رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تعد مسألة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وإقرار برنامجها من أهم الموضوعات التي تتطلب حلًا واقعيًا، منذ أن طرح رئيس الجمهورية التونسية الباجي قائد السبسي مبادرته الشهيرة قبل شهر رمضان على بساط البحث والمفاوضات مع مختلف الأحزاب والمنظمات الوطنية (الأعراف- اتحاد الشغل...). فهي محل اهتمام الأوساط الشعبية والسياسية على السواء، نظرًا إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تواجهها البلاد، ليس من باب أهمية الإعلان عن التوافقات حول حكومة الوحدة الوطنية للمساهمة في إخراج البلاد من أزمتها البنيوية العميقة الراهنة فحسب، وإنما أيضًا من أجل رسم إستراتيجية وطنية وخيارات جديدة للمستقبل.
ووسْطَ كلِّ هذه النقاشات الماتونية في قصر قرطاج، أصبح الشعبُ التونسي أكثرَ وعيًا بضرورة إيجاد حلولٍ عاجلة للأَزمات المتفاقمة، لاسيما حل مشكلة البطالة، وإعادة ترتيب المؤسَّسات العملاقة، وإصلاح الأجهزة المصرفيَّة والبنكيَّة، والتوصُّل لأُطرٍ صحيحة لمعالجة مظاهر الرِّشوة، وغسيل الأموال، والضَّرب على أيدي المفسدين لتنقية الأسواق مِن الغلاء، خاصَّةً مع تحرُّك المنظَّمات الحكومية وجهاتِ التَّنمية والتعاون لضبط آليات العرْض والطلب، ووضع أطر تنظيميَّة للشَّركات متعددة الجنسيات، ومنع صُوَر التلاعُب بقوتِ وأرزاقِ البُسطاء مِن عامَّة النَّاس، والاستفادة الإيجابيةِ من ثورة المعلومات الرَّقميَّة، وتكنولوجيا الاتِّصالات والإعلام، لخدمة مقومات التنمية الشَّعبيَّة.
لقد أثبت التاريخ مرارًا وتكرارًا أن حكومة الوحدة الوطنية الجيدة ليست من قبيل الترف، بل هي ضرورة وطنية، لأنه من دون إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في تونس، يتعذر مواجهة التحديات التي تعيشها البلاد، في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والإرهابية. فتونس تعيش اليوم في ظل دولة ضعيفة وفاقدة تماما للهيبة، نظرًا لأن أول رئيس للجمهورية الذي انتخبه الشعب التونسي لكي يقود سفينة الانتقال الديمقراطي نحو بر الأمان، بلغ من العمر عتيًا (90سنة)، وفي مثل هذه السن المتقدم (أطال عمر الرئيس الباجي) من الصعب على أي إنسان أن يقود دولة، ويعيد بناء مؤسساتها في ظل ديمقراطية ناشئة تواجه خطر الإرهاب المستوطن داخليا، والعابر للحدود، وأزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، فللعمر أحكامه.
والحال هذه، هناك أزمة حكم في تونس اليوم، لاسيما في قمة هرم الدولة، فالرئيس الباجي أظهر عجزًا واضحًا في إعادة بناء الدولة الوطنية، وقيادة الجمهورية الثانية، إذ تجاوز الدستور الذي ينص على أن شكل الحكم برلماني أو أقرب منه، بينما حوّل الرئيس النظام رئاسيا، حين جعل من قصر قرطاج المرجعية الأولى. وفضلًا عن ذلك، فإن حضور الرئيس في المشهد السياسي التونسي بات ضعيفًا، الأمر الذي ترك فراغًا بحضوره، ففتح الشهية لوراثته، لاسيما أن الباجي يرغب في توريث ابنه الذي يترأس الآن «حزب نداء تونس»، إنه الوضع نفسه الذي اتسمت به أواخر سنوات حكم بورقيبة، سنوات حرب التوريث.
ثم إن نجاح حكومة الوحدة الوطنية في مجابهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية مرهون بمجابهة الفساد الديكتاتوري، المدعوم من الطبقة الرأسمالية الطفيلية في الداخل، والذي يجد من يدافع عنه من أحزاب الائتلاف الحاكم، بينما تقتضي تحقيق التنمية المستدامة محاربة الفساد جذريًّا، نظرًا لإفراغه المجتمع التونسي مِن مبادئه المتوارثة، لِيَحُلَّ محلَّها تجمعاتٌ شاردةٌ مِن اللِّئام والمرتزقة، مِن وراء الأزمات الاقتصادية، حيثُ يَحصُل الفاسدون على أرباحٍ طائلةٍ على حساب خسائر الطَّبقات الفقيرة، التي تكدح بالعمل في المصانع والمزارع.
ومن المعلوم أنَّه يمكن أن تكونَ هناك عواقبُ معقَّدةٌ لمواجهة الفساد المتضخم في تونس التي تمرُّ بمرحلَة انتقاليةٍ من الحُكم السلطوي إلى الديمقراطيَّة، واقتصاديات السُّوق الحُرَّة، لاسيما في ظل أحزاب الائتلاف الحاكم الباحثة عن تقسيم كعكعة السلطة وفق المحاصصات الحزبية، والتغاضي عن صُوَرِ الأنشطة السِّريَّة للفساد، ما جعل السقوطَ في دوامة الصَّفقات المشبوهة غيرَ قاصرٍ على القطاع العام، بل امتدَّ -بصورٍ غير معهودة- إلى المؤسَّسات الخاصَّة، والبنوك الأجنبية، والشَّركات متعددة الجنسيات، ليفتحَ الباب أمامَ المُقامِرين الجدد من السياسيين المدافعين عن الرأسمالية الطفيلية، وسياساتِ الخصخصة، التسريع ببيع القطاعات العامَّة كفرصةٍ للثراء الفاحش، عن طريق بيع الأصول العامَّة بأسعارٍ زهيدة للأقارب والأصدقاء من الباطن، لتدخلَ أموال الشَّعب في جيوب كبار الفاسدين عبرَ ممارساتٍ غيرِ شريفة تُحاك في الظلام، أدَّت إلى إفلاس الموازنات العامَّة من جهة، وإعادة إنتاج النظام الديكتاتوري الفاسد السابق الذي كافحه الشعب التونسي على مدى أكثر من أربعة عقود من جهةٍ أخرى.
إن نجاح أي حكومة وحدة وطنية في تونس، يحتاج إلى بلورة إستراتيجية وطنية لمعالجة الأزمات الرَّاهنة، وفى مُقدَّمتها: التَّركيزُ على القطاعات الإنتاجيَّة، والتركيز على الزراعة التي تُغذي الصناعات الإستراتيجيَّة، وتعديل مؤسَّسات السياحة ومؤتمراتها، وتنمية الاستثمارات في الولايات الفقيرة والمحرومة تاريخيا من التنمية، وترميم الطُّرق والسِّكك الحديديَّة، والتزام حكومة الوحدة الوطنية بالحوكمة الرشيدة، وتطبيق الشفافية، وترشيد الثروات العامَّة، وتحسين الانتفاع بالقُدرات الذاتية للشعب، وضبط آليات الأسعار وموازين المدفوعات، وجعل السلطات الإدارية أكثرَ خضوعًا للرَّقابة والمحاسبة، لضمان نزاهتها، وحظر الفساد الأجنبيِّ الخارجي في الأسواق الوطنية.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6165
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3741
| 21 أكتوبر 2025