رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كان من المفروض أن اكتب بأن أخي العزيز الأستاذ الدكتور ربيعة بن صباح الكواري تم اختياره وبإجماع نائباً لرئيس المركز القطري للصحافة. هذا ما كنت انوي عليه، وفاتحت أخي الأستاذ « صادق محمد العماري « مدير المركز القطري للصحافة لأخذ رأيه قبل طرحه أمام الزملاء أعضاء مجلس إدارة المركز في الاجتماع القادم، فوجدته مثنياً على هذا الاختيار مؤكداً على استحقاق الدكتور ربيعة على هذا المنصب وجدارته به لما له من باع طويل في ميدان الصحافة القطرية وتاريخها، وما قدمه طوال مشواره في هذا الميدان. * * * اتصلت بأخي الدكتور ربيعة يوم ٤ مارس الماضي، كان مقرراً أن نعقد اجتماع لجنة تدوين تاريخ الصحافة القطرية يوم ٥ مارس كما هو مجدول لها، ولكنه طلب مني أن نؤجل الاجتماع لما بعد العيد حتى نفسح مزيداً من الوقت لباقي الزملاء لتقديم مرئياتهم وما توصلوا إليه من معلومات تفيدنا في هذا المجال، خاصة وأن هذا التدوين يحتاج منا لجهد مضاعف. مرت الأيام سريعة، حتى جاءني نبأ تعرضه لوعكة صحية تطلبت نقله للمستشفى، فقمت بالاتصال بابنه صباح والذي لمست من صوته خطورة إصابته موصياً بالدعاء له، وما هي إلا سويعات حتى يأتي الناعي لينعي وفاته. * * * عرفت الدكتور ربيعة منذ سنوات طويلة، منذ أيام مجلة الصقر، فقد كان وقتها في ريعان شبابه وطالباً في الجامعة، كانت تمتلكه الرغبة في العمل الصحفي، وهذا ما تم له فدخل عالمها كواحد من الشباب الواعد والذي يتدفق حماساً وحباً لها، فقرر التخصص في مجال الإعلام خلال دراسته الجامعية، ثم ليواصل رحلة العمل في هذا المجال استاذاً وكاتباً. وبينهما اذكر في عام ١٩٨٧ م عندما طُلب مني العمل كرئيس لتحرير جريدة « الخليج اليوم «، طلبت من أخي ربيعة أن يرافقني في هذه الرحلة، فوافق فكان نائباً لرئيس التحرير، واجتمعت معه فقال لي: ما العمل الآن ؟ قلت سوف اتقدم بطلب لإيقاف الجريدة عن الصدور، وأرغب في إعادة إصدارها باسم جديد، أريد أن ينسى الناس الجريدة القديمة، وأن ينتظروا الجديدة، فوافقني على ذلك وقال لابد أن نختار الاسم اللائق بها، فكان أن وافقني على اسم « الشرق «، فكان ميلاد الجريدة يوم ٣ سبتمبر ١٩٨٧ م، وهو اليوم الذي يصادف توقيع قطر على اتفاقية انهاء الحماية البريطانية، وإعلان دولة قطر دولة ذات سيادة مستقلة. وبالفعل صدرت الشرق في نفس الموعد وبشكل وبروح صحفية جديدة، ودب الحماس بين أسرة تحريرها، فقد تعمدت في البدء أن يكون الإصدار اسبوعيا لنتعرف على أوجه النقص لنتلافاه في الإصدار اليومي، وهذا ما كان. كان ربيعة بن صباح أحد العناصر المهمة في تلك المرحلة، كان الذراع الأيمن الذي اعتمدت عليه في الجريدة، كان يملك روح الطيبة وحسن التعامل مع زملائه، عرف بخلقه الرفيع ونفسه الطيبة وقلمه السيال السلس، في رحلة رافقنا فيها الأستاذ الراحل مصطفى سند، والأستاذ حسن أبو عرفات اطال الله في عمره، وسيد حجازي رحمه الله، وغيرهم ممن كانت لهم ايادٍ بيضاء في تطور الشرق، واستمر ربيعة يكتب على صفحاتها دون توقف حتى آخر أيامه. * * * وعندما انتقلت للعمل في التلفزيون كان نعم الأخ والزميل، فقد ساهم في نجاح برنامج « من أعماق الوطن «، ناهيك على أنه كان ضيفاً في العديد من البرامج التلفزيونية يحلل ويبدي الرأي والنصح السديد. ودخل مجال التأليف فأصدر العديد من الكتب التي تتعلق بالتراث القطري مثرياً المكتبة بمثل هذه الإصدارات القيمة، والتي تدون مرحلة مهمة في تاريخ هذا الوطن، كما عرف بأنه من افضل الكتاب القطريين في سرد السيرة لرجال قطر، فقد عرفه القراء وهو يكتب عن أولئك الذين رحلوا عن الدنيا وتركوا فيها أجمل الأثر في عرفان وتقدير لما قدموه لهذا الوطن الغالي. * * * وعندما كنت أنظم الندوات الثقافية في الصالون الثقافي عندي في مجلسي الخاص، كان ربيعة احد الشخصيات التي أثرت المشهد الثقافي بطرحه الموضوعي ومناقشاته القيمة مع ضيوف الصالون، مما اكسب الحوار قيمة وثراء. * * * إنها رحلة زمالة طويلة مليئة بالذكريات والتي لا يمكن لي أن انساها، وستبقى معي طول العمر، ف ربيعة هو الأخ والصديق والزميل والذي عشناها اياما جميلة في دروب صحافة هذا الوطن. رحم الله أخي الغالي الدكتور ربيعة بن صباح الكواري، داعياً المولى عز وجل أن يغفر له ويسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وأن يبارك في ذريته ليكونوا خير خلف لخير سلف. «إنا لله وإنا إليه راجعون».
1908
| 17 مارس 2024
أتاحت لي زيارة سلطنة عُمان وبدعوة كريمة من جمعية الصحفيين العمانية أن أتعرف على الجانب الإعلامي، والذي لم أكن قد تعرفت عليه من زمن طويل، كنت أعرف إعلام عمان عبر بعض صحفها وتلفزيونها ومجلة نزوى الثقافية، ولكن خلال تواجدي هناك هالني ما شاهدته من انتشار الإعلام الخاص وتدفق عشرات من الشباب ومن الجنسين العاملين في هذا الحقل، وسهوله التواصل معهم وبينهم، كما لمست قوة "جمعية الصحفيين العمانية" ومدى ما تحظى به من تقدير دولي تمثل في احتضانها لاجتماعات الجمعية العمومية للاتحاد الدولي للصحافة العالمية "IFJ“، والذي عقد الكونجرس الخاص به رقم 31 في الفترة ما بين 31 مايو حتى 3 يونيو 2022 م، لتكون مسقط أول عاصمة في تاريخ الشرق الأوسط تحتضن هذا الحدث، وثاني دولة عربية بعد تونس تنال شرف تنظيم هذا المؤتمر، وهي خطوة تحسب للقيادة العمانية، والتي أعطت الجمعية صلاحية مثل هذا العمل المميز، ومن الصدف العجيبة أن وقت المؤتمر جاء بعد استشهاد الزميلة "شيرين أبو عاقلة" على أيادي القوات الصهيونية في القدس، لتتحول جلسات المؤتمر وكأنها حفل تأبين للراحلة، بل وقف الجميع، في حفل الافتتاح، دقيقة صمت حداداً على روحها الطاهرة، وليعلن المؤتمر تضامنه معها ومع كل الزملاء والزميلات الذين يقدمون أرواحهم فداء للعمل الصحفي النزيه، ليس لأجل شيء سوى لنقل الحقيقة للمتابع. وكأني بالمؤتمر والقائمين عليه يدركون أن مثل هذه اللحظات التاريخية يجب أن تجسد التضامن مع أرباب الكلمة وحملة القلم أو العدسة أو الكاميرا التلفزيونية أو الميكرفون الإذاعي، ما دام صاحبه يسعى للوصول بالمتلقي للحقيقة كما يعرفها عن قرب. لقد بذل إخواني وأخواتي رئيس وأعضاء جمعية الصحفيين العمانية الكثير من الجهد والعطاء من أجل إنجاح هذا الجمع الكبير، واعتقد بأنهم وفقوا في ذلك بل كان كرمهم وتقديرهم لنا جميعاً أكبر مما توقعت، وزاد من ذلك اطلاعي عن قرب على ما تتمتع به وسائل الإعلام العُمانية من حرية مسؤولة تتوازن مع ثبات القيم والبعد عن المهاترات والشخصنة، والاعتماد على النقد الموضوعي والهادف، وهذا النهج الصحيح، والذي يجب أن تسلكه أي وسيلة إعلامية ويتبناه أي كاتب أو صحفي،، ثم رغم كل ذلك فإن وزارة الإعلام العمانية حافظت على صحيفتها الحكومية "جريدة عُمان" والتي ما زالت تصدر بصورة يومية وتحتضن عشرات من الكوادر المحلية، وهذا في رأيي عين الصواب، فالدولة يجب أن يكون لها صوتها الخاص والمعبر عن رؤيتها، وتتبنى من خلالها المواهب الوطنية لتفسح لها المجال للكتابة وتعلم فنون الصحافة والإعلام، ثم لتكون هذه الصحيفة "مدرسة" يتخرج فيها صحفيون وكتاب وفنيون من مختلف قطاعات الإعلام، مع توافر الضمان المستقبلي لهم، وهذا ما أتمنى أن يكون نهجاً في دولنا، بدلاً من ترك الموضوع للقطاع الخاص والذي يتأثر كثيراً بالوضع الاقتصادي حسب ظروف السوق وطبيعته. كما كانت هذه فرصة لأن نلتقي مع العديد من الصحفيين والكتاب ومن مختلف أقطار العالم، حيث دار نقاش حيوي ومهم حول ما يتعرض له بعض الصحفيين من مضايقات وتعرضهم للاعتقال أو القتل، وكان لي أن أصف هذا المؤتمر بأنه "مؤتمر شيرين أبو عاقلة". كما أجدها مناسبة لأن اغتنم فرصة وجودي هناك لأزور أيقونة مسقط الرائعة والمتمثلة في "دار الأوبرا السلطانية"، التي شيدت في عهد السلطان قابوس بن سعيد، رحمه الله، والتي تعد واحدةً من أجمل دور الأوبرا في العالم ويزورها سنوياً عشرات الآلاف من عشاق الفن والموسيقى، ونلنا أنا وزملائي فرصة الاستماع لبعض المعزوفات الموسيقية، التي دمجت بين التراث العربي والموسيقى الغربية، بقيادة عمانية كان قائدها الموسيقار العُماني "حمدان الشعيلي" مع كادر عماني بالكامل، وهذا بحد ذاته مكسب كبير تمكنت السلطنة من تحقيقه في زمن قياسي، لتكون هذه الأوبرا عمانية في كل شيء، وهي فرصة لزوار عُمان لأن يطلعوا عليها،، كما أتاحت لي اللجنة المشرفة على الحفل زيارة متحف عُمان التاريخي. وللحديث عن تاريخ عُمان فإن الموضوع يحتاج لصفحات عدة، فتاريخها زاهر منذ مئات السنين، ومن يقرأ عنه سيعرف الكثير من القصص والروايات الخالدة في التاريخ العربي، ولكن ما لفت نظري في المتحف أنه احتوى على بعض المقتنيات الشخصية للأسرة الحاكمة، فقد شاهدت الوصية التي كتبها السلطان قابوس رحمه الله، والتي أوصى فيها أن يتسلم زمام الحكم من بعده، في حالة عدم الاتفاق على أحد من الأسرة، بأن يكون السلطان هيثم بن طارق بن تيمور، هو سلطان البلاد، وقد كتب الاسم بالخط الأحمر وتوقيع السلطان قابوس باللون الأحمر، وقد شهد العالم فتح الوصية عبر شاشة التلفزيون. كما وجدت الرسالة، والتي كنت قد سمعت عنها كثيراً دون أن أتأكد من صحتها، في المتحف وهي التي بعثها السلطان سعيد بن تيمور والد السلطان قابوس، بعد عزله وهي تحتوي على عبارات إنسانية جميلة تختلج فيها مشاعر الأبوة والحب الأصيل بين الأب وابنه مصحوبة بنقل تحياته لوالدته "زوجة السلطان سعيد وابنته شقيقة السلطان قابوس" رحمهم الله جميعاً. وأطرف ما في الزيارة، حدث لي شخصياً، في الحوار التلفزيوني الذي أجرته معي المذيعة الشابة "سميرة الحراث"، كنت أتوقع أن يكون الحوار عن المؤتمر وظروفه وعن مسيرتي الإعلامية وعن كأس العالم 2022 م وغيرها من المواضيع والتي تتناسب مع مسيرتي في الحياة، ولكن كانت المفاجأة بأن جزءاً من الأسئلة يتعلق بعلاقتي مع جلالة السلطان هيثم بن طارق لكوني أول من كتب عنه عندما ترأس الاتحاد العماني لكرة القدم عام ١٩٨٦م، وطُلب مني أن أتحدث عن تلك اللحظات التي ما زلت اذكرها، والشيء الجميل هو أريحية المذيعة وهي تسأل وتحرجني أنا في الإجابة، لأن الحديث عن الحكام في وسائل الإعلام ليس بالأمر السهل، بل يجب أن يكون مقنناً ومختصراً قدر الإمكان، ولكن هي عُمان بإعلامها الجميل الواسع الحرية المتدفق معلومات، والذي يريد أن يصل لقلب وعقل المتلقي، لا يجد في ذلك أي حرج بل يزيده افتخاراً بقائده وشعبه. كل الشكر لمن أتاح لي هذه الفرصة للتعرف على الكثير من زملاء المهنة من مختلف دول العالم، ولطبيعة عمل ومهمة الاتحاد الدولي للصحافة العالمية، والشكر كل الشكر لإخواني في وزارة الإعلام ولجنة الصحفيين في عُمان على هذه البادرة الكريمة. وإذا كان الشكر لمن يستحقه فلا أنسى أن أقدم كل الشكر والتقدير لسعادة الشيخ عبدالرحمن بن حمد آل ثاني وزير الثقافة على تسهيل مهمة سفري لحضور هذا المنتدى الجميل، وقد تشرفت بصحبة زميلي العزيز الأستاذ جابر الحرمي والزميلة العزيزة الصحفية النشطة فوزية علي. * رئيس المركز القطري للصحافة
1360
| 08 يونيو 2022
بوفاته تكون صفحة من صفحات التاريخ للخليج والجزيرة العربية قد انطفأت. في الأسبوع الماضي نعت الأوساط الثقافية في قطر وفاة المؤرخ الأستاذ الدكتور عبدالعزيز عبدالغني، وهو الرجل الذي أثرى ساحة الإعلام والثقافة والتاريخ بمؤلفاته، والتي كانت مرجعاً للعديد من المهتمين بتاريخ المنطقة وأحداثها عبر السنين، وقد يكون هذا الرجل من القلائل، من غير أبناء المنطقة، الذين اهتموا بالبحث والدراسة لأحوالها وظروفها وأحداثها عبر الزمن، فتنقل بين دولها يدون التاريخ من الوثائق والكتب والمراجع، بل قادته قدماه ليزور بعض دور اهتمت بهذه الوثائق في خارج العالم العربي، ليس لأجل شيء سوى أن يدعم ما يكتبه ويدونه. يوم الأربعاء 21 يوليو 2021م، قمت بزيارته في منزله بالدوحة، رافقني في هذه الرحلة ابني جاسم، وكذلك كان برفقتنا الأخ العزيز الأستاذ إبراهيم الدويري، والذي كان له الدور المهم في ترتيب هذا اللقاء. كان هدفي من الزيارة هو التعرف على الأستاذ عبدالعزيز والجلوس معه والحديث إليه في شتى المواضيع التي كتب عنها مع حرصي البالغ على الاستفادة منه في نوعية المصادر التي استند إليها للحصول على المعلومات التي وردت في هذه المؤلفات. الجلوس والحديث مع الرجل متعة، الشيء الوحيد الذي أزعجني هو خشيتي من أن نثقل عليه الزيارة، خاصة وأن عامل السن لم يكن مساعداً، ناهيك عن أن موعد الزيارة كان صيفاً، ولكن للأمانة والصدق وجدت أمامي رجلاً صادقاً في طرحه، مؤمناً بما يكتبه ومقتنعاً بما أورده من معلومات، ثم الأهم مرحباً ومستمتعاً بالحديث معنا. ناقشته في بعض ما طرحه في كتبه، قلت له: قد تكون بعض المعلومات التي وردت في هذه الكتب غير دقيقة وغير متوافقة مع الدافع الذي سمعنا عنه سواء في الذين عاشوا أحداث المنطقة في تلك السنوات أو الذين تعايشوا مع أولئك الذين نقلوا إلينا العديد من الأحداث، وأنا شخصياً لا أشك فيما روي لي من طرفهم، لأنني أتوافق مع هؤلاء بحكم قربهم من صنّاع الأحداث في ذلك الزمان أو تلك الفترة، لذلك أرى أن نقل الأحداث كما رويت بلسانهم تحتوي على مصداقية أكثر، وتتواءم طبيعة الأحداث مع واقع اليوم. قال لي الأستاذ عبدالعزيز: أنا لست من أبناء المنطقة، لذلك يصعب عليّ أن آخذ الأحداث من أشخاص، لأن كل شخص سوف يروي الحدث من وجهة نظره هو شخصياً، وحسب ما تناقلته الأجيال، وهذا يتوافق مع أبناء الخليج عندما يشرعون في كتابته أو حتى روايته، لكن لباحث مثلي لا ينتمي لهذه المنطقة، ليس من الإنصاف له أن يكتب ما تتناقله الألسن، بل من الضروري للمصداقية أن يبحث عن مراجع ووثائق تحدثت عن تاريخ الجزيرة العربية والأحداث التي مرت بها. ولمكان مثل هذه المنطقة، فإن أنسب مرجع تستفيد منه هو بريطانيا والهند، فمنذ مطلع القرن التاسع عشر، عندما شرعت القوات الملكية البحرية البريطانية شواطئ الخليج العربي، تحت حجة حماية مصالحها في درة التاج البريطاني "الهند"، وحماية خطوط التجارة البرية والبحرية. لذلك هم، أي الإنجليز، الأنسب للحصول على المعلومات، فقد كتب الكثير منهم عن الأحداث التي مرت هنا، لذلك ذهبت إليهم وطلبت الحصول على بعض من هذه الوثائق والتي دونت أحداث الخليج، ووجدت هناك كل التسهيلات التي أريد أن أحصل عليها. وللحق فإنه في الغرب من السهل عليك أن تحصل على ما تريد، وبأريحية كاملة، فعندهم نظام جميل، يرى أن المعلومات والمخطوطات والوثائق تفقد سريتها بعد فترة من الزمن، قد تمتد ما بين 30 - 50 سنة، حسب النظام في كل دولة، ثم تكون في متناول أيادي الباحثين أو الدارسين، وتجد كل دعم وعناية واهتمام من القائمين على هذه المراكز، ولعل هذا الشيء نفتقده في العالم العربي، فما زال الحصول على المعلومات في مراكز البحث ودور الوثائق العربية، رغم قلتها، إلا أنك تجد صعوبة في توافرها، وهذا مع الأسف الفرق بين من يدرك أهمية العلم والبحث والدراسات، ومن لا يعطي هذا الشأن الاهتمام المطلوب، وقد يكون هذا يحدث بحسن نية ولكن المسألة لا تخضع للعواطف، فأمام الباحث الصادق يجب أن تسهل له المعلومة ليوفرها لقرائه ومتابعيه. ولكن في المقابل هناك بعض الوثائق السرية لدى الغرب، ليس من السهولة الحصول عليها، بل هذا يتطلب جهداً مضاعفاً، وتخضع لظروف معينة، فهم، أي القائمين على هذه المراكز، خاصة تلك التي تتبع جهات أمنية، أقول تخضع لاعتبارات عديدة، منها البيانات الشخصية للباحث والمؤلفات التي قدمها أو نشرها، ثم عليه أن ينتظر حتى يحصل على الموافقة، وقد تمتد فترة الانتظار لتصل لأكثر من سنة، وإذا ما تمت الموافقة له للحضور للاطلاع على هذه الوثائق، فإنه يدعى وقبل دخوله قاعة الاطلاع، عليه أن يتجرد من كل شيء سوى ملابسه، فلا يسمح له بحمل قلم أو ورقة أو جوال أو كاميرا، بل له حق الاطلاع والقراءة فقط، ويحاول أن يحفظ ما يقرأه، وعندما يدخل إلى القاعة، يؤتى بشخص، رجل أو امرأة، ويحمل بين يديه الكتاب أو الوثيقة التي تتعلق بالبحث الذي كتب عنه، عندما شرع في تقديم الطلب، ويوضع الكتاب أمامه، ولا يحق له لمس الكتاب، بل الشخص الذي يقف بالقرب منه هو الذي يقلب الأوراق حسب ما يراه مناسباً من وقت، فقط على الباحث أن يقرأ ويطلع على الصور، إذا ما كان في الكتاب أو المصدر بعض من الصور، ولا تستغرق الزيارة أكثر من ساعة على أكثر تقدير. الشيء الوحيد الذي يعتمد عليه الباحث في هذا الوضع هو ذاكرته، وما أسعفته في قدرتها على تخزين المعلومات التي أمكنه الإطلاع عليها. ويقول الدكتور عبدالعزيز عبدالغني: عندما أتيحت لي الأقدار أن أزور هذه الأمكنة، هالني ما شاهدته، وليس فقط ما قرأته، من صور لشخصيات عربية كان يستحيل تصويرها، ولكن هذا ما شاهدته بحق، "أعتذر عن ذكر أسماء أصحاب هذه الصور"، مما يعني أن هذه الوثائق تحتوي على دقة متناهية لا تخطر على بال الباحث، هكذا يقول عبدالعزيز عبدالغني، وهو يصف ما شاهده وليس ما قرأه في تلك الوثائق، وهي مهمة شاقة تحسب للمؤلف، والذي بذل من الجهد والعطاء الشيء الكثير، وأعتبر أن كل ما كتبه هو يمثل وجهة نظره الشخصية في الأحداث التي مرت بالمنطقة، وقال أنا لا أكتب حسب رغبات الغير، هذا يتنافى مع مبدئي كمؤرخ وباحث، وقال أعرف أن بعض ما تناولته في كتبي قد لا يعجب بعض القراء، وهذا حقهم، ولكن هذا مقدار جدي واجتهادي، نقلت الأحداث كما حصلت عليها من مصادر ووثائق ومخطوطات، وليس عبر الروايات، الروايات يجب أن ينقلها أبناء المنطقة، هم يملكون مصداقية أكثر مني في ذلك، أما لشخص مثلي أنا، فأنا أرى أنه عليّ أن أتجنب ذلك، حتى لا تدخل العاطفة في نقل شيء قد يتعارض مع وجهات نظر الآخرين. وفي سرد الحديث أذكر أنه قال لنا، إنه التقى يوماً مع أحد الزعماء العرب، وبالتحديد زعيم دولة خليجية وقال له، بعد جلسة تاريخية دارت بينهما، أنت يا دكتور عبدالعزيز، قد تكون أفضل مني في السرد الكتابي، ولكنني أفضل منك في السرد الراوي، أي أن هذا الزعيم قد حفظ الأحداث مما سمعه من العديد من الأجيال التي مرت أمامه واستمع من روايات الأحداث عن طريقهم، بعكس الدكتور عبدالعزيز الذي اشتق معلومات من الكتب والوثائق، كما تحدث عن تجربة تنقله من بلد عربي لبلد عربي، وقال زرت إحدى الدول العربية، وعندما نزلت في مطارها هالني ما شاهدته من شعارات معلقة على جدران المطار وفي الطرق، وهي تتحدث عن "خيالات" وليست "أفكار"، ولكن المشكلة أن هذا الطرح المدون على شاشة الساحات وأمام الناس لا يتوافق مع المنطق ولا العدل، وأراه هراءً وغير واقعي حتى ولو كُتبت بأسلوب فلسفي، قلت لهم هذا تخبيص؟ ما هذا الكلام؟، من يصدق هذا الكلام؟ قالوا لي أسكت!! هذا كلام القائد وفلسفته.. عرفت لحظتها أن هذا الرأي والذي طرحته قد يسبب لي مشاكل، بعد أن لمست بعض المتاعب والتي بدأت أتعرض إليها، فقررت الرحيل ليلاً وعبر البحر، تاركاً كل شيء من ممتلكاتي الشخصية والمالية ولم أعد لذلك المكان من يومها. واختتم مقالي بعبارة جميلة قالها لنا الدكتور عبدالعزيز عبدالغني، حيث قال: طوال مشواري المهني، وتعدد قراءاتي وبحوثي في مجال التاريخ والوثائق، فقد تعرفت واقتربت، بحكم القراءة والمطالعة والبحث، للعديد من الشخصيات الخليجية والعربية، ولكنني أقولها بحق وبدون مجاملة، إن أكثر شخصية بهرتني وأعجبتني هي شخصية الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني، والذي تسمونه في قطر "المؤسس"، هو بحق شخصية فذة، وزعامة فريدة، جمع بين الدين والدنيا، فصنع مجداً ووطناً خلده التاريخ، وعندما وقف في وجه المطامع البريطانية في الخليج، حيث انتصر لمبادئه وقيمه الدينية. قال أحد جنرالات الإنجليز والذي كان مقيماً في المنطقة: قولوا للشيخ جاسم إن هناك "عرابي" واحداً قد ظهر في مصر، فرد الشيخ جاسم وقال: قولوا له إذا كان في مصر "عرابي" واحد، ففي قطر "2 عرابي"، كناية عن شجاعة الشيخ جاسم وصلابة موقفه وموقف الشعب القطري خلفه يومها، وذلك في مواجهة التعنت الاستعماري في منطقة الخليج. لذلك قد تكون "قطر" البلد الوحيد في المنطقة الذي لم يتمكن الإنجليز من إقامة قواعد عسكرية فيه. ورد منه، أي من الدكتور عبدالعزيز، من خلال الوثائق السرية التي اطلع عليها، رحم الله الأستاذ الدكتور عبدالعزيز عبدالغني.
4263
| 14 فبراير 2022
يقول رب العزة والجلال في محكم كتابه العظيم: "كل من عليها فان. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" سورة الرحمن الآية 26-27. هكذا الدنيا... وصفها مرة سماحة الشيخ المجاهد يوسف القرضاوي- أطال الله في عمره ومتّعه بالصحة والعافية – فقال: " أرحام تدفع، وأرض تبلع". فالحياة كقطار يسير بركابه من محطة انطلاقته الأولى إلى محطة هدفه الأخيرة، ويتوقف في طريق تلك الرحلة هنا وهناك، ليصعد إليه البعض ويترجل منه آخرون، البعض يُودَّع والبعض يُستقبَل، في مسيرة مضت وستمضي حتى قيام الساعة. هكذا، وبالأمس القريب وبالتحديد فجر يوم السبت 8 يونيو 2019 الموافق 5 شوال 1440ه، شاءت إرادة الله أن تتوقف رحلة أخي وصديقي العزيز "خليفة بن خالد بن ناصر السويدي" مع قطار الحياة، راحلاً إلى الآخرة تاركًا في قلبي وقلوب محبيه حسرةً وألمًا شديدين. عرفت "بو خالد" منذ سنوات عديدة، وزادت معرفتي به عندما كنت أتردد على جلساته، سواءً في مكتبه أو في مجلسه، بصحبة العديد من الإخوة والأصدقاء، هذا المكان الذي جمعَنا منذ ثمانينيات القرن الماضي ومر به خيرة رجال هذا البلد. ففي جلساته التي لم تُمل أبدًا، كان يتم مناقشة الكثير من الأحداث والقضايا المحلية، وتلك التي يشهدها عالمنا العربي ومحيطنا الخليجي، كذلك كان يفوح منها عبق الماضي ومرحلة الخمسينيات والستينيات التي عاشها "بو خالد" مع رجالات قطر، وكان يسرد لنا العديد من أحداثها وذكرياتها، وكأنها شريط يمر أمام عينيه، مترحمًا على من رحل منهم ومستذكـراً من هم على قيد الحياة بالخير والذكر الطيب. كان "خليفة السويدي" أرشيفًا غنيًا بتلك الأحداث، فقد دوّنها في قلبه وفكره، بل كنت أعجب أحيانًا من تذكُـره أناسًا بأسمائهم الكاملة من خارج قطر كان قد التقى بهم رغم رحيل البعض منهم منذ سنوات، وكانت هذه الذكريات بحاجة فقط إلى توثيق وحفظ، لتطَّلع عليها الأجيال القادمة، فرواة الأحداث وحفاظها قليلون، وها نحن نودّعهم يومًا بعد يوم دون أن يُوْدَعَ ما احتوت ذاكراتهم من أحداث في سجل لا غنى للأجيال عنه. كان "بو خالد" رجلاً كريمًا، امتدت أياديه بالخير إلى الكثير من الفقراء والأرامل والأيتام، لم يرُد محتاجًا جاء يومًا يطرق بابه، كل ذلك دون أن يعرف أو يشعر به أحد، كانت علاقته مع الخير متجذرة في نفسه وروحه. وأروي هنا هذه القصة اليوم بعد رحيله. في أبريل 2001، تعرض ابني "محمد" لحادث سيارة مؤلم... كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية عشرة ليلاً عندما أُبلغتُ بالحادث. توجهتُ إلى مستشفى حمد، اجتمع حوله العديد من أصدقائه، كانت إصابته بليغة وحالته حرجة، كان موقفًا صعبًا أن ترى ابنك في مثل تلك الحالة، إلا أن الرضا بقدر الله والتوكل عليه كان البلسم الوحيد في ذلك الموقف. كنت أراقب حالته مع فريق الأطباء الذين أكدوا لي بأن الأمر بيد الاستشاري الجرّاح ؛ ليقرر إن كان علاجه ممكنًا هنا في قطر أو يتحتم سفره إلى الخارج. صباح اليوم التالي أبلغني الدكتور الماهر "محمد الخيارين": أنه بالإمكان إجراء العملية في مستشفى حمد، وهم فقط بحاجة إلى موافقتي. وفي تلك اللحظة اتصل بي "خليفة السويدي"، لا أدري كيف وصله الخبر، وطلب مني أن أنقل ابني إلى ألمانيا للعلاج وعرض أن يتحمل كامل نفقات الرحلة والعلاج، المهم سلامته. دقائق واتصل بي الرجل الشهم الآخر الوجيه "علي بن سلطان العلي" يطلب مني السفر به إلى الخارج وعلى نفقته الخاصة أيضا. شكرت لهما جميعًا مشاعرهما النبيلة تلك، توكلت على الله وقمت بتوقيع الورقة التي طلبها الدكتور "الخيارين"، ودخل "محمد" غرفة العمليات، وخرج منها، بفضل الله، سالمًا معافى. بعد الشفاء كان لابد أن آخذ بيد "محمد" ليشكر من يستحق الشكر، بعد الله، على مبادرتهم الإنسانية، فهذا ديدن رجال قطر وتلك مواقفهم الكريمة. إن التاريخ والمواقف الإنسانية لهذا البلد وحكامه وشيوخه ورجاله مشهود لهم على مر الأيام، ولو كان لي من المساحة لسطرت من تلك المواقف الكثير، ما سمعتُ منها وما أكثرها، وما عشتُه وشاهدتُه بنفسي. وإنه لمن المؤسف أن يمر في حياتنا رجال وتمر أمامنا مواقف لا نستذكرها إلا عندما يرحل أصحابها، أمّا وهم على قيد الحياة وبين ظهرانينا؛ فإننا نخجل من الحديث عنها خشية سوء الظن. عندما أودّع أخي العزيز "خليفة بن خالد السويدي" فإنني أودّع رجلاً غرس في حياتي وفي نفسي ذكريات يصعُب عليَّ نسيانُها. رحم الله أبا خالد، ورحم أموات المسلمين جميعا، وأسأل الله أن يجمعنا بهم في الدار الآخرة في جنات النعيم.
5943
| 30 يونيو 2019
لم يخطر ببالى وأنا أطلُّ من نافذة "الطائرة الأميرية" وهى تشق طريقها عبر السُحب فوق نيويورك وأشاهد برجى التجارة العالمية، أنّ هذه النظرة ستكون الأخيرة لى لناطحتَى السحاب هاتين، كان ذلك فى نهاية يوليو عام 2001م، كنا فى رحلة من نيويورك الى هافانا فى كوبا، ورغم أن الممرالجوى بين المدينتين مغلق، الا أنه سُمح لطائرة سمو الأمير باستخدامه "استثنائيا". لم نمكث فى هافانا سوى ليلتين، كان اللقاء مع الرئيس الكوبى فيدل كاسترو ممتعا، وكان لافتا فيه قدرتُه على الحديث ومواصلة الحديث دون كلل أو ملل(قد أعود يوما لنقف معا على هذه الشخصية التاريخية وأروى بعضا من فلسفته ورؤيته للحياة). من هافانا انطلقنا بصحبة سموه — رعاه الله — الى كاراكاس عاصمة فنزويلا، وما أدراك ما كاراكاس، انها بلاد السحر الجديدة، بلاد "كارلوس الثعلب" الذى دوّخ العالم وهزّ أركان دول واحتجز وزراء واتخذهم رهينة، كارلوس الذى طاردته أجهزة استخبارات الدنيا منذ السبعينيات ولم يتمكنوا من العثور عليه الا فى عام 1994م وأين؟ فى الخرطوم!. كاراكاس هذه المرة ليست تلك المدينة البرجوازية، بل هى مدينة الثورة والثوار، فقد تسلم زمامَ السلطة فيها رئيس جديد يحمل، كما يقول، هموم الفقراء والمساكين، ويريد أن يعود بالثروة التى تتمتع بها بلاده من حضن الأثرياء الى منازل الفقراء، يريد لهذه الثروة أن تتوزع بالعدل على الشعب، الرجل القائد الجديد يريد أن يقضى على الفقر وأن ينتصر للفقراء. وما أن دخلت الطائرة الأميرية الأجواء الفنزويلية حتى رافقتها طائرات عسكرية من سلاح الجو الفنزويلي، ورأى قائدها الجديد فى "حمد بن خليفة" نموذجا صادقا لما يجب أن تكون عليه العلاقات التاريخية بين العرب واللاتينيين، فأراد أن يحتفل بضيفه بطريقته الخاصة، وان لم يكن ذلك شيئا جديدا أو غريبا بل هو أمرٌ معمول به فى عدد من دول العالم. حطت الطائرة الأميرية فى مطار كاراكاس، كان كل شيء معدّا جيدا، والاجراءات البروتوكولية التى تُتخذ عادة عند زيارات الملوك والأمراء ورؤساء الدول، متخَذة. ولكن المفاجأة التى لم نكن نتوقعها هى أنه ما ان فُتح باب الطائرة الا ووجدنا الرئيس شافيز يدخل علينا الطائرة ليعانق سمو الأمير عند الباب، فى خرق غير تقليدى لكل قواعد البروتوكول، متخطيا رئيس المراسم الذى يقوم عادة بهذه المهمة فى الدول المضيفة، ولكن الرجل أراد أن يحتفل بصديقه على طريقته الخاصة (سُئل يوما فى أحد حواراته مع محطة الـ CNN الأمريكية عن علاقاته مع قادة العالم فقال ان الشيخ حمد بن خليفة أمير قطر هو صديقى العزيز). ومن سُلم الطائرة الى أرض المطار حيث كان الوزراء والمسؤولون الفنزويليون والسفراء العرب فى مقدمة مستقبلى الضيف العربي، ومن هناك انتقلنا الى مقر الاقامة، وطوال الطريق، من المطار الى المدينة، لم أرَ أى مؤشرات تدعو الى الاقتناع بأن هذه الدولة تملك ثروات طبيعية ضخمة تؤهلها لأن تكون واحدة من أغنى دول العالم. ومن الفندق، بعد الاستراحة، الى جلسة المباحثات الرسمية، التى تم فيها التطرق الى كل شيء، وأكثر ما لفت انتباهى خلالها حماس "شافيز" للدفاع عن القضايا العربية، وتلك اللغة الثورية التى كان يتحدث بها، وسعيه وتأكيده على حق الشعوب فى الاستفادة من ثروات بلدانها. بعد المباحثات أتيح لى أن أستمع الى حديث جانبى بين الزعيمين، قال شافيز: يا سمو الأمير، ان هؤلاء الفقراء الذين يعيشون فى تلك البيوت المتهالكة، هم فنزويليون، وسنعرف كيف نتدبر أمرهم، فالحكومة ستعمل على بناء مساكن لهم واعادة تسكينهم، سنعيد ترتيب أمورهم فهم يستحقون الكثير. كان منظر هؤلاء الفقراء والبيوت التى يسكنونها تدعو بالفعل الى الاستغراب، فكيف لبلد غنى تجاوز انتاج البترول فيه أكثر من مليونَى برميل يوميا أن يكون على هذه الحالة؟! ولكن هذه اللغة الثورية التى تتحدث دائما عن توزيع الثروة، والعدالة الاجتماعية، وحق الشعوب فى الانتفاع من خيرات بلادها، لا تُترجَم فى الغالب على أرض الواقع، فلماذا مثلا فى دول تملك ثروات أكبر من دول الخليج كليبيا والعراق أوغيرها، تبددت ثرواتها أو سُخرت لنزوات شخصية، دون أن يُرى أثرها على شعوبها، فنحن فقط نسمع ويسمع الملايين بأن هذه الدول أعضاء فى منظمة الدول المصدِّرة للنفط، وأنها تملك انتاجا نفطيا ضخما واحتياطات هائلة، أما التنمية والازدهار والرفاهية فمجرد شعارات لدغدغة المشاعر دون أن يكون لها حضور فى أرض الواقع. صيف عام 2002م، كنا فى الدوحة، وكان سموه يتجول داخل المدينة بسيارته كعادته لسنوات، عندما رنّ هاتفه فاذا بها مكالمة من وراء البحار، كانت المتحدثة ابنته الشيخة المياسة تهاتفه من أمريكا حيث كانت تدرُس، لتسأله عن الأخبار الواردة من كاراكاس من أن انقلابا قد حدث هناك ضد الرئيس شافيز وأن الانقلاب على وشك النجاح، بل قد نجح بالفعل، وتسأله عن مصير صديقه شافيز؟ كان سموه مهتما بمعرفة مصير صديقه، وقرر، كما سمعته وهو يتحدث مع الشيخة المياسة، استقبالَه فى الدوحة وتوفير اقامة مريحة له ولأسرته ان رغب فى ذلك، ولم تمضِ أكثر من ثمانى وأربعين ساعة الا وكانت الأخبار تتوالى عن سيطرة شافيز على الأوضاع فى بلاده، وأنه استعاد الأمور ودحر الانقلاب. لم ينس الرجل، للأمانة، موقف صديقه، فأراد أن يهاتفه ليُطَمْئنَه على الأوضاع فى بلاده، ولم تتم هذه المكالمة الا ونحن فى الطائرة فى طريقنا من الدوحة الى باريس، اذ ورد الى سموه رغبةُ الرئيس شافيز فى الحديث معه، وتمت المكالمة فى الطائرة، كان صوت شافيز عاليا، كما كانت معنوياته عالية، وضحكاته تخترق الهاتف وهو يصف انتصاره وانتصار ثورته على "الرجعيين والامبرياليين والخونة". مرت سنوات، زار خلالها شافيز الدوحة فى طريقه الى ايران، كما التقى الزعيمان فى نيويورك على هامش الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وفى نيويورك تحدثت وسائل الاعلام عن صولات شافيز وجولاته فى المدينة، حتى انه كان فى بعض الأحيان يرفض أن يستقل السيارة المصفحة ويصر على المشى على رجليه فى شوارع نيويورك غير مبال بتحذيرات الأمن ومفتخرا بشجاعته وجسارته. كذلك التقى سموه الرئيس شافيز فى برازيليا فى مايو 2005م على هامش مؤتمر القمة العربية — اللاتينية، ولأول مرة أراه محتدا وغاضبا حيث قال: "لماذا يا سمو الأمير يغيب اخوانك الزعماء العرب عن هذه اللقاءات؟! لماذا لا يتواجد العرب على مستوى القادة مع اخوانهم قادة دول أمريكا اللاتينية لدعم وتعميق العلاقات بيننا؟! اننا فى أمريكا اللاتينية نتطلع الى ذلك، نحن مثلكم عانينا من الاستعمار وندرك مقدار استغلاله لخيرات دولنا، وأنتم تعرفون كيف ناضلنا كى نتحرر، لذلك نحن نقف مع الحقوق العربية، ولكن لا يبدو أن العرب مهتمون بذلك!" مرت السنون سريعة، وفى عام 2010م زار سمو الأمير الأرجنتين والبرازيل وفنزويلا وكوستاريكا.كانت الزيارات ناجحة، لاسيما لجمهورية كوستاريكا الرائعة ورئيسها الفيلسوف "أوسكار أرياس سانشيز" الذى ترك فيما بعد فى نفسى أثرا عميقا لرجل آثر مصلحة بلاده على مصلحته الشخصية، بل هو نموذج للقائد الزاهد الفذ ولا يعادله فى ذلك الا عملاق آخر هو (لولا داسيلفا) رئيس البرازيل السابق، وقد يكون من باب الصدفة أن الزعيمين الكبيرين خلفَتهما سيدتان فى حكم بلديهما. وانتقلنا بصحبة سموه لزيارة فنزويلا، كان ذلك فى يناير 2010م. وبين كاراكاس 2001م وكاراكاس 2010م فارق زمنى يقارب العشر سنوات، أحداثٌ كثيرة مرت على العالم خلال هذا العقد من الزمان، تغيرت أشياء كثيرة، وتبدلت ملامح مدن ودول، وتجلت عبقرية الانسان فى التطور التكنولوجى الرهيب، وفى مختلف القطاعات، ولكن كاراكاس التى زرتها فى 2001م لم تتغير كثيرا عن تلك التى زرتها فى 2010م، ما زالت ملامح الفقر منتشرة، وما زالت بيوت الفقراء، التى وعد شافيز بالقضاء عليها، ماثلة، وما زالت العشوائيات قائمة، وأسِفتُ لسماعى عن أخبار انتشار السرقة فى كاراكاس والتى قد تتطور الى الجريمة، حيث أصبح الخوف من الاعتداء أمرا مألوفا لدى العديد من سكانها. شيء آخر لمسته، شافيز الذى أشاهده أمامى عام 2010م ليس شافيز الذى عرفته، فقد اختفت ضحكاته القوية وعنفوان قوته، وكان أمامى رجلٌ أنهكته "الظروف" قبل "السنين" وهدّت من حماسه. وقد أبدى لى لاحقا أحد الاخوة الذين شاركوا فى الاجتماعات مع الوفد الفنزويلي، بأن الاستثمار فى فنزويلا رغم أهميته الا أنه لا يدخل ضمن الأولويات عند قيادتها، فأدركت بأن العديد من المشاريع التى يمكن أن تعود بالنفع على بلادهم قد لاترى النور بسبب الفكر الاشتراكى الذى قد ينظر الى أى استثمار أجنبى على أنه استغلال لخيرات البلد وثرواته. مرت الأيام وتوالت الأحداث، وفى ديسمبر 2010م انطلقت شرارة الربيع العربى من تونس، وسريعة انتقلت هذه الشرارة الى مصر فليبيا فاليمن فسورية، كانت الأحداث تشير الى أن زمن الظلم والقهر والكبت قد انتهى، وأن فجر الحرية قد أشرق، وأنه قد آن لهذه الأمة أن تنهض، وأن الكذب على الشعوب لم يعد يجدي، وأن الأمانة والصدق هما أقدس ما يملكه الانسان، فبهما يصنع المرء حريته وبضديهما يبيع الانسان كرامته. وكان على شافيز، وهو الذى يدّعى السير على خطى "سيمون بوليفار"، أن يُدرك بأن الوقوف أمام ارادة الشعوب أمرٌ مستحيل، ولكن التجربة لم تعلِّمه بل آثر صداقته على مصالح أمته، فكان موقفه المعروف حيال هذه الثورات، مع الطغاة ضد الشعوب، وقد أفقده ذلك الكثير من التعاطف الشعبى العربي، بل انه، ومع الأسف، نسى حتى أصدقاءَه الأوفياء، وان كان يتواصل معهم على استحياء. فى الشهر الماضي، كنت ضمن الوفد الرسمى القطرى فى جولته بأمريكا اللاتينية، وهناك جاءت الأخبار بأن الأطباء فى كوبا، حيث يعالج شافيز، سمحوا له بأن يغادر هافانا الى بلاده "بعد أن تحسنت حالته الصحية"، الخبر كما يُعرف فى لغة الصحافة كان "ملغوما"، فقد كان مؤشرا على أن الطب قد وقف عاجزا أمام قضاء الله، وأن الرجل يَعُد أيامه الأخيرة فى الدنيا، فكان قرار الأطباء بأن يعود الى بلاده ليموت فى أحضان شعبه وفوق ثرى وطنه، وهذا ما حدث فجر السادس من مارس 2013م بتوقيت الدوحة، حيث أغمض شافيز عينيه للمرة الأخيرة، ليرحل عن هذه الدنيا ولم يحقق بعدُ كل ما كان يتمناه. فقد سعى قبل أربعة أعوام لأن يجرى تعديلا فى دستور بلاده يجعل مدة الرئاسة مفتوحة وعدم تقييدها بفترتين كما ينص الدستور، وخسر الاستفتاء على ذلك، حيث صوت 51 % من الشعب الفنزويلى ضد رغبته، فنصحه مستشاروه، وما أكثر مستشارى السوء فى الحياة، بأن يعمد الى البرلمان لانتزاع هذا القرار وهذا ما تم، فخالف مبدأ دستوريا كان يُفترض أن يكون أول المدافعين عنه، ويا ليته تعلم من صديقه البرازيلى (سيلفا) أو جاره الكوستاريكى (شانسيز)، ولكنه أطلق تصريحه المشهور الذى قال فيه ان لديه الكثير من الأفكار التى لم تُنفَّذ بعد، وهو يحتاج الى وقت لتنفيذها. يبدو أن شافيز لم يكن استثناء عن المقولة السائدة بأن القوى المعارِضة تؤمن بالديمقراطية وهى فى الصفوف الخلفية، وتكفر بها ساعة تقلدها موقع القرار. مضى الوقت سريعا على شافيز، دون أن يتمكن من تحقيق تطلعاته الثورية الكثيرة، وقد شغلته خصوماته ومعاركه مع أعدائه عن تنفيذ ما كان يسعى اليه، وهذا قدَرُ الثوار دائما، تكون أحلامهم كبيرة قبل الثورة، ثم يصطدمون بالواقع المر بعد نجاح الثورة. سيظل شافيز صديقا وفيا للعرب، وسيذكر التاريخ مواقف هذا القائد ودفاعه عن قضايا العرب وكأنه واحدٌ منهم، وسيظل فى ذاكرتنا دائما محبا ومؤمنا بمبادئ يرى فيها خلاص العالم من الاستبداد والظلم. نعم، كان شافيز نصيرا لقضايا المستضعَفين فى العالم، وقف مع الفقراء ودافع عنهم، وناصَر المظلوم على الظالم، طرد السفير الاسرائيلى من فنزويلا بعد حرب تموز يوليو 2006م، زار العراق خلال الحصار المفروض عليه، وزار ليبيا يوم تردد الكثيرون فى الاقدام على مثل تلك الخطوات، انتهج سياسة جديدة تمثلت فى الوقوف فى وجه أمريكا والغرب و"الاستعمار" وقد أدرك أن ذلك سيكلفه الكثير والكثير. عندما اكتشَف مرضَه، رفض أن يستسلم، وأصرّ على أنه عائد، وقال: "سأعود على حال أفضل مما تروننى عليه اليوم، لديّ رغبة كبيرة فى الحياة، لن أقول وداعا، ولم تدُق بعدُ ساعةُ الموت، بل الحياة". ولكنه نسى أن لكل شيء فى الحياة علاجا ودواء، الا الحب والموت، فلا علاج ولا دواء لهما. وداعا فخامة الرئيس. وداعا هوجو شافيز.
1854
| 19 مارس 2013
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين...
4776
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل...
3360
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء....
2865
| 16 أكتوبر 2025
في ليلةٍ انحنت فيها الأضواء احترامًا لعزيمة الرجال،...
2670
| 16 أكتوبر 2025
يمثل صدور القانون رقم (24) لسنة 2025 في...
2592
| 21 أكتوبر 2025
في زحمة الحياة وتضخم الأسعار وضيق الموارد، تبقى...
1407
| 16 أكتوبر 2025
واكبت التعديلات على مجموعة من أحكام قانون الموارد...
1299
| 21 أكتوبر 2025
لم تعد مراكز الحمية، أو ما يعرف بالـ«دايت...
1011
| 20 أكتوبر 2025
1. الوجه الإيجابي • يعكس النضج وعمق التفكير...
948
| 21 أكتوبر 2025
القيمة المضافة المحلية (ICV) أداة إستراتيجية لتطوير وتمكين...
822
| 20 أكتوبر 2025
في قلب كل معلم مبدع، شعلة لا تهدأ،...
801
| 17 أكتوبر 2025
في ليلة كروية خالدة، صنع المنتخب القطري "العنابي"...
765
| 17 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية