رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
بوفاته تكون صفحة من صفحات التاريخ للخليج والجزيرة العربية قد انطفأت.
في الأسبوع الماضي نعت الأوساط الثقافية في قطر وفاة المؤرخ الأستاذ الدكتور عبدالعزيز عبدالغني، وهو الرجل الذي أثرى ساحة الإعلام والثقافة والتاريخ بمؤلفاته، والتي كانت مرجعاً للعديد من المهتمين بتاريخ المنطقة وأحداثها عبر السنين، وقد يكون هذا الرجل من القلائل، من غير أبناء المنطقة، الذين اهتموا بالبحث والدراسة لأحوالها وظروفها وأحداثها عبر الزمن، فتنقل بين دولها يدون التاريخ من الوثائق والكتب والمراجع، بل قادته قدماه ليزور بعض دور اهتمت بهذه الوثائق في خارج العالم العربي، ليس لأجل شيء سوى أن يدعم ما يكتبه ويدونه.
يوم الأربعاء 21 يوليو 2021م، قمت بزيارته في منزله بالدوحة، رافقني في هذه الرحلة ابني جاسم، وكذلك كان برفقتنا الأخ العزيز الأستاذ إبراهيم الدويري، والذي كان له الدور المهم في ترتيب هذا اللقاء.
كان هدفي من الزيارة هو التعرف على الأستاذ عبدالعزيز والجلوس معه والحديث إليه في شتى المواضيع التي كتب عنها مع حرصي البالغ على الاستفادة منه في نوعية المصادر التي استند إليها للحصول على المعلومات التي وردت في هذه المؤلفات.
الجلوس والحديث مع الرجل متعة، الشيء الوحيد الذي أزعجني هو خشيتي من أن نثقل عليه الزيارة، خاصة وأن عامل السن لم يكن مساعداً، ناهيك عن أن موعد الزيارة كان صيفاً، ولكن للأمانة والصدق وجدت أمامي رجلاً صادقاً في طرحه، مؤمناً بما يكتبه ومقتنعاً بما أورده من معلومات، ثم الأهم مرحباً ومستمتعاً بالحديث معنا.
ناقشته في بعض ما طرحه في كتبه، قلت له: قد تكون بعض المعلومات التي وردت في هذه الكتب غير دقيقة وغير متوافقة مع الدافع الذي سمعنا عنه سواء في الذين عاشوا أحداث المنطقة في تلك السنوات أو الذين تعايشوا مع أولئك الذين نقلوا إلينا العديد من الأحداث، وأنا شخصياً لا أشك فيما روي لي من طرفهم، لأنني أتوافق مع هؤلاء بحكم قربهم من صنّاع الأحداث في ذلك الزمان أو تلك الفترة، لذلك أرى أن نقل الأحداث كما رويت بلسانهم تحتوي على مصداقية أكثر، وتتواءم طبيعة الأحداث مع واقع اليوم.
قال لي الأستاذ عبدالعزيز: أنا لست من أبناء المنطقة، لذلك يصعب عليّ أن آخذ الأحداث من أشخاص، لأن كل شخص سوف يروي الحدث من وجهة نظره هو شخصياً، وحسب ما تناقلته الأجيال، وهذا يتوافق مع أبناء الخليج عندما يشرعون في كتابته أو حتى روايته، لكن لباحث مثلي لا ينتمي لهذه المنطقة، ليس من الإنصاف له أن يكتب ما تتناقله الألسن، بل من الضروري للمصداقية أن يبحث عن مراجع ووثائق تحدثت عن تاريخ الجزيرة العربية والأحداث التي مرت بها.
ولمكان مثل هذه المنطقة، فإن أنسب مرجع تستفيد منه هو بريطانيا والهند، فمنذ مطلع القرن التاسع عشر، عندما شرعت القوات الملكية البحرية البريطانية شواطئ الخليج العربي، تحت حجة حماية مصالحها في درة التاج البريطاني "الهند"، وحماية خطوط التجارة البرية والبحرية. لذلك هم، أي الإنجليز، الأنسب للحصول على المعلومات، فقد كتب الكثير منهم عن الأحداث التي مرت هنا، لذلك ذهبت إليهم وطلبت الحصول على بعض من هذه الوثائق والتي دونت أحداث الخليج، ووجدت هناك كل التسهيلات التي أريد أن أحصل عليها.
وللحق فإنه في الغرب من السهل عليك أن تحصل على ما تريد، وبأريحية كاملة، فعندهم نظام جميل، يرى أن المعلومات والمخطوطات والوثائق تفقد سريتها بعد فترة من الزمن، قد تمتد ما بين 30 - 50 سنة، حسب النظام في كل دولة، ثم تكون في متناول أيادي الباحثين أو الدارسين، وتجد كل دعم وعناية واهتمام من القائمين على هذه المراكز، ولعل هذا الشيء نفتقده في العالم العربي، فما زال الحصول على المعلومات في مراكز البحث ودور الوثائق العربية، رغم قلتها، إلا أنك تجد صعوبة في توافرها، وهذا مع الأسف الفرق بين من يدرك أهمية العلم والبحث والدراسات، ومن لا يعطي هذا الشأن الاهتمام المطلوب، وقد يكون هذا يحدث بحسن نية ولكن المسألة لا تخضع للعواطف، فأمام الباحث الصادق يجب أن تسهل له المعلومة ليوفرها لقرائه ومتابعيه.
ولكن في المقابل هناك بعض الوثائق السرية لدى الغرب، ليس من السهولة الحصول عليها، بل هذا يتطلب جهداً مضاعفاً، وتخضع لظروف معينة، فهم، أي القائمين على هذه المراكز، خاصة تلك التي تتبع جهات أمنية، أقول تخضع لاعتبارات عديدة، منها البيانات الشخصية للباحث والمؤلفات التي قدمها أو نشرها، ثم عليه أن ينتظر حتى يحصل على الموافقة، وقد تمتد فترة الانتظار لتصل لأكثر من سنة، وإذا ما تمت الموافقة له للحضور للاطلاع على هذه الوثائق، فإنه يدعى وقبل دخوله قاعة الاطلاع، عليه أن يتجرد من كل شيء سوى ملابسه، فلا يسمح له بحمل قلم أو ورقة أو جوال أو كاميرا، بل له حق الاطلاع والقراءة فقط، ويحاول أن يحفظ ما يقرأه، وعندما يدخل إلى القاعة، يؤتى بشخص، رجل أو امرأة، ويحمل بين يديه الكتاب أو الوثيقة التي تتعلق بالبحث الذي كتب عنه، عندما شرع في تقديم الطلب، ويوضع الكتاب أمامه، ولا يحق له لمس الكتاب، بل الشخص الذي يقف بالقرب منه هو الذي يقلب الأوراق حسب ما يراه مناسباً من وقت، فقط على الباحث أن يقرأ ويطلع على الصور، إذا ما كان في الكتاب أو المصدر بعض من الصور، ولا تستغرق الزيارة أكثر من ساعة على أكثر تقدير.
الشيء الوحيد الذي يعتمد عليه الباحث في هذا الوضع هو ذاكرته، وما أسعفته في قدرتها على تخزين المعلومات التي أمكنه الإطلاع عليها.
ويقول الدكتور عبدالعزيز عبدالغني:
عندما أتيحت لي الأقدار أن أزور هذه الأمكنة، هالني ما شاهدته، وليس فقط ما قرأته، من صور لشخصيات عربية كان يستحيل تصويرها، ولكن هذا ما شاهدته بحق، "أعتذر عن ذكر أسماء أصحاب هذه الصور"، مما يعني أن هذه الوثائق تحتوي على دقة متناهية لا تخطر على بال الباحث، هكذا يقول عبدالعزيز عبدالغني، وهو يصف ما شاهده وليس ما قرأه في تلك الوثائق، وهي مهمة شاقة تحسب للمؤلف، والذي بذل من الجهد والعطاء الشيء الكثير، وأعتبر أن كل ما كتبه هو يمثل وجهة نظره الشخصية في الأحداث التي مرت بالمنطقة، وقال أنا لا أكتب حسب رغبات الغير، هذا يتنافى مع مبدئي كمؤرخ وباحث، وقال أعرف أن بعض ما تناولته في كتبي قد لا يعجب بعض القراء، وهذا حقهم، ولكن هذا مقدار جدي واجتهادي، نقلت الأحداث كما حصلت عليها من مصادر ووثائق ومخطوطات، وليس عبر الروايات، الروايات يجب أن ينقلها أبناء المنطقة، هم يملكون مصداقية أكثر مني في ذلك، أما لشخص مثلي أنا، فأنا أرى أنه عليّ أن أتجنب ذلك، حتى لا تدخل العاطفة في نقل شيء قد يتعارض مع وجهات نظر الآخرين.
وفي سرد الحديث أذكر أنه قال لنا، إنه التقى يوماً مع أحد الزعماء العرب، وبالتحديد زعيم دولة خليجية وقال له، بعد جلسة تاريخية دارت بينهما، أنت يا دكتور عبدالعزيز، قد تكون أفضل مني في السرد الكتابي، ولكنني أفضل منك في السرد الراوي، أي أن هذا الزعيم قد حفظ الأحداث مما سمعه من العديد من الأجيال التي مرت أمامه واستمع من روايات الأحداث عن طريقهم، بعكس الدكتور عبدالعزيز الذي اشتق معلومات من الكتب والوثائق، كما تحدث عن تجربة تنقله من بلد عربي لبلد عربي، وقال زرت إحدى الدول العربية، وعندما نزلت في مطارها هالني ما شاهدته من شعارات معلقة على جدران المطار وفي الطرق، وهي تتحدث عن "خيالات" وليست "أفكار"، ولكن المشكلة أن هذا الطرح المدون على شاشة الساحات وأمام الناس لا يتوافق مع المنطق ولا العدل، وأراه هراءً وغير واقعي حتى ولو كُتبت بأسلوب فلسفي، قلت لهم هذا تخبيص؟ ما هذا الكلام؟، من يصدق هذا الكلام؟ قالوا لي أسكت!! هذا كلام القائد وفلسفته.. عرفت لحظتها أن هذا الرأي والذي طرحته قد يسبب لي مشاكل، بعد أن لمست بعض المتاعب والتي بدأت أتعرض إليها، فقررت الرحيل ليلاً وعبر البحر، تاركاً كل شيء من ممتلكاتي الشخصية والمالية ولم أعد لذلك المكان من يومها.
واختتم مقالي بعبارة جميلة قالها لنا الدكتور عبدالعزيز عبدالغني، حيث قال: طوال مشواري المهني، وتعدد قراءاتي وبحوثي في مجال التاريخ والوثائق، فقد تعرفت واقتربت، بحكم القراءة والمطالعة والبحث، للعديد من الشخصيات الخليجية والعربية، ولكنني أقولها بحق وبدون مجاملة، إن أكثر شخصية بهرتني وأعجبتني هي شخصية الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني، والذي تسمونه في قطر "المؤسس"، هو بحق شخصية فذة، وزعامة فريدة، جمع بين الدين والدنيا، فصنع مجداً ووطناً خلده التاريخ، وعندما وقف في وجه المطامع البريطانية في الخليج، حيث انتصر لمبادئه وقيمه الدينية.
قال أحد جنرالات الإنجليز والذي كان مقيماً في المنطقة: قولوا للشيخ جاسم إن هناك "عرابي" واحداً قد ظهر في مصر، فرد الشيخ جاسم وقال: قولوا له إذا كان في مصر "عرابي" واحد، ففي قطر "2 عرابي"، كناية عن شجاعة الشيخ جاسم وصلابة موقفه وموقف الشعب القطري خلفه يومها، وذلك في مواجهة التعنت الاستعماري في منطقة الخليج.
لذلك قد تكون "قطر" البلد الوحيد في المنطقة الذي لم يتمكن الإنجليز من إقامة قواعد عسكرية فيه.
ورد منه، أي من الدكتور عبدالعزيز، من خلال الوثائق السرية التي اطلع عليها، رحم الله الأستاذ الدكتور عبدالعزيز عبدالغني.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في الساعات المبكرة من صباح السبت، ومع أول شعاع يلامس مياه الخليج الهادئة، من المعتاد أن أقصد شاطئ الوكرة لأجد فيه ملاذا هادئا بعد صلاة الفجر. لكن ما شهده الشاطئ اليوم لم يكن منظرا مألوفا للجمال، بل كان صدمة بصرية مؤسفة، مخلفات ممتدة على طول الرمال النظيفة، تحكي قصة إهمال وتعدٍ على البيئة والمكان العام. شعرت بالإحباط الشديد عند رؤية هذا المنظر المؤسف على شاطئ الوكرة في هذا الصباح. إنه لأمر محزن حقا أن تتحول مساحة طبيعية جميلة ومكان للسكينة إلى مشهد مليء بالمخلفات. الذي يصفه الزوار بأنه «غير لائق» بكل المقاييس، يثير موجة من التساؤلات التي تتردد على ألسنة كل من يرى المشهد. أين الرقابة؟ وأين المحاسبة؟ والأهم من ذلك كله ما ذنب عامل النظافة المسكين؟ لماذا يتحمل عناء هذا المشهد المؤسف؟ صحيح أن تنظيف الشاطئ هو من عمله الرسمي، ولكن ليس هو المسؤول. والمسؤول الحقيقي هو الزائر أولا وأخيرا، ومخالفة هؤلاء هي ما تصنع هذا الواقع المؤلم. بالعكس، فقد شاهدت بنفسي جهود الجهات المختصة في المتابعة والتنظيم، كما لمست جدية وجهد عمال النظافة دون أي تقصير منهم. ولكن للأسف، بعض رواد هذا المكان هم المقصرون، وبعضهم هو من يترك خلفه هذا الكم من الإهمال. شواطئنا هي وجهتنا وواجهتنا الحضارية. إنها المتنفس الأول للعائلات، ومساحة الاستمتاع بالبيئة البحرية التي هي جزء أصيل من هويتنا. أن نرى هذه المساحات تتحول إلى مكب للنفايات بفعل فاعل، سواء كان مستخدما غير واعٍ هو أمر غير مقبول. أين الوعي البيئي لدى بعض رواد الشاطئ الذين يتجردون من أدنى حس للمسؤولية ويتركون وراءهم مخلفاتهم؟ يجب أن يكون هناك تشديد وتطبيق صارم للغرامات والعقوبات على كل من يرمي النفايات في الأماكن غير المخصصة لها، لجعل السلوك الخاطئ مكلفا ورادعا.
4254
| 05 ديسمبر 2025
-«المتنبي» حاضراً في افتتاح «كأس العرب» - «أبو الطيب» يتألق في نَظْم الشعر.. وفي تنظيم البطولات تتفوق قطر - «بطولة العرب» تجدد شراكة الجذور.. ووحدة الشعور - قطر بسواعد أبنائها وحنكة قادتها تحقق الإنجاز تلو الآخر باستضافتها الناجحة للبطولات - قطر تراهن على الرياضة كقطاع تنموي مجزٍ ومجال حيوي محفز - الحدث العربي ليس مجرد بطولة رياضية بل يشكل حدثاً قومياً جامعاً -دمج الأناشيد الوطنية العربية في نشيد واحد يعبر عن شراكة الجذور ووحدة الشعور لم يكن «جحا»، صاحب النوادر، هو الوحيد الحاضر، حفل افتتاح بطولة «كأس العرب»، قادماً من كتب التراث العربي، وأزقة الحضارات، وأروقة التاريخ، بصفته تعويذة البطولة، وأيقونتها النادرة. كان هناك حاضر آخر، أكثر حضوراً في مجال الإبداع، وأبرز تأثيراً في مسارات الحكمة، وأشد أثرا في مجالات الفلسفة، وأوضح تأثيرا في ملفات الثقافة العربية، ودواوين الشعر والقصائد. هناك في «استاد البيت»، كان من بين الحضور، نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، مهندس الأبيات الشعرية، والقصائد الإبداعية، المبدع المتحضر، الشاعر المتفاخر، بأن «الأعمى نظر إلى أدبه، وأسمعت كلماته من به صمم»! وكيف لا يأتي، ذلك العربي الفخور بنفسه، إلى قطر العروبة، ويحضر افتتاح «كأس العرب» وهو المتباهي بعروبته، المتمكن في لغة الضاد، العارف بقواعدها، الخبير بأحكامها، المتدفق بحكمها، الضليع بأوزان الشعر، وهندسة القوافي؟ كيف لا يأتي إلى قطر، ويشارك جماهير العرب، أفراحهم ويحضر احتفالاتهم، وهو منذ أكثر من ألف عام ولا يزال، يلهم الأجيال بقصائده ويحفزهم بأشعاره؟ كيف لا يأتي وهو الذي يثير الإعجاب، باعتباره صاحب الآلة اللغوية الإبداعية، التي تفتّقت عنها ومنها، عبقريته الشعرية الفريدة؟ كيف لا يحضر فعاليات «بطولة العرب»، ذلك العربي الفصيح، الشاعر الصريح، الذي يعد أكثر العرب موهبة شعرية، وأكثرهم حنكة عربية، وأبرزهم حكمة إنسانية؟ كيف لا يحضر افتتاح «كأس العرب»، وهو الشخصية الأسطورية العربية، التي سجلت اسمها في قائمة أساطير الشعر العربي، باعتباره أكثر شعراء العرب شهرة، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق في مجال التباهي بنفسه، والتفاخر بذاته، وهو الفخر الممتد إلى جميع الأجيال، والمتواصل في نفوس الرجال؟ هناك في الاستاد «المونديالي»، جاء «المتنبي» من الماضي البعيد، قادماً من «الكوفة»، من مسافة أكثر من ألف سنة، وتحديداً من العصر العباسي لحضور افتتاح كأس العرب! ولا عجب، أن يأتي «أبو الطيب»، على ظهر حصانه، قادماً من القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، لمشاركة العرب، في تجمعهم الرياضي، الذي تحتضنه قطر. وما من شك، في أن حرصي على استحضار شخصية «المتنبي» في مقالي، وسط أجواء «كأس العرب»، يستهدف التأكيد المؤكد، بأن هذا الحدث العربي، ليس مجرد بطولة رياضية.. بل هو يشكل، في أهدافه ويختصر في مضامينه، حدثاً قومياً جامعاً، يحتفل بالهوية العربية المشتركة، ويحتفي بالجذور القومية الجامعة لكل العرب. وكان ذلك واضحاً، وظاهراً، في حرص قطر، على دمج الأناشيد الوطنية للدول العربية، خلال حفل الافتتاح، ومزجها في قالب واحد، وصهرها في نشيد واحد، يعبر عن شراكة الجذور، ووحدة الشعور، مما أضاف بعداً قومياً قوياً، على أجواء البطولة. ووسط هذه الأجواء الحماسية، والمشاعر القومية، أعاد «المتنبي» خلال حضوره الافتراضي، حفل افتتاح كأس العرب، إنشاد مطلع قصيدته الشهيرة التي يقول فيها: «على قدر أهل العزم تأتي العزائم» «وتأتي على قدر الكرام المكارم» والمعنى المقصود، أن الإنجازات العظيمة، لا تتحقق إلا بسواعد أصحاب العزيمة الصلبة، والإرادة القوية، والإدارة الناجحة. معبراً عن إعجابه بروعة حفل الافتتاح، وانبهاره، بما شاهده في عاصمة الرياضة. مشيداً بروعة ودقة التنظيم القطري، مشيراً إلى أن هذا النجاح الإداري، يجعل كل بطولة تستضيفها قطر، تشكل إنجازاً حضارياً، وتبرز نجاحاً تنظيمياً، يصعب تكراره في دولة أخرى. وهكذا هي قطر، بسواعد أبنائها، وعزيمة رجالها، وحنكة قادتها تحقق الإنجاز تلو الآخر، خلال استضافتها الناجحة للبطولات الرياضية، وتنظيمها المبهر للفعاليات التنافسية، والأحداث العالمية. وخلال السنوات الماضية، تبلورت في قطر، مرتكزات استراتيجية ثابتة، وتشكلت قناعات راسخة، وهي الرهان على الرياضة، كقطاع تنموي منتج ومجزٍ، ومجال حيوي محفز، قادر على تفعيل وجرّ القطاعات الأخرى، للحاق بركبه، والسير على منواله. وتشغيل المجالات الأخرى، وتحريك التخصصات الأخرى، مثل السياحة، والاقتصاد، والإعلام والدعاية، والترويج للبلاد، على المستوى العالمي، بأرقى حسابات المعيار العالمي. ويكفي تدشينها «استاد البيت»، ليحتضن افتتاح «كأس العرب»، الذي سبق له احتضان «كأس العالم»، وهو ليس مجرد ملعب، بل رمز تراثي، يجسد في تفاصيله الهندسية، معنى أعمق، ورمزا أعرق، حيث يحمل في مدرجاته عبق التراث القطري، وعمل الإرث العربي. وفي سياق كل هذا، تنساب في داخلك، عندما تكون حاضراً في ملاعب «كأس العرب»، نفحات من الروح العربية، التي نعيشها هذه الأيام، ونشهدها في هذه الساعات، ونشاهدها خلال هذه اللحظات وهي تغطي المشهد القطري، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. وما من شك، في أن تكرار نجاحات قطر، في احتضان البطولات الرياضية الكبرى، ومن بينها بطولة «كأس العرب»، بهذا التميز التنظيمي، وهذا الامتياز الإداري، يشكل علامة فارقة في التنظيم الرياضي. .. ويؤكد نجاح قطر، في ترسيخ مكانتها على الساحة الرياضية، بصفتها عاصمة الرياضة العربية، والقارية، والعالمية. ويعكس قدرتها على تحقيق التقارب، بين الجماهير العربية، وتوثيق الروابط الأخوية بين المشجعين، وتوطيد العلاقات الإنسانية، في أوساط المتابعين! ولعل ما يميز قطر، في مجال التنظيم الرياضي، حرصها على إضافة البعد الثقافي والحضاري، والتاريخي والتراثي والإنساني، في البطولات التي تستضيفها، لتؤكد بذلك أن الرياضة، في المنظور القطري، لا تقتصر على الفوز والخسارة، وإنما تحمل بطولاتها، مجموعة من القيم الجميلة، وحزمة من الأهداف الجليلة. ولهذا، فإن البطولات التي تستضيفها قطر، لها تأثير جماهيري، يشبه السحر، وهذا هو السر، الذي يجعلها الأفضل والأرقى والأبدع، والأروع، وليس في روعتها أحد. ومثلما في الشعر، يتصدر «المتنبي» ولا يضاهيه في الفخر شاعر، فإن في تنظيم البطولات تأتي قطر، ولا تضاهيها دولة أخرى، في حسن التنظيم، وروعة الاستضافة. ولا أكتب هذا مديحاً، ولكن أدوّنه صريحاً، وأقوله فصيحاً. وليس من قبيل المبالغة، ولكن في صميم البلاغة، القول إنه مثلما يشكل الإبداع الشعري في قصائد «المتنبي» لوحات إبداعية، تشكل قطر، في البطولات الرياضية التي تستضيفها، إبداعات حضارية. ولكل هذا الإبداع في التنظيم، والروعة في الاستضافة، والحفاوة في استقبال ضيوف «كأس العرب».. يحق لدولتنا قطر، أن تنشد، على طريقة «المتنبي»: «أنا الذي حضر العربي إلى ملعبي» «وأسعدت بطولاتي من يشجع كرة القدمِ» وقبل أن أرسم نقطة الختام، أستطيع القول ـ بثقة ـ إن هناك ثلاثة، لا ينتهي الحديث عنهم في مختلف الأوساط، في كل الأزمنة وجميع الأمكنة. أولهم قصائد «أبو الطيب»، والثاني كرة القدم باعتبارها اللعبة الشعبية العالمية الأولى، أمــــا ثالثهم فهي التجمعات الحاشدة، والبطولات الناجحة، التي تستضيفها - بكل فخر- «بلدي» قطر.
2019
| 07 ديسمبر 2025
فجعت محافل العلم والتعليم في بلاد الحرمين الشريفين برحيل معالي الأستاذ الدكتور الشيخ محمد بن علي العقلا، أحد أشهر من تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، والحق أنني ما رأيت أحدًا أجمعت القلوب على حبه في المدينة المنورة لتواضعه ودماثة أخلاقه، كما أجمعت على حب الفقيد الراحل، تغمده الله بواسع رحماته، وأسكنه روضات جناته، اللهم آمين. ولد الشيخ العقلا عليه الرحمة في مكة المكرمة عام 1378 في أسرة تميمية النسب، قصيمية الأصل، برز فيها عدد من الأجلاء الذين تولوا المناصب الرفيعة في المملكة العربية السعودية منذ تأسيس الدولة. وقد تولى الشيخ محمد بن علي نفسه عمادة كلية الشريعة بجامعة أم القرى، ثم تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عام 1428، فكان مكتبه عامرا بالضيوف والمراجعين مفتوحًا للجميع وجواله بالمثل، وكان دأبه الرد على الرسائل في حال لم يتمكن من إجابة الاتصالات لأشغاله الكثيرة، ويشارك في الوقت نفسه جميع الناس في مناسباتهم أفراحهم وأتراحهم. خرجنا ونحن طلاب مع فضيلته في رحلة إلى بر المدينة مع إمام الحرم النبوي وقاضي المدينة العلامة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ وعميد كلية أصول الدين الشيخ عبد العزيز بن صالح الطويان ونائب رئيس الجامعة الشيخ أحمد كاتب وغيرهم، فكان رحمه الله آية في التواضع وهضم الذات وكسر البروتوكول حتى أذاب سائر الحواجز بين جميع المشاركين في تلك الرحلة. عرف رحمه الله بقضاء حوائج الناس مع ابتسامة لا تفارق محياه، وقد دخلت شخصيا مكتبه رحمه الله تعالى لحاجة ما، فاتصل مباشرة بالشخص المسؤول وطلب الإسراع في تخليص الأمر الخاص بي، فكان لذلك وقع طيب في نفسي وزملائي من حولي. ومن مآثره الحسان التي طالما تحدث بها طلاب الجامعة الإسلامية أن أحد طلاب الجامعة الإسلامية الأفارقة اتصل بالشيخ في منتصف الليل وطلب منه أن يتدخل لإدخال زوجته الحامل إلى المستشفى، وكانت في حال المخاض، فحضر الشيخ نفسه إليه ونقله وزوجته إلى المستشفى، وبذل جاهه في سبيل تيسير إدخال المرأة لتنال الرعاية اللازمة. شرفنا رحمه الله وأجزل مثوبته بالزيارة إلى قطر مع أهل بيته، وكانت زيارة كبيرة على القلب وتركت فينا أسنى الأثر، ودعونا فضيلته للمشاركة بمؤتمر دولي أقامته جامعة الزيتونة عندما كنت مبتعثًا من الدولة إليها لكتابة أطروحة الدكتوراه مع عضويتي بوحدة السنة والسيرة في الزيتونة، فكانت رسالته الصوتية وشكره أكبر داعم لنا، وشارك يومها من المملكة معالي وزير التعليم الأسبق والأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الوالد الشيخ عبدالله بن صالح العبيد بورقة علمية بعنوان «جهود المملكة العربية السعودية في خدمة السنة النبوية» ومعالي الوالد الشيخ قيس بن محمد آل الشيخ مبارك، العضو السابق بهيئة كبار العلماء في المملكة، وقد قرأنا عليه أثناء وجوده في تونس من كتاب الوقف في مختصر الشيخ خليل، واستفدنا من عقله وعلمه وأدبه. وخلال وجودنا بالمدينة أقيمت ندوة لصاحب السمو الملكي الأمير نواف بن فيصل بن فهد آل سعود حضرها أمير المدينة يومها الأمير المحبوب عبد العزيز بن ماجد وعلماء المدينة وكبار مسؤوليها، وحينما حضرنا جعلني بعض المرافقين للشيخ العقلا بجوار المستشارين بالديوان الملكي، كما جعلوا الشيخ جاسم بن محمد الجابر بجوار أعضاء مجلس الشورى. وفي بعض الفصول الدراسية زاملنا ابنه الدكتور عقيل ابن الشيخ محمد بن علي العقلا فكان كأبيه في الأدب ودماثة الأخلاق والسعي في تلبية حاجات زملائه. ودعانا مرة معالي الشيخ العلامة سعد بن ناصر الشثري في الحرم المكي لتناول العشاء في مجلس الوجيه القطان بمكة، وتعرفنا يومها على رئيس هيئات مكة المكرمة الشيخ فراج بن علي العقلا، الأخ الأكبر للشيخ محمد، فكان سلام الناس عليه دليلا واضحا على منزلته في قلوبهم، وقد دعانا إلى زيارة مجلسه، جزاه الله خيرا. صادق العزاء وجميل السلوان نزجيها إلى أسرة الشيخ ومحبيه وطلابه وعموم أهلنا الكرام في المملكة العربية السعودية، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، اللهم تقبله في العلماء الأتقياء الأنقياء العاملين الصالحين من أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. «إنا لله وإنا إليه راجعون».
1785
| 04 ديسمبر 2025