحق. لطالما وُصفت الدوحة بأنها (وسيط سياسي ناجح ) بينما الحقيقة أكبر من ذلك بكثير. الوسيط يمكن أن يُستَخدم، يُستدعى، أو يُستغنى عنه. أما المركز فيصنع الثقل، ويعيد التوازن، ويصبح مرجعًا لا يمكن تجاوزه. ما فعلته قطر في كأس العرب كان إثباتاً لهذه الحقيقة: أن الدولة الصغيرة جغرافيًا، الكبيرة حضاريًا، تستطيع أن تجمع حولها من لا يجتمع. ولم يكن ذلك بسبب المال، ولا بسبب البنية التحتية الضخمة، بل بسبب رأس مال سياسي أخلاقي حضاري راكمته قطر عبر سنوات، رأس مال نادر في منطقتنا. لأن البطولة لم تكن مجرد ملاعب، فالملاعب يمكن لأي دولة أن تبنيها. فالروح التي ظهرت في كأس العرب روح الضيافة، الوحدة، الحياد، والانتماء لكل القضايا العادلة هي ما لا يمكن فعله وتقليده. قطر لم تنحز يومًا ضد شعب. لم تتخلّ عن قضية عادلة خوفًا أو طمعًا. لم تسمح للإعلام أو السياسة بأن يُقسّما ضميرها، لم تتورّط في الظلم لتكسب قوة، ولم تسكت عن الظلم لتكسب رضا أحد. لذلك حين قالت للعرب: حيهم إلى كأس العرب، جاؤوا لأنهم يأمنون، لأنهم يثقون، لأنهم يعلمون أن قطر لا تحمل أجندة خفية ضد أحد. في المدرجات، اختلطت اللهجات كما لم تختلط من قبل، بلا حدود عسكرية وبلا قيود أمنية، أصبح الشقيق مع الشقيق لأننا في الأصل والحقيقة أشقاء فرقتنا خيوط العنكبوت المرسومة بيننا، في الشوارع شعر العربي بأنه في بلده، فلا يخاف من رفع علم ولا راية أو شعار. نجحت قطر مرة أخرى ولكن ليس كوسيط سياسي، نجحت بأنها أعادت تعريف معنى «العروبة» و»الروح المشتركة» بطريقة لم تستطع أي دولة أخرى فعلها. لقد أثبتت أن الحياد العادل قوة. وأن القبول العام سياسة. وأن الاحترام المتبادل أكبر من أي خطاب صاخب. الرسالة كانت واضحة: الدول لا تُقاس بمساحتها، بل بقدرتها على جمع المختلفين. أن النفوذ الحقيقي لا يُشترى، بل يُبنى على ثقة الشعوب. أن الانحياز للحق لا يخلق أعداء، بل يصنع احترامًا. قطر لم تنظّم بطولة فقط، قطر قدّمت للعالم نموذج دولة تستطيع أن تكون جسرًا لا خندقًا، ومساحة لقاء لا ساحة صراع، وصوتًا جامعًا لا صوتًا تابعًا.
828
| 10 ديسمبر 2025
هناك ظاهرة متنامية في بعض بيئات العمل تجعل التطوير مجرد عنوان جميل يتكرر على الورق، لكنه لا يعيش على الأرض (غياب النضج المهني) لدى القيادات. وهذا الغياب لا يبقى وحيدًا؛ بل ينمو ويتحوّل تدريجيًا إلى ما يمكن وصفه بالتحوّذ المؤسسي، حالة تبتلع القرار، وتحدّ من المشاركة، وتقصي العقول التي يُفترض أن تقود التطوير. تبدأ القصة من نقطة صغيرة: مدير يطلب المقترحات، يجمع الآراء، يفتح الباب للنقاش… ثم يُغلقه فجأة. يُسلَّم له كل شيء، لكنه لا يعيد شيئًا، مقترحات لا يُرد عليها، أفكار لا تُناقش، وملاحظات تُسجَّل فقط لتكملة المشهد، لا لتطبيقها. هذا السلوك ليس مجرد إهمال، بل علامة واضحة على غياب النضج المهني في إدارة الحوار والمسؤولية. ومع الوقت، يصبح هذا النمط قاعدة: يُطلب من المختصين أن يقدموا رؤاهم، لكن دون أن يكونوا جزءًا من القرار. يُستدعون في مرحلة السماع، ويُستبعدون في مرحلة الفعل. ثم تتساءل القيادات لاحقًا: لماذا لا يتغير شيء؟ الجواب بسيط: التطوير لا يتحقق بقرارات تُصاغ في غرف مغلقة، بل بمنظومة تشاركية حقيقية. أحد أكثر المظاهر خطورة هو إصدار أنظمة تطوير بلا آلية تنفيذ، تظهر اللوائح كأحلام مشرقة، لكنها تُترك دون أدوات تطبيق، ودون تدريب، ودون خط سير واضح. تُلزم بها الجهات، لكن لا أحد يعرف “كيف”، ولا “من”، ولا “متى”. وهنا، يتحول النظام إلى حِمل إضافي بدل أن يكون حلاً تنظيميًا. في كثير من الحالات، تُنشر أنظمة جديدة، ثم يُترك فريق العمل ليخمن طريقة تطبيقها، وعندما يتعثر التطبيق، يُحمَّل المنفذون المسؤولية وتصاغ خطابات الإنذار. هذا المشهد لا يدل فقط على غياب النضج المهني، بل على عدم فهم عميق لطبيعة التطوير المؤسسي الحقيقي. ثم يأتي الوجه الأوضح للخلل: المركزية المفرطة، مركزية لا تُعلن، لكنها تُمارس بصمت. كل خطوة تحتاج موافقة عليا، كل فكرة يجب أن تُصفّى، وكل مقترح يمر عبر «فلترة» شخصية، لا منهجية. في هذا المناخ، يفقد الناس الرغبة في المبادرة، لأن المبادرة تصبح مخاطرة، لا قيمة. وهنا تتحول المركزية تدريجيًا إلى تحوّذ مؤسسي كامل. القرار محتكر. المبادرات محجوزة. المعرفة مقيّدة. والنظام الإداري يُدار بعقلية الاستحواذ، لا بعقلية التمكين. التحوّذ المؤسسي هو الفخ الذي تقع فيه الإدارات حين يغيب عنها النضج. يبدأ من عقلية مدير، ثم ينتقل إلى أسلوب إدارة، ثم يتحول إلى ثقافة صامتة في المؤسسة. والنتيجة؟ - تجميد للأفكار. - هروب للعقول. - فقدان للروح المهنية. - تطوير شكلي لا يترك أثرًا. أخطر ما في التحوّذ أنه يرتدي ثياب التنظيم والجودة واللوائح، بينما هو في جوهره خوف مؤسسي من المشاركة، ومن نجاح الآخرين، ومن توزيع الصلاحيات. القيادة غير الناضجة ترى الأفكار تهديدًا، وترى الكفاءات منافسة، وترى التغيير خطرًا، لذلك تفضّل أن تُبقي كل شيء في يدها حتى لو تعطلت المؤسسة بأكملها. القيادة الناضجة لا تعمل بهذه الطريقة. القيادة الناضجة تستنير بالعقول، لا تستبعدها. تسأل لتبني، لا لتجمّل المشهد. تُصدر القرار بعد فهم كامل لآلية تطبيقه. وتعرف أن التطوير المؤسسي الحقيقي لا يقوم على السيطرة، بل على الثقة، والتفويض، والوضوح، وبناء أنظمة تعيش بعد القائد لا معه فقط. ويبقى السؤال الذي يجب أن يُطرح بصراحة لا تخلو من الجرأة: هل ما نراه هو تطوير مؤسسي حقيقي… أم تحوّذ إداري مغطّى بشعارات التطوير؟ المؤسسات التي تريد أن ترتقي عليها أن تراجع النضج المهني لقياداتها قبل أن تراجع خططها، لأن الخطط يمكن تعديلها… لكن العقليات هي التي تُبقي المؤسسات في مكانها أو تنهض بها.
702
| 11 ديسمبر 2025