رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سعدية مفرح

كاتبة كويتية

مساحة إعلانية

مقالات

318

سعدية مفرح

في زحمة الصحراء!

15 ديسمبر 2025 , 05:00ص

يُخطئ كثيرون في الظنّ بأن الصحراء مجرد رمال وحصى وحرارة تُنهك الجلد وتخدع الروح، كأنها مكان مُفرغ من المعنى، أو مسرح بلا ممثلين. فالصحراء، لمن يقترب منها بحدس سليم، تُفاجئه بأنها ليست ما تبدو عليه، بل ما تستره، وتظلّ صامتة حتى تتأكد أن الناظر لا يحمل حكمًا جاهزًا، وأنه مستعدّ لأن يسمع قبل أن يرى، ويشعر قبل أن يحكم.

من يقف على عتبة الصحراء، كما يقف الزائر على باب شيخ حكيم، يعرف أن الصمت ليس دائمًا علامة فراغ، بل قد يكون طريقة للامتحان. الصحراء لا تفتح صدرها لمن يمرّ بها مروراً سريعاً، ولا تمنح أسرارها لعينٍ تكتفي بمشهد السطح. إنها تطلب من الداخل إليها أن يتخفّف من ضجيجه، وأن يُصغي لما يتوارى خلف هدوئها. ولعل أول ما يتبدّى للمرء عند هذا الإصغاء أنّ الصحراء، على عكس الصورة الشائعة، مكتظة بالحياة، لا تهدأ لحظة. يكفي أن يترك المرء نفسه للحظة واحدة في هدأة فجرها ليكتشف حركة صغيرة تخرج من بين حبات الرمل، زاحفة أو طائرة أو متربصة، كأنها تُعيد بناء العالم كل يوم من جديد.

الصحراء إذن ليست فراغاً، بل فضاء يختبر طبيعة العلاقة بين الأشياء حين تُنزع عنها الزخارف. هنا، في هذه الأرض التي تبدو قاسية للوهلة الأولى، تتسع المساحة للسؤال الصافي، وتنكشف طبائع البشر كما تنكشف طبائع الكائنات. حتى الريح، تلك التي يظنّها البعض مجرد دفقة عشوائية، تتصرف في الصحراء بطريقة لا تخلو من قصد خفي، فهي لا تهبّ إلا حين تحتاج الحكاية إلى حركة، ولا تسكن إلا حين تريد للرؤية أن تستقر. ولطالما تعلّم أبناء البادية أن يتابعوا حركات الرياح كما يتابع المرء رسائل صديق قديم يعرف كيف يقول الكثير من دون أن يكتب الكثير.

ولعل أعمق ما في الصحراء أنها تُعيد ترتيب الزمن. في المدن، تكاد الساعة تمشي فوق صدور الناس. في الصحراء، يمشي المرء معها كتوأم رشيق، لا سابق ولا لاحق. يومها طويل بما يكفي ليشغل الخيال بما يريد، وقصير بما يكفي ليذكّر المسافر بأن الضوء لا ينتظر من يتباطأ. الليل فيها ليس امتداداً للضوء، بل عالم آخر له لغته الخاصة، إذ تتكثف فيه الأصوات، وتزداد ظلال النجوم عمقاً حتى يشعر المرء أنّ السماء أقرب من أي وقت، وأنه قادر، لو أراد، أن يمدّ يده ويلمس حواف الأبراج البعيدة.

ثمّة شيء ما في الصحراء يُنضج الروح كما لو كانت جمرة في حضن الرماد. تكاد تشعر أنّ المرء، حين يطيل المكوث، يتخلّص تدريجياً من طبقات ليست له، طبقات اكتسبها بالعادة أو الخوف أو التجربة، حتى يعود أقرب إلى صورته الأولى. وإن كان ثمة درس تمنحه الصحراء لكل من يقف في حضرتها، فهو أن الحياة لا تُقاس بما يُرى فقط، بل بما يُختبر في الأعماق، وأن القسوة الظاهرة ليست دائماً علامة على غياب الرحمة، بل قد تكون طريقتها في حماية ما هو هشّ فيها.

إنها تتيح للخيال أن يركض بحرية، وتسمح للذاكرة بأن تستعيد ما نُسي في زحمة الأيام.

وحين يتأمل المرء تضاريس الصحراء بعمق، يدرك أن جمالها لا يكمن في شكلها، بل في قدرتها على إعادة صياغة نظرة المرء إلى العالم. من يظنّها أرضاً خالية لا يعرف أن التنوّع فيها يبدأ من أبسط عناصرها: من طريقة تشكّل الكثبان، ومن وداعة الشجيرات التي تنبت خلاف المتوقع، ومن حفيف جناح طائر صغير لا يحتاج إلى غابة كي يعلن وجوده. تلك التفاصيل التي قد تبدو عابرة تُصبح في الصحراء جوهرية، لأنها تكشف معادلة الحياة حين تتخفف من زوائد الحضارة وتترك المرء أمام جوهره الوحيد: القدرة على البقاء، والرغبة في الفهم، والإيمان بأن المعنى لا يحتاج إلى مبانٍ كي يستقرّ.

الصحراء، بهذا المعنى، ليست مكاناً يختبر قسوة الطبيعة فقط، بل مختبر تكشف فيه النفس عن أشدّ أشكال هشاشتها وأقوى لحظات صلابتها. المرء فيها يسمع نفسه لأول مرة بلا ضوضاء، ويرى مساحة لا تفرض عليه مساراً محدداً، فيمشي كما لو أنه يخترع طريقه في كل خطوة. وربما لهذا السبب ظلّت الصحراء موطناً أثيراً للشعراء والمتصوفة والرحالة وكل من يبحثون عن لغة لا تنكسر أمام الأحداث، ولإحساس يحفظ للمرء كرامته أمام صمت الوجود.

من يعرف الصحراء حقاً يعرف أنها ليست مكاناً للموت، بل فضاء يُذكّر بالحياة، وأنها ليست خالية كما يتوهم البعض، بل ممتلئة بما يجعل القلب يلين والعقل يصحو. وحده من يقترب منها بقلب لا يحمل فكرة مسبقة يكتشف أنها تملك روحاً حية، وأن هدوءها ليس إلا طريقة خاصة في الكلام، وأن كل ما فيها، من أفقها حتى ظلّ شجيرة منفردة، يشير إلى أن الحياة لا تحتاج إلى ازدحام كي تتجلّى، بل إلى عين تعرف كيف ترى، وقلب يعرف كيف يصبر حتى ينكشف السرّ!

مساحة إعلانية