رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ارتكزت العلاقة الخليجية الأمريكية على مدى ثمانية عقود، على معادلة توفير الأمن مقابل الطاقة من نفط وغاز.
هذه الطاقة نفسها باتت اليوم محور خلاف وسجال بين الدول الخليجية الأعضاء في أوبك ومجموعة أوبك بلس بقيادة السعودية وروسيا على خلفية قرار المجموعة الاستباقي والتقني كما تصر أوبك والسعودية، بخفض الانتاج بمليونين برميل نفط يومياً بدءاً من نوفمبر القادم. مما أثار ردود أفعال غاضبة ومستنكرة من الرئيس جو بايدن وقيادات إدارته بوصف القرار بالمسيس وقصير النظر وبالاصطفاف مع روسيا في حربها على أوكرانيا وتوعده بإعادة تقييم العلاقة مع السعودية والتحذير من عواقب خفض انتاج النفط. وطالب بعض النواب بتجميد صفقات الأسلحة وسحب الجنود من السعودية وتفعيل مشروع قانون نوبك. ردت السعودية برفض الإملاءات وأن القرار تقني واقتصادي وغير مسيس ويستجيب لمتطلبات السوق، ومؤكدة أن العلاقة مع أمريكا إستراتيجية. هذا السجال وخطاب التصعيد المستمر لأسبوع غير مسبوق بين حليفين بحدته ولغته، دون ما يشير لتهدئة في الأفق تعيد الأمور إلى مجراها، إلا بعد انتخابات الكونغرس!
خفض انتاج النفط سيقود لارتفاع أسعار الوقود وغلاء السلع ومعها التضخم ما سيعمق الأزمة المالية والغضب الشعبي من الرئيس بايدن وحزبه الديمقراطي. لذلك سيكون لقرار أوبك بلس دور سلبي ضاغط قبل أسابيع من انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في 8 نوفمبر 2022، لتسببه بتعثر خطط الرئيس بايدن، بعد نجاحه خلال الصيف بخفض أسعار الوقود بدولار ونصف للغالون في موسم انتخابات التجديد النصفي الحاسمة للديمقراطيين وللرئيس بايدن في السعي للإبقاء على الأغلبية الضئيلة في الكونغرس ومنع الجمهوريين من انتزاعها حتى يتمكن بايدن من تمرير مشاريع القوانين وأجندته في السنتين المتبقيتين من رئاسته.
واضح أن مقاربة الرئيس الأمريكي وإدارته فشلت في طمأنة وإعادة البوصلة لمسارها الصحيح مع السعودية ومنظمة أوبك وخاصة كبار المنتجين في دول مجلس التعاون الخليجي. يُضاف ذلك للانسحاب الأمريكي المرتبك من أفغانستان وإنقاذ دول مجلس التعاون الخليجي خاصة دولة قطر ما يمكن إنقاذه في إجلاء مائة ألف من الأمريكيين والأفغان وعشرات الجنسيات الأجنبية- وقبلها عدم تحرك إدارة ترامب لدعم إسناد السعودية ودول المجلس بعد الاعتداءات على منشآت أرامكو في ابقيق وخريص في السعودية، وقصف الحوثيين أبوظبي وقاعدة الظفرة التي تحتضن 2000 أمريكي مطلع عام 2022- وسحب إدارة بايدن بطاريات صواريخ باتريوت من السعودية ودول خليجية، ورفع إدارة بايدن تنظيم أنصار الله الحوثيين في اليمن من قائمة المنظمات الإرهابية، والإصرار على المضي في مفاوضات النووي الإيراني دون الأخذ في الاعتبار الهواجس الأمنية المشروعة لدول مجلس التعاون، وما قد تشكله العودة للاتفاق النووي من تهديد لأمن دولنا الخليجية، واخر المظالم الخليجية من الحليف الأمريكي موقفه من قرار مجموعة أوبك بلس خفض انتاج النفط، وشن حملة انتقادات وتهديد ووعيد من الرئيس بايدن وإدارته بالعمل على مراجعة وتقييم للعلاقات الأمريكية - السعودية. وأن دعم السعودية لخفض انتاج أوبك بلس سيكون له عواقب! تفسره إدار بايدن بانه دعم لمجهود بوتين في حرب أوكرانيا! وتلميح إدارة بايدن أنها قد لا تعارض المضي بمشروع قانون "نوبك" (NOOPEC)"لا لكرتيل الأقطار المصدرة للنفط"- والتهديد غير المخالف للقانون الدولي بسبب مساس القانون وتعارضه مع مفهوم- Sovereign Immunity- الحصانة السيادية التي تتمتع بها الدول، ويحمي الدول من رفع دعاوى ومقاضاة الدول الأعضاء في أوبك بلس، وعلى رأسهم السعودية والحلفاء في دول مجلس التعاون وشركاتهم الوطنية حتى روسيا، من المقاضاة في المحاكم الأمريكية بتهم تلاعبهم بالأسعار والعرض والطلب ورفع وخفض الإنتاج للإضرار بمصالح أمريكا ومستهلكيها. وذلك برغم معارضة الإدارات الأمريكية السابقة ولوبي النفط وشركات النفط الأمريكية الكبرى، وذلك لضرره على السوق النفطي الداخلي ولرد الدول النفطية بزيادة وخفض الإنتاج ورفع الأسعار لأمريكا وكما هددت السعودية عام 2019، إذا اعتمد القانون، لمحت ببيع نفطها بعملة غير الدولار- ويمكن مقاضاة الولايات المتحدة لتحكمها بأسعار الطاقة والمنتجات الزراعية وغيرها من دول أوبك بلس. ما يفتح جبهات عديدة، أمريكا في غنى عنها.
المستغرب حملة التصعيد ضد السعودية وصلت لمستويات غير مسبوقة منذ المقاطعة النفطية عام 1973. واصطفت فيها الإدارة والكونغرس بمجلسيه! وتأكيد الرئيس بايدن إعادة تقييم العلاقة مع السعودية، بعد انتخابات الكونغرس. وهدد رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ بوب مننديز بتجميد صفقات الأسلحة للسعودية حتى تراجع السعودية موقفها من خفض انتاج النفط وكرر كفي! وقدم نواب ديمقراطيون من حزب الرئيس بايدن مشروع قانون سحب القوات الأمريكية من السعودية.
لاشك هذه المواقف المستفزة تعمق غياب الثقة وتزيد من الخلافات وتؤكد مخاوف الحلفاء الخليجيين بأن أمريكا لم تعد حليفاً موثوقاً يعول عليه بسبب الانكفاء والتراجع والمناكفات التي لا مكان لها بين الحلفاء- ما يعزز التوجه الخليجي بتنوع الحلفاء من القوى الكبرى.
لكن الواقعية السياسية والبراغماتية السياسية لا يوجد حليف يملك القدرات والامكانيات والحضور والقواعد العسكرية وأنظمة الأسلحة ونوعيتها التي تشكل العمود الفقري لأنظمة التسلح العسكرية لدول مجلس التعاون الخليجي سوى الحليف الأمريكي، حتى المستقبل المنظور،.
برغم زيارة الرئيس بايدن للسعودية قبل شهرين ولقائه مع القيادة السعودية وقادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن ومناقشة قضايا أمنية وسياسية واقتصادية، إلا أن أزمة الثقة بين دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية، والولايات المتحدة الأمريكية مستمرة، ولم يُصحح مسار العلاقات وننخرط بإجراءات بناء الثقة لمستوى يطمئن الطرفين. بل تزعزع المواجهات والتصعيد من بايدن وإدارته الثقة، ولا تخدم مصالح الطرفين وأمن واستقرار منطقة الخليج العربي. بل بالعكس تخدم مصالح وأجندة خصوم أمريكا ودولنا الخليجية!.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تويتر @docshayji
@docshyji
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6300
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3795
| 21 أكتوبر 2025