رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تشكل دبلوماسية الوساطة ضمن مفاهيم وممارسة الدبلوماسية آلية مهمة لتقريب وجهات النظر وحل النزاعات بين قوى متصارعة وذلك للمساهمة بخفض التصعيد وإحلال السلام والأمن وفي أضعف حالاته خفض التصعيد ومنع تفاقم الصراع أو الحرب، حتى إن الاستراتيجي الغربي الشهير كلازوتز وصف الحرب بأنها دبلوماسية بطرق أخرى. ولا تتمتع أي دولة أو طرف بقدرات لأن يكون وسيطا نزيها ومقبولا، ويُنظر إلى الوسيط من أطراف الصراع بأنه محايد ويقف على مسافة واحدة من الأطراف المشتبكة ويملك قدرة مميزة وسجلا حافلا بحل النزاعات.
وقد برزت الكويت وسيطا ناجحا ومميزا في حل الخلافات الخليجية-الخليجية-والعربية وحتى على المستوى الدولي. وتبرز منذ العقدين السابقين كل من قطر والسعودية والإمارات كلاعبين مؤثرين وتسعى وتطلب الدول المتصارعة وساطتهم وتدخلهم لحل النزاعات كما نشهد في أكثر من ملف وعلى أكثر من صعيد.
* اكتسبت دول مجلس التعاون تميزا وقدرات غير مسبوقة في النظام العربي. أؤكد في كتابتي ومحاضرتي أننا في حقبة صعود وقيادة دول مجلس التعاون للنظام العربي، في مجالات الأمن الناعم والقدرات المالية والاستثمارات، واستضافة القمم والمؤتمرات العربية والدولية، وقادة الدول الفاعلة: أوباما وترامب وبايدن وقريبا ترامب ثانية، والرئيسان الروسي والصيني والأسبوع الماضي الرئيس الأوكراني وغيرهم من قادة الدول من الشرق والغرب.
وتقود دول مجلس التعاون النظام العربي منذ ثورات الربيع العربي وانكفاء الجمهوريات العربية المركزية التقليدية- بعد قيادتها النظام العربي منذ خمسينيات القرن الماضي. ونشهد تصاعد نفوذ دول المجلس خليجيا وإقليميا ودوليا في نظام عالمي وإقليمي يتجه للتعددية القطبية.
* تتميز دول مجلس التعاون بإنجازات كبيرة في مجالات التنمية والتطوير ومراكز الدراسات والأبحاث وأفرع الجامعات الرئيسية والمستشفيات العالمية، والبطولات الرياضية وعلى رأسها تميز استضافة دولة قطر أول دولة خليجية وعربية وإسلامية كأس العالم لكرة القدم 2022 ودبي أكسبو 2022-وتتحضر السعودية لاستضافة كأس العالم لكرة القدم 2034 وأكسبو 2030-وستستضيف للمرة الأولى دورة الألعاب الآسيوية الشتوية 2029 في نيوم، ودورة الألعاب الآسيوية 2034.
* ونجحت الوساطة القطرية في تحقيق اختراق غير مسبوق بين الولايات المتحدة وحركة حماس باجتماع قياديين من حماس ومبعوث الرئيس ترامب لشؤون الأسرى أدم بوهلر في الدوحة. أغضب ذلك التواصل المباشر إسرائيل وخاصة اليمين المتطرف، دون علم إسرائيل، وكسر محرمات ونسف سردية إسرائيل التي نجحت بشيطنة حماس المصنفة إرهابية أمريكيا وإسرائيليا منذ عام 1997.!! ونجحت إسرائيل بإقصاء بوهلر بدفعه للتنحي بعد شن حملة انتقادات منسقة وخاصة بعد تصريحه: "أتفهم غضب الإسرائيليين، ولكن نحن الولايات المتحدة لسنا عملاء لإسرائيل، ولدينا مصالحنا الخاصة"...وسألتقي (بالإسرائيليين) وسأقول لهم: ليس لدى (حماس) قرون تنمو على رؤوسهم، في الواقع إنهم رجال مثلنا، ولطيفون". ما ينسف سردية إسرائيل التي تشيطن حماس.
* وسجلت وساطات دول مجلس التعاون إنجازات مميزة، بنجاحها في امتهان دبلوماسية الوساطة وحل النزاعات. بدءاً بوساطة الكويت في حقبة السبعينيات والثمانينيات-وآخرها بحل الأزمة الخليجية (2017-2021). وتسجيل دبلوماسية الوساطة القطرية بجمعها الأضداد تحت سقف واحد-وبطلب من الدول المعنية وخاصة الولايات المتحدة بين واشنطن وإيران وبين واشنطن وطالبان-وبين حماس وإسرائيل.
* ونجحت دولة قطر في لم شمل دفعات من الأطفال في أوكرانيا وروسيا مع عائلاتهم، في إطار جهودها المستمرة بغرض لم شمل الأسر المشتتة بسبب النزاع بين روسيا وأوكرانيا.
ووساطة السعودية بين روسيا وأوكرانيا وللمرة الأولى استضافة وزيري الخارجية الأمريكي الجديد روبيو ووزير الخارجية الروسي لافروف لبدء مفاوضات مضنية بوساطة أمريكية واستضافة سعودية للمفاوضات وصولاً لحضور الرئيس الأوكراني زيلنسكي إلى السعودية الأسبوع الماضي.
* كما يبرز نجاح وساطات سلطنة عُمان في استضافة مفاوضات الاتفاق النووي السرية بين وفدين امريكي وإيراني في عمان منذ عام 2012 حول الاتفاق النووي وخلال الأزمة اليمنية مع الحوثيين والإفراج عن رهائن أطقم سفن محتجزين وآخرهم نهاية يناير الماضي، الإفراج عن طواقم بحرية محتجزين لدى الحوثيين إثر هجماتهم في البحر الأحمر. وكذلك نجحت وساطة عُمان بالافراج عن معتقلين أمريكيين في إيران.
ويبرز نجاح وساطات الإمارات والسعودية بتبادل أسرى والإفراج عن مئات الأسرى منذ حرب روسيا على أوكرانيا عام 2022.. أعلنت وزارة الخارجية الإماراتية نجاح وساطتها بالإفراج في 12 عملية وساطة إماراتية عن 2,883 أسيراً بين الطرفين. كما نجحت الوساطات السعودية منذ عام 2022 بالإفراج عن عدد من السجناء بين روسيا وأكرانيا ومواطني دول أخرى.
* أما أبرز نجاح للوساطة السعودية فهو في استضافة الوفدين الروسي والأوكراني بحضور الولايات المتحدة ومناقشة التوصل لهدنة لمدة شهر لوقف حرب أوكرانيا وتبادل الأسرى. وسبق أن تقدم الرئيسان الروسي والأوكراني بالشكر لولي العهد الأمير محمد بن سلمان على دور ووساطة السعودية بين روسيا وأوكرانيا.
وكان لافتا نقل أنور قرقاش مستشار رئيس دولة الإمارات للشؤون الدبلوماسية رسالة من الرئيس ترامب إلى المرشد الأعلى علي خامنئي الأسبوع الماضي بمقترح التفاوض على برنامج إيران النووي. وأكد ترامب، إرسال الرسالة يحثّ على إجراء محادثات نووية، ويحذر من احتمال اللجوء إلى عمل عسكري في حال رفض إيران. وكان الرئيس ترامب في رئاسته الأولى انسحب من الاتفاق النووي الذي وقعه الرئيس أوباما ومجموعة (5+1)-مع إيران عام 2018. ورد المرشد على رسالة ترامب بأنها تهدف لتضليل الرأي العالمي، ولن تؤدي لرفع العقوبات على إيران بل ستزيدها تعقيداً.
* وهكذا يبرز وبشكل واضح دور ومكانة دول مجلس التعاون فرادى وجماعات حرصها على حل الأزمات واتقان دبلوماسية الوساطة وزيادة رصيد قوتنا الناعمة.
في دراسة حديثة عن ترتيب قوة الدول الناعمة: تصدرتها الولايات المتحدة فالصين، وجاء ترتيب الإمارات 10-السعودية 20-قطر 22 والكويت 40. لكن أكرر المطلوب حشد قوانا الناعمة وتوظيفها لتعزيز قوانا الخليجية الجماعية العسكرية-الصلبة بتوازن مطلوب لتفعيل وانضاج مشروع خليجي-عربي جامع يوازن ويتصدى ويردع الخصوم الحاليين والمحتملين.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تويتر @docshayji
@docshyji
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6441
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6390
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3840
| 21 أكتوبر 2025