رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ما بين معارك الجيش السوداني على الأرض لتخليص البلاد من جرائم مليشيا الدعم السريع، ومعارك الدولة على الصعيد الدبلوماسي وأروقة الأمم المتحدة تزامن، وتشابه كأنما هو عزف من نوتة موسيقية تنبئنا بنوع النغمة وزمنها؛ فبعد استيعاب الصدمة في بداية الانقلاب المباغت في أبريل 2023 الذي تورطت فيه المليشيا امتلك الجيش السوداني بعد فترة زمام المبادرة مستخدماً خططاً احترافية ذات نفس طويل جعلت المليشيا تتراجع بشكل مستمر رغم الدعم الخارجي بشرياً، وعسكرياً، ولوجستياً، فتحولت لعصابات تائهة لا تجيد سوى النهب، والسرقة، والاغتصاب، وترويع المواطنين، وفي أحسن الأحوال التدوين العشوائي الجبان نحو المدن، أما مواجهة الجيش وجها لوجه فهي لا تستطيع فعل ذلك، وقد غدا حال قادتها في الصفوف الأولى، والثانية، والثالثة ما بين قتيل، وهارب خائف يترقب، ويطلبون من داعميهم الخارجيين تنجيتهم من بطش الجيش السوداني.
هذا التقدم على الصعيد العملياتي العسكري فضلاً عن السند الجماهيري، والمقاومة الشعبية، وتحالف حركات دارفور المسلحة كل ذلك كان زاداً، ووقوداً لتحركات دبلوماسية شكلت مواقف قوية ممانعة لتقديم أي تنازلات سياسية تفسح المجال لعودة ما للمليشيا، أو منحها مشروعية سياسية فقدتها حتما قبل ذلك بسبب فقدانها المشروعية الأخلاقية من خلال جرائمها ضد الإنسانية التي سارت بها الرياح وعلمها القاصي، والداني، وعجزت عن مداراتها القوى الإقليمية، والدولية الداعمة لها. لقد كان موقف الحكومة السودانية الممانع لمفاوضات جنيف التي دعت لها واشنطن في 14 أغسطس الماضي قوياً تجسدت فيه الإرادة السياسية القوية المدعومة بسند شعبي قوي، وموقف عملياتي عسكري متقدم. إن الاستجابة لمفاوضات جنيف كانت ستكون خصماً على تماسك الجبهة الداخلية، والانتصارات العسكرية للجيش التي تتحقق بوتيرة متزايدة، ولعل هذا هو الهدف من توريط البلاد في تلك المفاوضات تحت شعارات رنانة بوقف الحرب، وإرساء السلام، وتوصيل المساعدات الإنسانية التي لم تصل للمستحقين في معسكرات تشاد، وأفريقيا الوسطى إن كانت هناك جدية من المجتمع الدولي، أو من يتحدث باسم هذا المجتمع المثالي الذي لم يعد إلا كطائر العنقاء الخرافي.
في أروقة الأمم المتحدة، ومنظماتها، ومجلس الأمن دارت معارك دبلوماسية خرج منها السودان منتصراً، وبأقل الخسائر؛ فرغم ثبات جرائم مليشيا الدعم السريع إلا أن بعض التقارير تقحم الجيش السوداني إقحاماً، لتخفيف الضغط على المليشيا، وإرضاء داعميها الدوليين عبر الحديث عما يصفونه بأطراف النزاع، والإيحاء بأن الجيش طرف مقابل لمليشيا متمردة مجرمة. فكيف لجيش يقوم بواجبه الدستوري في حماية البلاد، ومواطنيها يعتبر طرفا مع مليشيا أكثر من نحو 80 % من عناصرها مرتزقة أجانب من خارج الحدود بل كيف لجيش عمره أكثر من مائة عام خاض حروباً عديدة، وشارك في استتباب الأمن في العراق، والكويت ولبنان، ومصر، والعديد من الدول الأفريقية أن يكون شريكاً في الجرائم التي ترتكبها المليشيا؟
بيد أن تقارير الأمم المتحدة نفسها تكشف زيف مزاعمها ضد الجيش من خلال حديث معمم يشمله، لكن هذه التقارير لا تملك إلا الحديث بشكل واضح، ومحدد عن جرائم مليشيا الدعم السريع؛ فبحسب تقرير بعثة الأمم المتحدة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق بشأن السودان، فقد أشار تقريرها إلى أن المليشيا ارتكبت اعتداءات مُرعبة ضد مجتمع المساليت في مدينة الجنينة وحولها بغرب دارفور تضمّنت القتل، والتعذيب، والاغتصاب وغيرها من أشكال العنف الجنسي، وتدمير الممتلكات والنهب. كما ذكر التقرير أنه وجد أن هناك «أسبابا معقولة للاعتقاد» بأن المليشيا ارتكبت جرائم حرب أخرى من بينها الاستعباد الجنسي وتجنيد الأطفال دون سن 15 عاما، وقامت بأفعال أخرى قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية بما في ذلك الاسترقاق، والاضطهاد على أسس عرقية، والتهجير القسري للسكان.
وعلى ضوء ذلك تم تمديد فني، وروتيني لحظر دخول الأسلحة إلى دارفور. وهو قرار يحمل الرقم 1591 كان قد فرض قبل عشرين عاما في 2004، وطالب السودان بإلغائه لأنه يحد من قدرة الجيش على بسط الأمن، وتأمين عودة المواطنين ودحر المليشيا المجرمة، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إليهم. ويغض طائر العنقاء الطرف عن أن حماية المدنيين تتطلب تحركًا وإمدادات للقوات النظامية، وهو غير مهتم بأن عدم إعادة توازن القوى في دارفور لصالح الجيش، والقوات النظامية سيؤثر سلبًا على جهود الدولة السودانية في حماية المدنيين.
وفيما تراوح جهود من سمته الولايات المتحدة الأمريكية مبعوثاً خاصا لها إلى السودان مكانها، يبقى يحوم حول الحمى، ولا يقربه؛ فالرجل يقوم بجولات مكوكية في جوار السودان وما أبعد، مثل أثيوبيا، والسعودية، ومصر، وكينيا زاعماً بحثه عن حل للأزمة السودانية لكنه لا يصل مدينة بورتسودان المقر الحالي للحكومة السودانية. وطالب مرة في محاولة لذر الرماد على العيون بزيارة بورتسودان مشترطاً أن يبقى في المطار برفقة قوة حماية أمريكية على أن يحجّ إليه المسؤولون وبينهم دستوريون في المطار، والرجل الذي ربما هو أقل من مستوى مدير إدارة بالخارجية الأمريكية لم يكن يريد زيارة السودان، ولذلك وضع تلك الشروط التعجيزية التي كشفت نواياه الحقيقية. وتحدث يوماً في العاصمة الكينية نيروبي باسم السودانيين، زاعما بأن وجود ما أسماهم بالإسلاميين، في المشهد الحالي، «يمثل مشكلة كبيرة لنا وللسودانيين»، مضيفاً بدون إثبات: «نعلم أن هناك مقاتلين منهم داخل الجيش، وهناك من جاءوا من خارج البلاد وانضموا للحرب». ولم يتحدث يوماً عن الأجانب الذين استجلبتهم المليشيا من نحو 17 دولة ليقاتلوا معها!. فالرجل جعل من نفسه طرفاً في التفاعلات السودانية الداخلية فكيف يكون نزيهاً، ويقدم حلولاً نزيهة للأزمة في البلاد؟!.
لم يعد مشهد الاحتجاجات والحراك الشبابي مفاجئًا لنا وللمراقبين في عالمٍ يتغير بسرعة مذهلة، وحيث تتقاطع الأزمات الاقتصادية... اقرأ المزيد
264
| 22 أكتوبر 2025
جاء خطاب حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، في افتتاح دور الانعقاد... اقرأ المزيد
114
| 22 أكتوبر 2025
في آخر مشاهد حياته، ظهر صحفي الجزيرة صالح الجعفراوي في مقطع مصور تداولته وسائل التواصل الاجتماعي، ممددا على... اقرأ المزيد
177
| 22 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4803
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3519
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2871
| 16 أكتوبر 2025